كنسوية من جيل التسعينات لطالما كان وصم “العاهرة” مرعب بالنسبة لي، فهو بمثابة حكم بالسجن المؤبد ولا يوجد حتى أي مجال للمحاكمة أو حتى للدفاع عن نفسك. وطبعاً، يطلق هذا الوصف على كل امرأة تجرأت على أن تخالف ما وضعه المجتمع الذكوري كحدود. وبمجرد أن تتعدى المرأة على هذه الحدود والأعراف، يصبح من المباح توصيمها بالعُهر، وعليها ألا تلوم إلا نفسها لضياع سمعتها وشرفها.
مفهوم “الوصم-بالعهر” غير متداول في معجمنا العربي، إلا أن صوره متغلغلة فينا. وفي حين يستسهل الجيل “الكوول” استيراد العبارة الإنجليزية المتداولة “Slut-Shaming” إلا أنها لا توفي ثقل المعنى الذي يختزله المفهوم العربي لعبارة “الوصم بالعهر.” فتوصيم العُهر في مجتمعاتنا يجيز لمجتمع بأكمله من فرض سيطرته على شرف وجسد المرأة، ليشمل العهر العربي كل كبيرة وصغيرة: من ارتداء المايوه، أو فستان ضيق، لحجاب غير شرعي، أو حتى ضحكة بصوت عالي.
Videos by VICE
يتجلى هذا الفكر في أبشع صوره مع الأشخاص المقربين، وهذا ما ظهر مؤخراً في مقطع متداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي – لحوار مع الفنانة المصرية إلهام شاهين صرحت خلاله عن تعرضها للتنمر والنبذ هي ووالدتها من قبل والدها لمجرد اختيارها مهنة التمثيل. تقول إلهام أنها عندما حاولت مصالحة والدها: “كان محضر نفسه للمواجهة، فوجئت أنه اتفرج على كل أعمالي وكان مجمع شريط فيديو فيه كل مشاهدي: رقص وقميص نوم مفتوح وحد حاضني، وكان عايز يحرجني جدًا، ويقولي إن هو كان صح وإني كنت غلط. وأنا متحرجتش وجالي حالة ذهول وحسيته عدوي. بس أنا كان نفسي يقولي أنه مسامحني قبل ما يموت.”
لفت اهتمامي شجاعة إلهام وصراحتها الشديدة في هذا اللقاء، لكن ما أثار حفيظتي فعلاً هو مدى تقبلنا كنساء عربيات لهذا النوع من التنمر والشعور بالخزي. فبالرغم من شجاعة إلهام في مواجهة هذه التروما التي تعرضت لها من والدها، إلا أنها لا تزال ترغب في “رضاه.”
تجربة إلهام ليست باستثنائية، بل العكس فهو واقعنا اليومي كنساء. وبالرغم من انفتاح الكثير وعدم تأييدهم لنقد والدها “للفن” إلا أن التعليقات الجارحة لإلهام تقف كدليل على تجذَّر ثقافة الوصم-بالعهر بين شبابنا المعاصر. فلا يمكن إنكار تجاربنا اليومية كنساء وتعرضنا للوصم وتهديد شرف العيلة من أقرب الناس إلينا. فشرف المرأة أو عُهرها تتشاركه عائلة بأكملها.
مع تمرد الكثيرات على الوصم بملامحه التقليدية، اتخذت هذه الوصوم أشكالاً أكثر خفيّة ومكراً، لينتج المجتمع العربي جيلاً جديدًا من المُدعين و”واصمي-العهر الكوول.” هناك الكثير منهم وإن كانت الأغلبية (من خلال مشاهداتي) قد تقع ضمن هذه الفئات.
