تحتفل القاهرة في الفترة من 23 يناير إلى 5 فبراير باليوبيل الذهبي لواحد من أعرق منصاتها الثقافية، وهو معرضها الدولي للكتاب الذي انطلقت أولى دوراته في العام 1969 على يد الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة المصري آنذاك، والدكتورة سهير القلماوي التي كانت تشغل منصب المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، والتي صارت لاحقًا الهيئة العامة المصرية للكتاب، وهي المؤسسة المسؤولة عن المعرض منذ ذلك الين وحتى دورته الحالية برئاسة هيثم الحاج علي.
وقد اختار المعرض في يوبيله الذهبي تكريم كل من القلماوي وعكاشة احتفاء بدورهما في تأسيسه. كما اختار جامعة الدول العربية كضيف شرف، وهي المرة الأولى التي تحظى مؤسسة دولية بهذا الدور الذي عادة ما كان يذهب إلى دول. بيد أن السمة الأبرز للمعرض الدولي في عيده الخمسين هو انتقال مقره من أرض المعارض بحي مدينة نصر شمال شرق العاصمة المصرية الذي انتقل اليها المعرض في دورته السادسة عام 1984 إلى مركز مصر للمعارض الدولية الذي انشئ حديثًا أواخر العام 2017 على مساحة 311 الف متر مربع بمنطقة القاهرة الجديدة.
Videos by VICE
تبلغ المساحة الجديدة لمعرض الكتاب 45 ألف متر مربع وتضم نحو 723 جناحًا بمشاركة 1273 دار نشر من 35 دولة عربية وأجنبية من بينها 85 دار نشر مصرية وعربية وأجنبية تشارك لأول مرة. التخطيط الجديد للمعرض سمح بتوسعات في البرامج الثقافية والفنية، من عروض سينما ومسرح وحفلات توقيع الكتب واحتفاليات فنية وفعاليات خاصة للأطفال، وإن كانت في السابق مدرجة على جدول فعاليات المعرض إلا أنها هذا العام حظيت بالتواجد في قاعات مخصصة داخل مباني مجهزة بالخدمات التي منحت معرض الكتاب رونقًا لم يحظ به في السابق، بمشاركة نحو 2800 ضيف للمشاركة في فعاليات المعرض الثقافية.
وأثيرت قبل بداية المعرض ومنذ الإعلان عن انتقاله إلى مقره الجديد الكثير من المخاوف في وسائل الإعلام وعلى منصات التواصل الإجتماعي تتعلق ببعد المسافة عن وسط القاهرة مقارنة بموقعه السابق، إلا أن إحصائات أعداد زوار المعرض، بحسب هيثم الحاج علي رئيس الهيئة العامة للكتاب، تشير إلى عدم تأثرها ببعد المسافة حيث تجاوز إجمالي عدد الزوار في الأيام الخمس الأولى للمعرض المليون زائر، وربما يرجع ذلك إلى خطوط النقل العام المخصصة لنقل الجمهور للمعرض من مناطق مختلفة في أنحاء القاهرة، ما سهل على الجمهور الذي يعتبر أيام معرض الكتاب بمثابة احتفالية سنوية مواصلة عادتهم في زيارته فضلًا عن تحسين الخدمات المقدمة للمواطنين المتمثلة في المساحات الخضراء والمطاعم ومناطق ترفيهة مخصصة للأطفال، فضلًا عن قاعات العروض السينمائية والمسرحية والموسيقية.
ويسري انطباع عام ايجابي بين ضيوف المعرض من الناشرين والجمهور حول التحسن الكبير في الخدمات والتنظيم وتصميم أجنحة عرض الكتب، بيد أن ارتفاع أسعار الكتب والمغالاة في التأمين وكذلك ارتفاع رسوم تأجير أجنحة العرض، ربما كانت الشكاوى الأبرز وإن لم تطغ على اجماع بأن أوجه التطور في معرض القاهرة الدولي للكتاب في عيده الخمسين شكلًا وموضوعًا فاقت التوقعات، ودفعت بالمحفل السنوي الأعرق في المنطقة إلى منافسة نظرائه في اتباع المقاييس الدولية في تنظيم المعارض.
