تفاصيل من رحلتي إلى أكبر سجن مفتوح في العالم: قطاع غزة

Gaza_port

أصيبت أمي بفيروس كورونا بداية هذا العام، وأصيبت بعدها بفترة بسيطة بجلطة دماغية، تركت أثراً على قدراتها الجسدية وصحتها النفسية. لم أر أمي منذ أكثر من خمس سنوات، حيث تركت قطاع غزة منتصف العام 2016 من أجل استكمال دراستي في الصحافة والبحث عن فرص مهنية جديدة. أعيش اليوم مع زوجي عبدالله وابنتي جمانا في مدينة اسطنبول التركية منذ أكثر من عامين.

بعد مرض أمي، لم أعد قادرة على استكمال حياتي بشكل طبيعي، فتارة أفكر بضرورة الذهاب إلى غزة لرؤيتها، وتارة أخرى أفكر بالقدر الكبير من المخاطرة التي قد تحمله هذه الزيارة بسبب الحصار المفروض على غزة، وسوء أحوال معابرها. معبر رفح المصري كان مفتوحاً حينها، لكن لا يوجد أي ضمانات على استمراره مفتوحاً. أما بالنسبة لحاجز إيرز الإسرائيلي، فلا يوجد أي ضمانات أنني سأحصل على موافقة إسرائيلية للدخول والخروج منه.

Videos by VICE

قبل السفر
لفترة من الوقت، كنت أفكر قبل النوم وأقول أنني ذاهبة إلى هناك مهما كلفني الأمر، ثم أستيقظ في الصباح بفكر مختلف تماماً، وأقرر أن لا أذهب خوفاً على الاستقرار العائلي والمهني الذي أعيشه هنا، والذي طالما حلمت بالحصول عليه. استمر هذا الوضع المربك أكثر من أربعة أشهر، وأكثر ما كنت أشعر به حينها هو الغضب، الغضب على الاحتلال والحدود ونقاط التفتيش التي جعلت رؤية عائلتي ومصالحي الشخصية أمرين متعارضين تماماً. 

أثناء صراعي المرهق ما بين الفكرتين، ذهبت إلى الأردن من أجل غرض مهني، وخلال زيارتي علمت أنني أستطيع تحصيل تصريح إسرائيلي لدخول فلسطين عن طريق جسر الملك حسين الأردني، ذلك وأنني غادرت غزة من هذا الممر. قررت أن أبقى في العاصمة الأردنية عَمان وأن أقدم طلب عودة إلى غزة عن طريق وزارة الشؤون المدنية التابعة للسلطة الفلسطينية، ولكن عند اقتراب موعد السفر وجدتني خائفة جداً ولست مستعدة لأخذ طفلتي ذات العام ونصف إلى مدينتي غير الآمنة.

قمت بحجز تذكرة عودة إلى إسطنبول، وأنا أتمزق من الداخل بسبب الخوف من فكرة ينبغي أن تكون محببة إلى قلبي، ألا وهي فكرة العودة إلى الوطن ورؤية أمي وعائلتي وأصدقائي. كنت ألعن الحدود طوال رحلتي من عمان إلى تركيا، وما أن وصلت منزلي حتى بدأت أشعر بالحزن والاكتئاب. لا شيء أصعب من أن يلعب الخوف دوراً أساسياً في اتخاذ قرارات مهمة في حياتك. المهم أنني اتخذت قرار التوقف عن التفكير في الأمر، وأنني لن أذهب هناك قريباً، حتى أنني قمت بتسجيل جمانا في الحضانة.

بعدها بيومين، جاء إبن أخي إلى مدينة اسطنبول بغرض السياحة، وعندما هاتفني ليخبرني أنه وصل، لم أشعر برغبة كبيرة للذهاب للقائه، شعرت أنني لم أعد أقدر العلاقات العائلية، وأن الغربة جعلت مني شخصاً آلياً لا يفكر إلا بالاستقرار المالي وبتربية ابنتي جوجو، وأن مكالمات الفيديو مع عائلتي أصبحت أكثر من كافية بالنسبة لي. بعد مرور أسبوع، قلت أنني يجب أن أهاتفه وأدعوه لشرب فنجان قهوة على سبيل المجاملة. 