بروبجندا من خوفي عليكِ: وهي في رأيي من أكثر الأسلحة خطورة، فخلف ستار أنا هدفي حمايتك، تختفي الكثير من المفاهيم السامة والعنيفة من نوع خطيبي ضربني، بس من غيرته عليّ. هناك الكثير من الأمثلة التي تتوارى خلف “نحن في مجتمعاتنا العربية نحترم المرأة ونعزها” فلها حقوق ومميزات “نسمح لها بها” وليس لها أن تعترض عليها. واصمي-العهر الكوول يستخدمون عبارة من خوفي عليك للتحكم بالمرأة، بدون أن يظهروا أنهم ذكوريين وعنيفين. لا تخرجي بمفردك أو لا ترتدي هذا الفستان أو لا تضحكي بصوت عال، والسبب: بخاف عليك من التحرش، بخاف تنفهمي غلط، بلاش تشدي الانتباه. هناك الكثير من الأعذار الكوول الكاذبة التي تضمرها عبارة “من خوفي عليكِ.”
مؤيدي التحرر ولكن “بحدود”: يتبع الكثير من واصمي العهر الكوول مبدأ أنا مع حرية المرأة، لكن “بشروط.” حرية تناسب مفاهيمهم الخاصة، وتناسب نفس المجتمع المتحرر/المتحفظ الذي تربوا فيه. هم لا يفرضون الحجاب على المرأة مثلاً، ولكنها إذا تعرضت للمضايقات بسبب “ملابسها أو تصرفها” فهذه مشكلتها. كما أنه يقف مع حق المرأة في التعليم والعمل، ولكن عليها أن تراعي هذه الحقوق بتأديتها لواجبتها وحفاظها على بيتها وأولادها وبنفس الوقت تصرف معاشها على توفير كل حاجيات الأسرة، من منطلق ..عايزة تشتغلي، ادفعي. مساواة ولا مش مساواة.
مزدوجي المبادئ: هؤلاء هم مجموعة حُرّم على النساء، حُلل ليّ، يتحامى الكثير من واصمي العهر خلف ستار ازدواج المبادئ، فهو كرجل بإمكانه أن يحمي نفسه عند رجوعه من سهرة، أما المرأة فحرام ضعيفة ويجب أن تتصرف تبعاً لذلك. الرجل ليس عليه حرج، أما المرأة فهي فِتنة، وهذا ليس برأيه، بل هذا ما يقوله رجال الدين، وهذا ما يجعل مسؤولية الرجل حمايتها، لأنها بدونه ستضيع من منطلق “الرجال قوّامون على النساء” التي يستخدمها كذخيرة عند أي محاولة لمناقشة تفكيره الرجعي.
“لكم دينكم ولي دين”: ظهر ذلك في تطبيق كلوب هاوس، فبالرغم من تمكين التطبيق الجديد لمحاورات صريحة وجريئة، إلا أن الأغلبية العظمى من الآراء، خاصةً عندما يتعلق الموضوع بالشرف، تتستر بستار “لكم دينكم ولي دين.” فكلما اشتد الحوار واستطاعت نسوية أن تزلزل مبادئ الذكوريين يكون الجواب، لكم دينكم ولي دين، وهو ما يحاول به الواصم الماكر تأكيد تقبله لرأيها، ولكنه في نفس الوقت يجردها من حقها بالانتصار عليه.
مجندات المجتمع الذكوري: النساء التي يقفن في صفوف الدفاع عن “تقاليدنا” العربية. فبمجرد أن ترى امرأة قوية لا تشبه الصورة النمطية، تقف كخط دفاع أول عن شرف المجتمع الذكوري. فتتسارع لإطلاق الأحكام وتصبح أول من تلقبها بالعاهرة. تلك التي تفتخر بكونها عربية open-minded، ولكنها في الواقع، لاتزال مقيدة بأفكار المجتمع الذكوري.
يبيح جنود المحافظة على الشرف العربي وصم إلهام بالعهر فهي شخصية عامة، وعليها أن تتقبل الرأي الآخر، حتى لو كان في ذلك الطعن في شرفها. كما يعتبرون أن في اختيارها للتمثيل “الخليع” خروج تام عن حدود الدين و”المجتمع المصري المحافظ” وبذلك يحق لهم توصيمها بما يشاؤون. هذه هي الوتيرة التي يتبعها الواصم المعاصر، أولاً ينصب نفسه القائم الأول والأخير على “الحدود” ثم يفرض الحدود التي اختلقها للمرأة. وبمجرد محاولة المرأة رفضها لقيوده، يبيح لنفسه وبكل بساطة تكبيلها بجرم “العهر.”