ارتفاع تكلفة العرض
الناشر صلاح التلاوي، صاحب دار الأيام للطباعة والنشر بالأردن، والتي تحتل جناحًا على مساحة 27 مترًا بالتشارك مع اتحاد الناشريين الأردنيين الذي يمثل 9 دور نشر أردنية، يرى أنه لا وجه للمقارنة بين الدورات السابقة للمعرض الذي اعتاد المشاركة فيه وبين العام الحالي “معرض القاهرة هذا العام أكثر تنظيمًا ورونقًا حيث جميع الخدمات التي يحتاجها الناشر أو الزائر متوافرة. “هناك فارق شاسع لصالح النسخة الجديدة وهي أفضل بكل المعايير”، يقول التلاوي، لكنه يرى أن ارتفاع رسوم إيجار الأجنحة بشكل عام وبالنسبة للناشر العربي على وجه الخصوص الذي يضطر لدفع ثلاثة أضعاف ما يدفع الناشر المصري أمر غير مبرر برأيه ولا يضر سوى القراء.
“الناشر العربي يدفع ثلاثة أضعاف رسوم الناشر المصري والتي تبلغ قيمتها 200 دولار للمتر الواحد تنخفض إلى 160 دولار إذا كانت الدار عضوًا في اتحاد الناشرين العرب”. ورغم أن الجمهور المصري مثقف بطبعه ويقبل على شراء الكتب، في رأي التلاتوي، إلا أن القدرة الشرائية في ظل ارتفاع سعرالدولار تستوجب عرض الكتب بأسعار مخفضة، لكن ذلك أمر صعب، بسبب ارتفاع الرسوم وتكاليف الطباعة، ما يمنع الناشرين من إجراء تخفيضات كبيرة على الكتب تناسب احتياجات القارئ المحلي. ويشير التلاوي إلى أن رسوم الإيجار في معرض القاهرة من أعلى الرسوم على مستوى معارض الكتب في المنطقة العربية باستثناء السعودية، إذ أن “ارتفاع التكلفة دون تحقيق عائد كبير انعكس في أن عدد كبير من دور النشر الأردنية اكتفى بإرسال أحدث العناوين للعرض في جناحنا دون التواجد الفعلي بجناح خاص كما هو الحال كل عام”.
ويرى صاحب دار الأيام التي تشارك بنحو 850 عنوان هذا العام، أن وضع الكتاب في السوق العربية في انحدار بسبب ارتفاع الأسعار بشكل عام، وأن الإعتماد الأساسي للدار من خلال المشاركة في معرض القاهرة يكون على المؤسسات الثقافية والجامعات ودور النشر العربية التي تحرص على التواجد بمعرض القاهرة الدولي للكتاب كونه من بين أهم معارض المنطقة.
تطور كبير
الناشر عمار كردية صاحب دار أمل الجديدة للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق يثني من جانبه على التطور الكبير في معرض القاهرة الدولي في يوبيله الذهبي “معرض القاهرة من أحب معارض الكتب إلى قلبي وأهمها في المنطقة والتغيرات الجديدة أثرت إيجابيًا على مختلف جوانب المعرض خاصة من جهة التنظيم” لكنه يشارك التلاوي الرأي في أن كلفة التواجد في المعرض التي ارتفعت بشكل ملحوظ هذا العام أثر بالسلب على نسبة الخصومات التي تقررها الدار على أسعار الكتب.
ويختلف عصام ناصر، وهو أحد أعضاء وفد جناح معهد الشارقة للتراث، في تقييمه لرسوم المعرض “ارتفاع الأسعار لا يقارن بالنقلة الشاسعة التي حدثت بالمعرض هذا العام، فهي زيادة مبررة تنعكس في فخامة القاعات وتوفير كل ما يحتاج إليه الناشر أو الزائر”. ويشير ناصر إلى أن العديد من العناوين الحديثة لإصدارات المعهد الإماراتي وجدت إقبالًا من الجمهور سواء من الأفراد أوالمؤسسات وعلى رأسها كتاب أثر الحضارة الإسلامية على أوروبا، والكائنات الخرافية في التراث الإماراتي، ودراسات في التراث الشعبي الإماراتي، وغيرها من بين قائمة مهمة من الإصدارات الجديدة للمعهد الذي يشارك للدورة الثالثة على التوالي في معرض القاهرة للكتاب.
