بعد قصة حب استمرت سبع سنوات، قرر محمد علي (36 عاماً) الذي يعمل في مجال الإعلام ومروى (30 عاماً) مهندسة، الزواج. عاش الزوجان معاً لمدة لا تزيد عن الشهر قبل أن تحصل مروى على فرصة عمل في العاصمة الفرنسية باريس بعد حصولها على وظيفة هناك براتب مغري. عندها كان عليهما اتخاذ القرار الصعب. بالنسبة لمحمد ترك عمله في مجال الإعلام في إذاعة “موازييك إف إم” الخاصة في تونس لم يكن خياراً، فهو شغوف بهذا المجال منذ الصغر، كما أن التحديات الاقتصادية والمتطلبات المالية تتطلب عمل الزوجين، وقرر الزوجان اتخاذ القرار بالفراق المؤقت. كان ذلك قبل ثلاث سنوات، ولا يزال الوضع على ما هو عليه. “الطموح المهني ورغبتنا في حياة أفضل ومستقبل أكثر أمانا لأبناءنا دفعنا للقيام بتضحيات كبيرة على حساب حبنا ورغبتنا في العيش سويا،” يقول محمد ويتابع :”كان اتفاقي مع زوجتي في بداية الأمر أن تعمل لمدة قصيرة في باريس، وتكتسب بعض الخبرة ثم تعود لنعيش سوياً في تونس، لكن بعد ذلك تراجعت فكرتنا تدريجياً لا سيما بعد قدوم ابننا الصغير إسماعيل، حيث أن العيش في باريس له العديد من الايجابيات من ناحية جودة التعليم ومناخ التربية والصحة وجودة الحياة بشكل عام.”
قصة محمد ومروى تشبه قصص الكثير من الازواج في تونس، والتي تأتي بالمرتبة الثانية عربياً في هجرة الأدمغة (بعد سوريا)، حيث كشفت احصائيات لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية أن عدد المهاجرين من الكفاءات العلمية التونسية بلغ أكثر من 94 ألف شخص. ومثلت العوامل المادية والاقتصادية الدافع الرئيسي لهجرة الكفاءات بنسبة 55٪ من المستجوبين الذين تتراوح أعمارهم بين 25 إلى 45 سنة، بحسب استبيان مركز تونس للبحوث الاستراتيجية والدراسية.
Videos by VICE
وفي الوقت الذي يحتفل فيه التونسيون (14 يناير) بالذكرى السابعة لثورة الياسمين والتي كانت من أبرز مطالبها التشغيل والتنمية والعدالة الاجتماعية، لا تزال الاحتجاجات في صفوف الشباب قائمة حول ذات المطالب ولا يزال نزيف الهجرة إلى الخارج من هذه الشريحة شباباً وشابات وحتى المتزوجين منهم، متواصلا بحثا عن حياة أفضل في بلد بلغت فيه نسبة البطالة 15.3% مع حوالي 625 ألف عاطل، من مجموع عدد السكان البالغ 10 ملايين نسمة. ويبدو أن الأوضاع الاقتصادية المتردية في تونس لم تتغير كثيراً منذ عهد الرئيس السابق بن علي، بل تشير بعض الدراسات الى أنها زادت سوءاً، مما فتح الباب على مصراعيه للشباب للبحث عن بدائل في الخارج حتى وإن كلفتهم تلك التجربة تضحيات كالبعد عن العائلة والأبناء من أجل كسب لقمة العيش ومستقبل أفضل لابنائهم.
ابني إسماعيل لم يكبر أمام عيني ولم أستمتع بلحظات نموه حين كان يحبو أو حين مشى أولى خطواته أو حين نطق كلمة بابا وماما
محمد ومروى يعلمان حجم هذه التضحية. “التضحية لابد منها رغم الثمن الغالي الذي أدفعه، ابني إسماعيل لم يكبر أمام عيني ولم أستمتع بلحظات نموه حين كان يحبو أو حين مشى أولى خطواته أو حين نطق كلمة بابا وماما لكن ما يهون علي كل ذلك هو حين أجد أنه يعيش حياة مميزة ومحاط بأم رائعة تقوم بكل الأدوار وتعطيه حناناً مضاعفاً،” يتحدث محمد عن ابنه الذي لم يتجاوز سن الثلاث سنوات. ويروي بتأثر حادثة حصلت معه خلال زيارة ابنه وزوجته له من باريس لقضاء إحدى العطل في تونس، حيث ترك ابنه آثار يديه الملطخة بقطعة شوكولاتة على أحد أبواب البيت، وأصر محمد أن لا يمسح تلك الآثار لتذكره بابنه في البيت لكن حدث أن قامت منظفة المنزل بمسح الجدار ليجن جنونه حينها.