جلست في المقهى أنتظره، وما أن دخل من البوابة، شعرت أنني أرى جميع أفراد عائلتي في شخص واحد  يسير نحوي، إنه يحمل لونهم وملامحهم. ركضت نحوه وعانقته، بكيت كما لم أبك منذ مدة. حينها أدركت أن الغربة فشلت في أن تحولني لآلة، وأنني غير قادرة على تقبل حياتي الخالية من أحاديث المساء وجمعات الصباح التي افتقدها في غزة وبين أهلي. بعد لقائي بإبن أخي، ذهبت إلى المنزل، هاتفت مديرة حضانة جمانا وأخبرتها أنها لن تحضر إلى الحضانة لأننا سنسافر قريباً. أقفلت الخط وقمت بتقديم طلب عودة إلى غزة، وعندما عاد زوجي عبدالله إلى المنزل قلت له: “أنا وجوجو رايحين على غزة.” 

مرحلة الانتظار
بعد أن قمت بتقديم طلب العودة على موقع وزارة الشؤون المدنية الفلسطينية، أصبحت أقوم بتحديث صفحة حالة الطلب مرة كل خمس دقائق، “أرسل وينتظر الرد” كان هذا الجواب الذي أراه لمدة خمسة أيام، حتى قمت بتحديثها في اليوم السادس لأرى كلمة “موافقة” بجانب اسمي الرباعي ورقم هويتي. شعرت بدقات قلبي تتسارع، وبدأت أتصبب عرقاً، ثم انفجرت ضحكاً، “رح أروح غزة، أخيراً رح أروح”! 

كان علي أن أنتظر معرفة تاريخ اليوم الذي حددته السلطات الإسرائيلية ليكون موعد سفر مواطني قطاع غزة من جسر الملك حسين، فهناك يوم محدد في كل أسبوع تتحرك فيه حافلة من الجسر إلى قطاع غزة، بعد أن تتم مصادرة جميع الأوراق الثبوتية للمسافرين حتى وصولهم إلى القطاع بهدف ضمان عدم “هروبهم” إلى إسرائيل أو مدن الضفة الغربية.

قضينا أنا وجوجو يوماً مليئاً بالحماس والسعادة في العاصمة عمّان، أحب هذه المدينة كثيراً ولي فيها ذكريات كثيرة، فقد عشت فيها أكثر من عامين حيث أنهيت فيها دراسة الماجستير، وعملت فيها كصحفية ميدانية. في اليوم التالي غادرنا الفندق الساعة الثامنة صباحاً متجهين إلى جسر الملك حسين، كنت أغني طوال الطريق وأتحدث إلى جوجو عن غرة، المدينة التي ينحدر منها والديها، والتي ستراها للمرة الأولى.

يوم الرحلة الطويل
وصلنا إلى النقطة الأولى من الجسر والخاضعة للسيطرة الأردنية، انتهينا منها في أقل من ساعة. ثم انتقلنا إلى النقطة الإسرائيلية وجلسنا ننتظر جميع مسافري قطاع غزة حتى يحضروا، وحتى ينادي موظف الشباك الإسرائيلي جميع الأسماء. انتظرنا أكثر من أربع ساعات، لم تتوقف جوجو عن البكاء والصراخ، وكانت ترفض الأكل أو حتى النوم، كان الانتظار صعباً لدرجة أنني في النهاية وجدت نفسي أشاركها البكاء.

في تمام الساعة الثانية بعد الظهر، بدأت موظفة إسرائيلية بمناداة أسماء المسافرين، وأخبرتنا أن الوقت حان للتوجه للباص. لم تعطنا جوازات سفرنا أو هوياتنا الشخصية، بل سلمتهم لموظف آخر ليسلمهم بدوره لسائق الباص. على الرغم من أن الباص يتبع لشركة نقل فلسطينية مقرها في قطاع غزة، يمنع سائق الباص الفلسطيني من الاستمرار في قيادة الباص بعد تجاوزنا حاجز إيرز، فيأتي فلسطيني من حملة الهوية الإسرائيلية ليستكمل الرحلة بدلاً منه، لأن القانون الإسرائيلي يمنع الفلسطينيين من قيادة المركبات داخل إسرائيل لأسباب “أمنية.”

تحرك الباص من استراحة أريحا الساعة الرابعة، وكانت ابنتي جوجو قد شعرت بالنعاس والتعب، ونامت على كرسي الباص بجانبي. أرسلت حينها رسالة نصية لشقيقتي وأخبرتها أنني في الطريق إلى المنزل، وأنها يجب أن تخبر أمي خوفاً من أن تسبب لها صدمة رؤيتي مضاعفات صحية، حيث أنني لم أخبر أحداً من عائلتي مسبقاً بزيارتي تحضيراً لمفاجأتهم.