أما محمد صابر الرحمن، ممثل دار المدى للنشر – العراق، فيرى أن بعد المقر الجديد للمعرض عن وسط القاهرة من أبرز الإيجابيات التي تضاف إلى الكثير من نواحي التطور الحادثة هذا العام. “هناك عناية خاصة براحة الناشرين في التنقل من وإلى مقر المعرض بالمجان وتوفير كل احتياجاتهم. لو واصل المعرض تنظيمه على هذا المستوى سيكون من أفضل معارض الكتب العربية على الإطلاق”.
صعوبات جنوبية
لكن الحال ليس كذلك بالنسبة لدار رفيقي للطباعة والنشر، وهي دار النشر الوحيدة التي تأسست في جنوب السودان بعد الاستقلال، حيث تشير جاتا ويلو، مسؤول جناح “رفيقي” في معرض القاهرة أن كون الدار ليست عضوًا في اتحاد الناشرين العرب يضطرها لدفع رسوم الناشر الأجنبي وهي 200 دولار للمتر الواحد. لذلك اكتفت الدار باستئجار 9 أمتار فقط لعرض إصداراتها. وتشير ويلو إلى أن هذه هي الدورة الثالثة التي تشارك فيها دار رفيقي بالمعرض حيث كانت الدار في السابق تحظى بإقبال كبير خاصة من الجمهور السوداني في القاهرة وهوما لم يحدث هذا العام “لا زلنا في اليوم الخامس وربما يتغير الحال في الأيام المقبلة”.
أما مصطفى سعد، مسؤول مكتب مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية في القاهرة والذي تأتي جميع إصداراته من الكويت، فيشير إلى أن الإقبال على زيارة المعرض من الجمهور المصري هذا العام فاقت التوقعات رغم تغير المقر لكنه يرى أن المغالاة في التأمين يعيق حركة زوار المعرض “هناك أكثر من نقطة تفتيش على كل بوابة من البوابات الداخلية بالإضافة إلى بوابات الدخول الرئيسية وهوما يؤثر على انسيابية الحركة” وهو ما يعتبره ضمن مثالب التجربة الأولى التي من المؤكد سيتم إعادة النظر فيها في الدورات المقبلة.
دور النشر المصرية
المسؤولين عن دور النشر المصرية بدورهم عبروا عن إعجابهم بالصورة التي ظهر عليها المعرض هذا العام، حيث لم يمثل الارتفاع النسبي لأسعار إيجارات الأجنحة عائقًا كبيرًا أمام تواجدهم في المعرض. كرم يوسف، مالكة دار الكتب خان أشارت إلى أن المعرض هذا العام يشهد طيف واسع من الخدمات التي كان الناشرين يفتقدونها في دورات المعرض السابقة “هناك مساحات للترفيه، وللأطفال وأخرى مخصصة للمطاعم والخدمات، فضلًا عن التصميم الجميل لأجنحة عرض الكتب.
كانت لدينا كناشرين تخوفات تلاشت تمامًا من أول يوم”، تقول كرم، مشيدة بشكل خاص بالوعي المتزايد لجمهور المعرض: “تجاوز الحضور في اليوم الأول 100 ألف زائر، وهو عدد كبير جدًا بدد كل المخاوف التي سادت حول بعد المقر الجديد للمعرض”. وعلى العكس من ذلك ترى يوسف أنه من الإيجابيات أن زوار المعرض بسبب بعد المسافة صاروا أكثر حرصًا على البحث في الصفحات الإلكترونية لدور النشر وتحديد ما يرغبون في شرائه قبل زيارة المعرض، وهو أمر لم يكن موجود في السابق بهذه الطريقة “صاروا يشعرون أنهم قد تتاح لهم فرصة زيارة المعرض لمرة واحدة بسبب المسافة وأن عليهم الاستفادة من هذه الزيارة بأقصى قدر ممكن”.
