يُسمّونها بسيدةِ التصوف الانسانيّ المُتصالح مع السماء وخالقها، تترك ضوء الإيمان يشّع باعماقِ أرواحهم المُتعبة لتطهيرها من الكراهيّة، ويؤكدون أن من تذوقها عرَف درب الفناء في عشق الرب. أتحدث عن الطريقة العَلِيّة القادِريّة الكَسْنَزانِيّة التي تعتبر واحدة من أكبر الطرق الصوفية في العالم.
عُرفت هذه الطريقة بهذا الاسم نسبةً إلى ثلاثة من كبار أعلام التصوف وهم الإمام علي بن أبي طالب، ابن عم الرسول محمد، والشيخ عبد القادر الكيلاني، أحد مؤسسي الصوفية، والشيخ عبد الكريم شاه الكَسْنَزان، وهو أول من ثبت أركان الطريقة الكسنزانية. لقب “شاه الكَسْنَزان” يعني “سلطان الغيب” أو الغائب الذي لا يعرفون عنه شيئًا، وذلك بسبب اعتزال الشيخ عبد الكريم الأول وانقطاعه عن أهله طوال سنين.
Videos by VICE
والطريقة الكَسْنَزانِيّة (كما تُعرَف اختصاراً) تضم سلسلة مشايخ مستمرة غير منقطعة تبدأ من الرسول محمد، إلى شيخ الطريقة الحاضر السيد الشيخ شمس الدين محمد نهرو الكسنزان الحسيني، حيث يستلم كل شيخ مشيخة الطريقة يداً بيد من الشيخ الذي سبقه.
**تأريخيّة وموروث متجذر
**عضو المجلس الثقافي الكسنزاني، الباحث نوري جاسم، تتبع جذور الطريقة وامتداداتها العقائديّة وطقوسها الروحية، مُعتبراً إن أولى لبناتِ هذه الطريقة بدأت من الرسول محمد الذي أورث علومه الروحية إلى أستاذ الطريقة من بعده الإمام علي، لتتفرع منه إلى أولاده في السلسلة الذهبية الإمام الحسين، ثم مشايخ التصوف، المتمثلين بالمتصوف الحسن البصري ومعروف الكرخي وعبد القادر الكيلاني والسيد الشيخ عبد الكريم شاه الكسنزان والسلطان محمد المحمد الكسنزان، حتى وصلت بعد كل هذه السنوات إلى الشيخ شمس الدين محمد نهرو الكسنزان، رئيس الطريقة العلية القادرية الكسنزانية في العالم.
ويبلغ عدد المريدين بحسب جاسم، أكثر من ٢٠٠ مليون شخص، ينتشرون في جميع بقاع الأرض، لكن المقر الرئيسي للطريقة في العراق، وتحديداً في السليمانية، كوردستان العراق، حيث يقع مقر رئاسة الطريقة الكسنزانية، ومرقد السلطان الخليفة محمد المحمد الكسنزان الحسيني، والذي يزوره المريدين من مختلف دول العالم سنويًا.
ويرفض جاسم أن يطلق على هذه المجموعة عبارة “طائفة كسنزانية” أو مذهب بل وحسب قوله: “إنها طريقة وليست طائفة، نحن مريدين صوفيين. أتباع هذه الطريقة هم مسلمين من مختلف المذاهب، لكنهم يهتمون بالجانب الروحي في الإنسان لكونه الأساس في بناء الإيمان.”
ويضيف خلال حديثه لـ VICE عربية أن الطريقة تعني الطريق إلى الله، ويضيف: “أن الطريق الصوفي الكسنزاني، يجمع بين لذة حسن الضمير وألم مخالفة هوى النفس. الطريقة، أي الطريق المستقيم، طريق الحق والسلام ونبذ العنف والقتل لأي كائن حي في الأرض.”
ولعل أبرز ما يُميّز معتنقيّ الطريقة هو الانصهار الروحيّ بالماديات الروحية والغيبية، حيث يحافظ مريدي الطريقة الكسنزانية على طقوسهم الدينية بشكل ثابت منذ مئات السنين، دون تغيير. إحدى أهم طقوس الطريقة الكسنزانية هي ذكر الله والتسبيح له، عن طريق حلقات الذكر والمديح، وهي نوع من أنواع المناجاة الصوفية، والتي تعتمد على الأناشيد الدينية الروحية مذُكرة الانسان دائما بضرورة تصفية قلبه وجعله خالصًا للرب وحده.