على الحاجز
استغرق الباص مدة ساعتين كي يصل إلى حاجز إيرز الإسرائيلي (بيت حانون) على حدود غزة، التي توصف بأنها “أكبر سجن مفتوح في العالم” حيث يعيش أكثر من مليوني مواطن في قطاع غزة ظروفاً إنسانية صعبة بسبب فرض إسرائيل والمجتمع الدولي حصاراً على غزة منذ أن فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، وسيطرت على قطاع غزة في العام الذي يليه.

منذ ذلك التاريخ، أصبح معبر رفح البري يغلق بواباته بشكل مستمر، ويفتحها بشكل استثنائي. الكثير من طلبات السفر خارج غزة تقابل بالرفض لأسباب “أمنية” دون تفسير سبب هذا الرفض. منذ ذلك الوقت، هاجر معظم أصدقائي من القطاع إلى أوروبا والولايات المتحدة وتركيا وغيرها. 

حاولت أنا والنساء المسافرات معي تخفيف وطأة الطريق، فتبادلنا الأحاديث والنكات وأرقام الهواتف وفطائر الزعتر والجبن. كان الحاجز حين وصلنا يستعد للإغلاق، حيث يتوقف عن العمل الساعة السابعة، فكان يجب علينا أن ننزل حقائبنا من الباص ونحملها إلى داخل الحاجز.

IMG_0205 copy.jpg
حاجز إيرز الإسرائيلي (بيت حانون)، شمال قطاع غزة. تصوير عبير أيوب.

وصلنا إلى النقطة التالية والتي تتبع لسيطرة السلطة الفلسطينية. الساعة الثامنة مساءً، كنا قد وصلنا النقطة الأخيرة من نقاط رحلة العذاب هذه، ألا وهي النقطة الخاضعة لحكومة حماس التي تحكم قطاع غزة. تم تفتيش حقيبتي، ثم أخبرتني الموظفة هناك أنه باستطاعتي الخروج وأخذ سيارة أجرة تأخذني إلى خارج المعبر.

وصلت.. غزة
في الطريق نحو بيتي في غزة، لم أتمكن من رؤية الشوارع بشكل واضح، فالتيار الكهربائي كان منقطع في أغلب الأحياء. ولكنني سمعت صوت أحد الباعة المتجولين يبيع الموز وينادي “يلا يا موز” عن طريق مكبر صوت، أعاد لي صوته ذكريات كثيرة عشتها هناك، وكان هذا بمثابة إعلان واضح أنني وصلت.

وقفت أمام باب بيتنا وشعرت أنني غادرته البارحة، لم يتغير شيء، حتى البقالة بجانب منزلي صامدة كما هي، الكهرباء كانت مقطوعة، وكأنها لا زالت مقطوعة منذ ذلك الصباح الذي غادرت فيه منزلنا قبل خمس سنوات، وشربنا فيه أنا وأبي القهوة على أضواء الكشافات، مع صوت فيروز المنبعث من راديو يعمل على البطاريات. تركت حقيبتي على الباب، وأسرعت بالصعود على الدرج حتى وصلت منزلنا لأجد الجميع في صالة المنزل، لأعلن وصولي قائلة “مين هان؟ أنا إجيت.”

بعذ وصولي غزة بيومين، بدأت التحضير لمغادرتي، فكما كان الوصول بتاريخ لم أختره، كذلك سيكون تاريخ المغادرة، هل سيتم منحي وجمانا تصريح مغادرة إسرائيلي؟ أم ستسمح لي السلطات المصرية بالسفر من معبر رفح جنوب قطاع غزة؟ قمت بالتقديم هنا وهناك، وجلست أنتظر. 

IMG_0610.JPG
بحر غزة، على الساحل الشرقي للبحر المتوسط. تصوير عبير أيوب.