محمد وزوجته مروى، يزوران بعضهم البعض بشكل دوري مرة أو مرتين في الشهر، ولا يخفي أنه أحياناً يشعر بلحظات ضعف ورغبة في إنهاء معاناة البعد ولم الشمل، لكنه يعود ويفكر في مصلحة ابنه ومستقبله الأفضل. ويشدد على أن البعد لا يطفئ شعلة الحب الموجودة بينه وبين زوجته، لكنه لم يخف أثر الفراق على العلاقة الزوجية نفسها ومرور العلاقة بحالات من التصادم واختلاف في وجهات النظر. ولكنه في ذات الوقت يقر بلهجة واثقة :”أنا فخور بزوجتي مروى جداً، وأعتبرها أفضل مني لأنها قامت بمسؤوليتها وأكثر على أكمل وجه، لكن ستظل في نفسي عقدة ذنب تجاه ابني لأني لم أعطه من حنان الأب ورعايته.” ولا يخفي محمد أن فكرة الاستقرار في باريس تراوده دائما في سبيل إنهاء حالة البعد وإعادة لم الشمل مع زوجته وابنه.
علي بوشناق، 33 عاماً، لم يمض على زواجه أكثر من سنة، لكن طبيعة عمله في مجال البترول وما تقتضيه من التنقل إلى أقصى الصحراء أو في البحر جعلته يتعود على البعد عن زوجته بشكل شبه أسبوعي. “في البداية، كنت أرفض بشدة فكرة أن أتزوج وأترك زوجتي بمفردها طيلة الوقت، لكن بعد الزواج والمسؤوليات المنوطة بعهدتي، وجدت نفسي مجبراً على تبني خيارات على مضض حتى أحافظ على مستوى عيش محترم.”
علي، يحدثنا من المغرب بسبب مهمة كلف بها في عمله، يقول: “زوجتي متفهمة لطبيعة عملي سواء في تونس أو خارجها وتعلم أن التضحية لمصلحتنا في سبيل مستقبلنا ومستقبل أولادنا القادمين ونحن على تواصل دائم عبر سكايب أو فيسبوك والحب الذي يجمعنا لم ينقص بل زاد.”
يرى طارق بلحاج محمد المختص في علم الاجتماع، والباحث في المركز الدولي لتكوين المكونين والتجديد البيداغوجي، أن البعد بين الأزواج ظاهرة موجودة في تونس منذ عشرات السنين وليست حكراً على طبقة اجتماعية أو ثقافية معينة. ويؤكد في حديثه عن غياب مفهوم الزواج الآمن في عصرنا الحالي، حيث أصبح حسب قوله: “تجربة محفوفة بالمخاطر، يخيم عليها كابوس الفشل وتغلب عليها مشاعر الأنانية والرغبة في تحقيق المصلحة الشخصية والطموحات الذاتية على حساب مؤسسة الزواج ذاتها.” ويتابع:” نجد طيفا كبيراً من الأزواج، يتورطون في مغامرة البعد لاعتبارات أغلبها اقتصادية، ثم يجدون أنفسهم عاجزين عن إدارة هذه الوضعية بنجاح.”
كانت كل أعين عائلته منصبة حول مراقبة تصرفاتي وكان دخولي وخروجي من منزل والدي زوجي مرهونا بالمشورة، حيث كانت حماتي تطلب مني أن أهاتف زوجي كلما أردت الخروج حتى لزيارة بيت والدتي
وسائل التواصل الاجتماعي تساعد في التخفيف من البعد بين الأزواج، حيث يضطر الكثيرين الى استخدام سكايب، او الماسنجر وغيره من التطبيقات للتواصل بشكل دائم. “من سخرية القدر أنني تعرفت على ياسين سنة 2001 عبر وسائل التواصل الاجتماعي حين كان بعضها يعتمد فقط على المحادثات الكتابية عبر برامج التشات، وبعد نحو عشر سنوات زواج، بقينا نتواصل عبر وسائل التواصل المستحدثة،” تقول سيرين الفيتوري (33 عاماً)، أستاذة جامعية في مجال الرياضيات، تعيش منذ عشر سنوات كاملة حالة من الفراق شبه الدائم مع زوجها الناشط السياسي ياسين العياري (36 عاماً) بحكم ظروف العمل وبحكم نشاط زوجها الشاب المعارض الذي مُنع من العودة إلى تونس في عهد الرئيس التونسي السابق بن علي ومنع أيضاً من العودة إلى تونس بعد الثورة بسبب أحكام قضائية ضده يعتبرها كيدية وظالمة من القضاء العسكري في البلاد. “الصوت والصورة عبر هذه التطبيقات تقرب المسافات بيننا وتهون مرارة البعد.”