حلقات الذكر
تكون حلقات السماع والإنشاد الروحي مصحوبة بالدفوف وخلال هذه الحلقات يقوم المريدين بترديد الأذكار وبصوت واحد ابتداءً من (استغفر الله دائم استغفر الله، يا حي أنت الحي ليس الباقي إلا حي)، وكلها كلمات وأذكار تسبح الله في أجواء روحية تجعل المريدين منفصلين عن العالم.
تبدأ رؤوس الحاضرين بالتحرك والتمايل على صوت المنشد مرددين بصوت واحد (لا إله إلا الله، الله الله) ويتم سحب الرأس من منطقة أسفل الحجاب الحاجز للبطن، والتي تعرف عند أصحاب الطريقة بمنطقة (سر الأسرار) ثم رفع الرأس حتى يصل إلى الكتف الأيمن، ومن ثم النزول به يساراً نحو القلب. هذه الحركة تشبه ضرب المطرقة على الصخر، “والغاية منها هنا هي طرق القلب الذي قسى بعد أن طغى على جوانبه الغفلة عن ذكر الله،” كما يشير جاسم.
ويضيف: “حركة الجسم في الذِكر تعني أن الجسم كله يشارك في التسبيح، وتشارك النساء من الطريقة الكسنزانية هذه الشعائر بشكل منفصل عن الرجال، اذ ينشغل الجميع بتأدية طقوس المديح والذكر بطريقة إغماض العين والانغماس في اللذات الروحية.”
وحول آلية اقامة التحضيرات الجماعية، يجتمع المريدين في مكان واحد يدعى “التكّية” ويكون مشابها للمسجد، ويمكن للجميع دخوله دون استثناء، كما تقام جلسات مديح خاصة بالنساء بوجود منشدات وعازفات على الدفوف.
ويبين أستاذ التاريخ رضا الحبوبي، رئيس قسم البحوث التاريخية، والمجلة العلمية في كلية السلام الجامعة في بغداد، وهو أحد مريدي الطريقة لـ VICE عربية: “إن طقوس المديح تحدث في يومي الخميس والاثنين لما لهذه الليالي من أهمية كبيرة بالنسبة لمريدي الطريقة، بما يتناسب مع تفضيل النبي صيام يومَي الاثنين والخميس، لأن أعمال العباد تُعرَض على الله في هذين اليومَين.”
ويوضح الخليفة صباح محمد، وهو أحد خلفاء الطريقة القادرية، عدد المناصب في الطريقة الكسنزانية، بدء من (الشيخ) ثم هناك الوكيل العام بعد ذلك يوجد الخلفاء والخليفات وهم حسب قوله، مريدون تم منحهم إجازة لفتح وإدارة “التكية” وثم هناك رتبة إسمها “المرشد” والمرشدون هم من يخرجون خارج التكية ويعملون على إرشاد الناس إلى دور الذِكر، وللنساء كذلك، الأدوار نفسها.
التقيت محمد في بغداد في داخل أحد التكّايا” -التكية اسم يطلق على بيوت الذكر الخاصة بمريدي الطريقة الكسنزانية، حيث تقام طقوس الذكر. وأصل لقب الخليفة من قوله تعالى (إني جاعل في الأرض خليفة) وقوله تعالى (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض)، وحصل محمد نيل لقب الخليفة، من شيخ الطريقة، بعد سنوات من المضي في الطريق الصوفي السليم، كما يؤكد.
لقب الشيخ، بالنسبة لشيخ الطريقة لم يطلق على أحد غير السيد الشيخ محمد المحمد الكسنزان، وهو شيخ الطريقة الكسنزانية، أما لقب الخليفة بالنسبة لمريدي الطريقة فهو منصب تكليفي من الشيخ ليكون وكيله في أي مكان في العالم لإعطاء البيعة وخدمة المريدين الجدد في تعليمهم أوامر ومنهج الطريقة على ضوء الشريعة الإسلامية المتمثلة بالقرآن، وأقوال وأفعال وأحوال حضرة الرسول ومشايخ الطريقة. محمد أب لثلاثة أبناء، جميعهم مع زوجته يتبعون الطريقة الكسنزانية، ويحضرون كل اثنين وخميس إلى التكية من أجل مراسيم الذكر، وتنال زوجته لقب “الخليفة” وتؤدي مهام الخليفة مع زوجها، للنساء المريدات.