بعد مرور أسبوع، تم فرز إسمي على كل من المعبرين – وهذا أمر لا يحدث كثيراً. كان يجب أن أختار ما بين المرور عبر معبر رفح والسفر من مطار القاهرة الدولي، وهذا يعني أنني سأستطيع أن أحمل معي كل ما أريده من غزة، ولكن الطريق ستكون صعبة وطويلة، بسبب كثرة عدد المسافرين. وإما أن أختار السفر عبر حاجز إيرز مروراً بجسر الملك حسين، ومن ثم السفر عبر مطار الملكة علياء. هذه رحلة أقل شقاءً بسبب قلة عدد التصاريح التي يمنحها الإسرائيليون للغزيين، ولكنني سأكون مجبرة على حمل شنطة واحدة بدون عجلات ولا تحتوي على أي شيء آخر إلا ملابسي وملابس طفلتي. فبحسب التقييدات الإسرائيلية، يمنع الفلسطينيين المسافرين عبر هذا الحاجز من حمل أي شيء غير الملابس. اخترت أن أسافر عبر الأردن في النهاية، حتى يتسنى لي العودة من خلال نفس الطريق في المستقبل.

جاء تاريخ المغادرة بأسرع بكثير مما تمنيت، قضيت أسبوعين فقط في غزة. لم تكن تلك المدة قادرة على إشباع حاجتي من لقاء أمي وأخواتي وأصدقائي. ولكن أهم ما في الأمر، هو أن أمي وابنتي التقيتا أخيراً، ونشأت بينهما علاقة جميلة، كانت جمانا تستيقظ كل يوم لتذهب وتقبل وجنة أمي ويديها. 

لم تتغير غزة على الإطلاق، الفرق الوحيد الذي رأيته هو اختفاء الأبنية العالية المعروفة من القطاع، حيث قام سلاح الجو الإسرائيلي بتدمير معظمها في الحرب التي شنها في مايو الفائت. وعلى الرغم من مرور أكثر من خمسة أشهر على نهاية الحرب، لا تزال الأنقاض تنتظر من يزيلها ومن يعيد إعمار الأبنية من جديد. في غزة، تأكدت – رغم إنكاري لهذه الحقيقة كثيراً- أنني أنتمي إلى هناك، ولا أنتمي إلى أي مكان آخر. كان كل يوم لي هناك برهان على العلاقة العميقة التي تربطني بهذا المكان، شعرت أنني أحتاجها وتحتاجني، وأنها جزء لا يتجزأ من هويتي.

IMG_0614.JPG
جمانا تشاهد بخر غزة لأول مرة. تصوير عبير أيوب.

رحلة العودة
استيقظنا في صباح يوم الرحلة في الساعة السادسة صباحاً، وبعدت أن ودعت أمي وأبي بالكثير من الدموع، توجهت إلى حاجز إيرز. انتظرنا أكثر من أربع ساعات حتى تجمع الأربعون مسافراً، وانتهوا من معاملات المغادرة بالجانب الفلسطيني ومن بعدها الإسرائيلي. نامت جمانا على كتفي أثناء التفتيش الجسدي للمسافرين، وكان علي أن أقف أكثر من ساعة وأنا أحملها، حتى أصبحت غير قادرة على الإحساس بكتفي من شدة الألم. وقفت أتأمل الأطفال وهم يدخلون جهاز الفحص الإشعاعي على نقطة التفتيش الإسرائيلية، رأيت طفلة ترتدي فستاناً زهريًا وتربط شعرها الأسود بربطة وردية تمر عبره، كانت شديدة الجمال، وكان المشهد وهي ترفع يديها داخل الجهاز شديد القبح، قبيح بمقدار قباحة الاحتلال.

النقطة الأخيرة، كانت النقطة التابعة للسيطرة الأردنية. كان الجسر خالياً من جميع المسافرين إلا الواصلين من قطاع غزة. انتظرنا أكثر من ثلاث ساعات وأنا أسمع ابنتي وباقي الأطفال يبكون دون توقف، حتى فقدت الأمل أن أسمع إسمي أو إسم جمانا، ولكنني في النهاية سمعته. “عبير أيوب، جمانا شراب، روحوا ع الشباك التاني اعملوا ختم دخول.” هرولت إلى الشباك بسرعة، أريد لهذا اليوم أن ينتهي قبل أن أنهار أو أفقد صوابي.

كان أصدقائي محمود وآية في انتظاري على بوابة الجسر على الجانب الأردني. خرجت وأنا غير قادرة على الحديث. وصلت غرفتي في الفندق أخيراً، وكل ما أردته هو أخذ حمام ساخن والخلود إلى النوم، لم أكن قادرة على الشعور بأي شيء، كان قلبي في غزة، بينما عقلي كان يردد عبارة سمعتها من رجل مسن داخل الباص “لو هاي البلد مش بلدنا، ولا عمرنا كنا رح نقبل نتحمل كل هالذل عشان نشوفها.”