ولا تخفي سيرين أنها تشعر أحيانا بالضعف والانهزام والرغبة في إنهاء هذه الوضعية الصعبة وحتى اتخاذ قرار الطلاق خاصة في ظل تحملها لمسؤولية تربية طفلين (8 سنوات وسنة) لكنها كل مرة تقوم وتغالب ضعفها بسبب ما أسمته بالحب الذي تكنه لزوجها ويجعلها تقبل التضحية والصبر. وتصارحني سيرين بأن البعد بين الأزواج ليس دائما سيئاً من وجهة نظرها وتضيف: “حلاوة اللقاء بعد البعد والشوق لفترة ما يجعل للحياة الزوجية معنى وطعم آخر ويجدد في كل مرة مشاعر الحب كأننا نعيشها أول مرة ولو عاد بي الزمن للوراء لاخترت نفس الشخص وتحملت نفس الأعباء.”
لا ترى حياة بن فرح (26 عاماً) أن حلاوة اللقاء التي تتحدث عنها سيرين تتطلب هذه التضحية. حياة، ربة منزل، تزوجت منذ سنتين من ابن عمها صلاح -33 عاماً. وتروي حياة بأسف كيف أنها لم تعش شهر العسل مع زوجها تحت سقف واحد حيث اضطر لأخذ عطلة لمدة أسبوعين من عمله بإحدى المخابز بمدينة ميلانو والعودة لتونس للزواج ثم السفر بعدها، وبحكم الظروف الصعبة هناك لم تتمكن من الالتحاق به، حيث أنه يعيش في “ستوديو” صغير في أحد الأحياء الشعبية في ميلانو برفقة صديقين آخرين نظرا للظروف المالية الصعبة وغلاء أسعار إيجار الشقق هناك.
وتضيف:” كانت كل أعين عائلته منصبة حول مراقبة تصرفاتي وكان دخولي وخروجي من منزل والدي زوجي مرهونا بالمشورة، حيث كانت حماتي تطلب مني أن أهاتف زوجي كلما أردت الخروج حتى لزيارة بيت والدتي وأن أخفف من الزيارات وأقلل من الماكياج والزينة وألبس ملابس محتشمة في غياب زوجي حفاظاً على سمعة العائلة.”
ينغمس الشريك بمرور الوقت في الإشباع العاطفي الافتراضي لتعويض ذلك الذي كان من المفروض أن يجمع الزوجين على أرض الواقع
ولاتخفي حياة حب زوجها الشديد لها والذي وصل أحياناً حد الشك رغم عيشها في بيت والدته، حيث يتصل بها أكثر من أربع مرات في اليوم من إيطاليا سواء عن طريق الماسنجر أو الفايبر ليعرف كل تحركاتها بشكل يومي. وتقول بشكل ساخر :” كلما اقترب موعد عودة زوجي من إيطاليا خلال العطل كان لابد لي لزاما أن أربطه بما بعد تاريخ العادة الشهرية في إطار حرصي على الحفاظ على العلاقة الزوجية والحياة الجنسية بيننا خصوصا أنه لايبقى كثيراً هنا في تونس.” وتتابع في الإطار ذاته بشكل خجول أن العلاقة الجنسية والعاطفية بينها وبينه تتواصل حتى عبر الهاتف أو ماسنجر حيث يعيشان لحظات من النشوة الافتراضية بانتظار حلاوة اللقاء الجسدي وفق قولها.
ويرى الأستاذ طارق، أن بعد الزوجين عن بعضهما لفترات واقتصار اللقاءات على مناسبات محدودة في السنة، ينتج عنه في العديد من الحالات، الإحساس بالملل والفراغ والقلق والإحساس بالوحدة، ويقع تعويض كل ذلك بالمشاعر الافتراضية عبر وسائل التواصل الإجتماعي، ويحذر في ذات الوقت قائلا: “ينغمس الشريك بمرور الوقت في الإشباع العاطفي الافتراضي لتعويض ذلك الذي كان من المفروض أن يجمع الزوجين على أرض الواقع. لكن الخوف أن يتعود كليهما على ذلك الوضع ويصبح اللقاء الحقيقي حدثاً غير مهم.”
الصور مقدمة من الازواج انفسهم.