وتعطي الطريقة الكسنزانية للمرأة حقها في “الخلافة” ونيل المناصب الدينية والاجتماعية، ويكاد يكون هذا الأمر شبه معدوم عند المذهبين السني والشيعي، فلا تلزم المرأة منصب “شيخ” أو الإمامة باستثناء “الملاية” والتي يكون دورها هو النصح الديني ونقل المواعظ، لكن الخليفة المرأة في الطريقة الكسنزانية لها دور أهم.
ويكمل محمد قائلاً: “مهمة المرشدين هي استقطاب أكبر عدد من الناس لاتباع الطريقة وتخليص العالم من الشرور.” وعن طريقة دخول الشخص إلى عالم الكسنزانية فيقول: “نحن نسميها البيعة، وهي اللمسة الروحية التي تؤخذ عن طريق المصافحة حيث يضع المريد يده بيد الشيخ أو أحد الخلفاء ويردد سند التلقين وعن طريق هذه اللمسة وترديد ألفاظ المبايعة ترتبط روح المريد بروح الشيخ الذي يسبقه وهكذا عبر حلقة الاتصال الروحي بين سلسلة مشايخ الطريقة حتى تصل إلى الرسول، فتكون المبايعة بمثابة معاهدةً للرسول.”
وهو منشغل بفردِ شعره أثناء الحديث فيما يقوم بتعديل عقاله العربي، يتحدث الخليفة محمد عن أهمية طول الشعر في الطريقة الكسنزانية لدى الرجال، إذ يعتبر طوله مقدسا جداً وأسباب اطالته لكون أن النبي محمد كان يطيل شعره، وكذلك أحفاده الحسن والحسين والصحابة، ويقول: “هذا الشعر هو نور في القبر بعد وفاتنا، لقد كان شعري طويلاً جداً لكنني اضطرت وبعد ظرف عصيّ على قصه، والاحتفاظ به لما بعد وفاتي، عدت اليوم لاطالة شعري لأنه الشيء الوحيد الذي سيبقى منا في القبر وسيجعل قبورنا مليئة بالنور.”
طقوس “خارقة” للجسد البشري
ومن طقوس العلية القادرية الكسنزانية الأخرى والتي يتبعها ملايين الأشخاص حول العالم ويزورون السليمانية لكونها مسقط رأس الطريقة، هناك طقوس “خارقة” للجسد البشري ومنها تناول الزجاج وإدخال السكاكين في مناطق حساسة من الجسد والرأس، ومسك الأفعى وعض اللسان بسمها، وابتلاع أمواس الحلاقة، وأيضا الضرب بالمطرقة والخنجر على أجزاء شديدة الحساسية في الرأس.
هذه “الطقوس” بحسب أستاذ علم التصوف الدكتور عادل علاوي في كلية السلام الجامعة، قسم الدراسات الاسلامية وحوار الأديان والحضارات، وهو أحد مريدي الطريقة “هي نوع من الكرامات والهبات المقدمة من الرب والشيخ لتحصين اتباع الطريقة.” ويضيف: “كل فترة من الزمن يحتاج البشر إلى نوع من المعجزات ليتمكنوا من الشعور بالإيمان الحقيقي، ولهذا السبب جلب الأنبياء معجزات تناسب أزمانهم. في الزمن الحالي يؤمن الجميع أن وخزة الابرة في الرأس قد تصيبه بالشلل الدائم، لكن أتباع الطريقة القادرية قادرين على إحداث ثقب في الرأس دون إحداث ضرر لهم.”
ويضيف أن هذه الطقوس والممارسات تجلب نوعًا بسيطًا من الألم لفاعليها، لكنها لا تؤدي بهم إلى الهلاك وتهدف فقط للتدليل على صدق الطريقة القادرية الكسنزانية. ويقول: “جميع المريدين قادرين فعل هذه الممارسات بسهولة بالغة، نساء كانوا أم صغاراً أو رجالاً -أي أنهل بيسن حصراً على الرجال -لكن الرجال فقط يقومون بذلك خلال هذه المناسبات بهدف إثبات الكرامات.”
ويشرح علاوي أنه حينمّا يكون الجسد خارج الكون ومفصولاً عن هذا العالم، سيشعر المُريد ببعض الألم الصغير وسيخرج دم قليل منه “لنثبت من خلاله أن ما نفعله ليس سحراً أو شعوذة، لكن الجرح سيلتئم بعد يوم أو يومين لا أكثر،” مُعتبراً أن ما يفعلونه ليس لأجل الاستعراض بل لدعوة الناس إلى الإيمان بالله “لأن الطريقة تريد اثباتاً للعالم أن اتباعها قادرين على فعل المستحيل بسبب إيمانهم بالله وكثرة تسبيحهم له.”