ولا ترى صاحبة الكتب خان أن الملاحظات التي قد تؤخذ على تنظيم المعرض هذا العام جوهرية وأنه من السهل تداركها في الدورات المقبلة. “هناك حاجة لوجود خرائط واضحة تبين أماكن دور العرض في مداخل البنايات مع إعادة النظر في أسعار تأجير قاعات عرض الكتب، وطباعة عدد أكبر من نسخ البرنامج الثقافي للمعرض حتى يتسنى للجمهور الإستمتاع بالوجبة الثقافية العامرة لمعرض الكتاب”.
محمد البعلي، مالك دار صفصافة للنشر بالقاهرة، يطمح في أن يضيف المعرض في الدورات المقبلة شاشات الكترونية للبحث عن دور النشر، فضلًا عن أن يعاد النظر في تصميم أرفف عرض الكتب بحيث تناسب احتياجات الناشرين: “هناك جنوح لمراعاة الشكل الجمالي للعرض أكثر من مدى عملية تصميم الأرفف للناشرين في علاقتهم بالزوار ونأمل في أن يكون هناك توازن بين الشكل الجمالي واحتياجات الناشرين في المستقبل”، لكن إجمالًا يرى البعلي أن المعرض هذا العام تجاوز بكثير توقعات الناشرين والجمهور بالمعنى الإيجابي.
ارتفاع أسعار الكتب والطوابير الطويلة بسبب نقاط التفتيش العديدة على بوابات المعرض كانت محور شكاوى الزوار والناشرين.
موسى علي، مسؤول جناح الدار المصرية اللبنانية من جهته يرى أن الشكل الحالي للمعرض ينافس أهم معارض الكتب في المنطقة والعالم. “إدارة المعرض تستمع إلى ملاحظات الناشرين وتحاول تذليل العقبات قدر المستطاع وهناك تعاون كبير من جميع الأطراف لإنجاح المعرض”، لكنه يطمح في أن تخف حدة الإجراءات الأمنية في المستقبل بحيث تكتفي إدارة المعرض بتفتيش الزوار على البوابات الرئيسية فقط لتسهيل حركة الجمهور بين القاعات والأجنحة. “هناك حاجة لتفهم طبيعة معرض الكتاب ورغبة الجمهور في دخول القاعات عدة مرات للبحث قبل اتخاذ قرار الشراء وهوما يجعل تكرار عملية التفتيش في كل مرة عائق أمام الزوار”.
أحمد سلامة، مدير تحرير دار دون للنشر التي تحظى بشهرة واسعة بين جمهور الشباب والمراهقين، أبدى انبهاره بحرص جمهور الدار على التواجد بكثافة: “لا أشعر بأن هناك فارق في عدد الجمهور هذا العام عن الأعوام السابقة”. وأشار إلى أن طريقة تقسيم الأجنحة ومنحها رموزًا وأرقام سَهّل من التواصل بين دور النشر وجمهورها: “صار من السهل تحديد عنوان الدار على صفحاتنا الإلكترونية، وهو ما لم يكن متاحًا في السابق حيث كانت عملية البحث عن الدار تعتمد على الصدفة”.
ولا تختلف آراء وملاحظات الجمهور عن تلك التي يشير إليها الناشرين خاصة فيما يتعلق بالتقدم الكبير في مظهر وتنظيم المعرض، وسد الكثير من الثغرات في الدورات السابقة بمقر المعرض القديم، لكن تظل أسعار الكتب، والطوابير الطويلة التي يضطر زوار المعرض للاصطفاف بها لدخول أي من قاعاته فضلًا عن بوابته الرئيسية بسبب نقاط التفتيش المتكررة أبرز الشكاوى التي أشار إليها الزوار.
على الجانب الآخر لا زالت الساحات الخارجية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب عامرة بزواره من المصريين والأجانب الباحثين عن الكتب أو الراغبين في متابعة الفعاليات الثقافية المختلفة، أو هؤلاء الذين يرون في معرض الكتاب فرصة سنوية لقضاء وقت ممتع لكل أفراد الأسرة بين تفقد الكتب والتنزه بين المساحات الخضراء وساحات تناول الطعام واللقاء برموز الأدب والفكر والفن في أجواء احتفالية صارت رمزًا من رموز معرض القاهرة الدولي للكتاب.