ويسترسل بحديثه لـ VICE عربية: “القوة الروحية الموجودة في الطريقة الكسنـزانية هي قوة مطلقة مستمدة من الرب، ما نفعله ليس بدعًا أو خرافات وضلالة كما يشيع البعض، بل كرامات من الرب، ذلك أن المريد “الكسنزاني” يستطيع إدخال سيخ طويل من الحديد في بطنه دون أن يصرخ ولو للحظة واحدة وفي أجواء يتخللها الذكر وتكرار التسبيح لمئات المرات، ثم يقوم بإخراج السيخ من نقطة حساسة في جسده فتخرج بضعة قطرات منه ويعود إلى منزله، وكأن شيئاً لم يحدث لأن القدرة الآلهية قادرة على حمايتهم.”
ليس هنالك أي دليل علمي على “سبب هذه القوة لدى المريدين” ولكني شاهدت بعيني بعض الآثار على أجسادهم في مناطق حساسة من الجسم، منها آثار ضربات قريبة من القلب، والقفص الصدري. لكن هؤلاء المريدين أكدوا لي، أنهم يشعرون بالألم عند ادخال الادوات الحديدية كالسيخ أو تناول الزجاج لكننهم سرعان ما يتعافون. “الشعور بالوجع ضروري، خروج الدم ضروري، فهذا ما يفرقه عن السحر،” حسب قولهم.
ويرى أتباع هذه الطريقة أن خوارق الشفاء في الطريقة هي الامتداد الطبيعي لمعجزات الأنبياء والرسل وتسمى كرامات الأولياء، كل ما يقوم به المريدون من فعاليات الطريقة أمر خارق للعادة يتحدى العلم والعلماء فهي تتم بأمر الله وحده، ولذلك أجاز الشيوخ المأذونين من قبل الله ورسوله، مريديهم بإظهار هذه “الخوارق” للبرهنة على “صدق الطريقة الكسنزانية” تحدياً لكل مشكك بهم، إذ يقومون بهذه الممارسات بناء على إيمان خالص، مؤمنين أن الرب والنبي والأولياء سيقومون بحمايتهم عند أداء هذه الممارسات، فيمنحوهم معجزة الشفاء مهما كانت الضربات خطرة.
تعرضت الكسنزانية للتكفير والاضطهاد منذ مئات السنين، وتعرضوا للكثير من الرفض والإقصاء وصلت الى حد اضطهاد الحركة ومنع مريديها من ممارسة شعائرهم، كما تم تكفيرهم وهدر دمهم من بعض مشايخ السنة والشيعة المتشددين. الحكومات المتعاقبة على حكم العراق لم تقم بإعطاء المجال للمدارس الصوفية أو تمكينها في العراق مما سهل استهدافهم وانزوائهم في المقابل. تم تصفية الكثير من الصوفيين الكسنزانيين في مختلف مدن العراق بعد حرب عام ٢٠٠٣ وتحديداً في الحرب الأهلية عامي ٢٠٠٦-٢٠٠٧ بحجة “خروجهم عن الدين الإسلامي.”
ويشير الباحث جاسم: “لقد خسرنا الكثير من مريدينا بهجمات إرهابية بسبب انتمائهم وعقيدتهم، خلال حكم تنظيم الدولة الإسلامي، تم وضع مريدي الكسنزانية بمرتبة أبناء الديانات الأخرى، وتم اعتبارهم مهرطقين وكفرة.”
ويشير جاسم إلى أن الشعر الطويل تحول لشبهة وجعل الكسنزانين لفترة من الوقت معرضين للخطر، لكنهم ما زالوا يواجهون نظرات الاستغراب والسخرية والتشويه بالمحبة والمودة والرحمة: “طريقتنا هي دعوة للإصلاح الروحي والتخلص من أمراض الروح، كالكذب والغش، وأكل أموال الحرام. ديننا دين المحبة والرحمة والسلام، لهذا ننبذ كل أشكال التفرقة والعنصرية والطائفية والمذهبية. خيمتنا خيمة الإنسانية والرحمة التي تضم الجميع تحت جناحها.”