غيث، 34 عاماً، فلسطيني ولد ونشأ في دمشق حيث تعارف والداه وأنشئا معاً عائلتهما الصغيرة، قضى طفولته بين دمشق والأردن قبل أن يعود إلى فلسطين لفترة، ثم الأردن مرة أخرى حيث التحق بالجامعة، وبالنهاية استقر في دبي في الإمارات العربية المتحدة، حيث يعمل في مجال العلاقات العامة منذ نحو 10 سنوات. اذا سألته سؤال بسيط كـ إنت من وين؟ الإجابة ستحتاج بعض الوقت. الهوية، الوطن، من أين أنت؟ وأين نشأت؟ وما هي الثقافة والمعتقدات التي ساهمت بتكوين من أنت عليه اليوم كبالغ؟ كل هذه الأسئلة والمفاهيم قد تبدو واضحة وسهلة للكثيرين، إلا أنها ليست كذلك بالتأكيد بالنسبة لمن ولدوا وعاشوا في “الغربة” بعيداً عن موطن آبائهم الأصلي والذين عايشوا صراعاً للهوية بشكل أو بآخر، والذين يطلق عليهم “ثلاثيو الثقافة” Third culture kids أو TCK. في العادة، يعيش هؤلاء الأطفال ضمن ثقافات مختلفة قبل أن يحظوا بفرصة كاملة لتشرب الثقافة الأم التي ينتمي آبائهم إليها، ولهذا يشير المصطلح إلى ثقافة ثلاثية، بمعنى الثقافة التي ينتمي إليها بلد الآباء، والثانية تشير إلى ثقافة البلد التي نشأ بها الأطفال، أما الثلاثة فتشير إلى الثقافة الناتجة عن دمج هاتين الثقافتين.
هذه الفئة، حظيت باهتمام ودراسات عديدة في العالم الغربي، خاصة مع تلاحق الهجرات الاقتصادية من الدول النامية إلى الدول الصناعية، ومن الدول العربية الى دول الخليج، وأوروبا والولايات المتحدة وكندا. أسباب الهجرة تختلف بعضها يتعلق بالسعي إلى وضع اقتصادي أفضل، أو تتعلق باللجوء والنزوح والهروب من الاضطرابات السياسية في بلادهم الاصلية، إذ تضم المنطقة العربية أكبر عدد من اللاجئين والنازحين في العالم، معظمهم نازحون من داخل المنطقة، ويتربع الفلسطينيون على رأس أعداد المهاجرين العرب، ليفوق عددهم 6 مليون نسمة خارج الأراضي الفلسطينية موزعين بين الدول العربية والأجنبية.
لقد كونت ثقافتي الخاصة والتي هي خليط من ثقافات وتجارب متنوعة مما يجعلني أرى مفهوم الهوية والانتماء بطريقة مختلفة
Videos by VICE
بالنسبة لـ غيث، هذه النشأة والتنقل المستمر جعله ينظر إلى الوطن والهوية بطريقة أكثر عمقاً، كما أنها أكسبته منطق خاص أثناء استرجاع ذكرياته، فيذكر لنا غيث تفاصيل حياته من خلال ربطها زمنياً بأحداث القضية الفلسطينية، ليقول لنا أنه رجع لفلسطين أول مرة قبل الانتفاضة الأولى، ثم مرة أخرى بعد الإنتفاضة، وأنه تخرج من الجامعة بعد منع التجول الكبير الذي شهدته مدن في الضفة الغربية. التنقلات والزخم الذي سادت الطفولة والمراهقة بالنسبة لـ غيث أثرت عليه بطريقة عكسية كبالغ لتكسبه الهدوء والدافع لبناء خلفية معرفية وثقافية خاصة به كفرد، بعدما كان يرى العالم بطريقة مختلفة تقدس الحشد والثقافة الجماعية. “عملت في سن 18 تقريبا في مدينة نابلس في الضفة الغربية كصحفي للإذاعة المحلية، أنقل أخبار الشهداء والمصابين ومستجدات الحصار الإسرائيلي، وكنت شخصا له شعبية محلية لحد ما، وفي 2002 ومع الإنتفاضة الثانية، خرجت لأكمل دراستي الجامعية في الأردن وتخصصت في مجال التسويق. وأعتقد أن هذه المرحلة هي التي قامت ببناء ثقافة ذاتية خاصة بي كفرد، بعيداً عن مفهوم الحشد،” يقول غيث.
وعد، 24 عاماً، والتي تعمل في مجال العلاقات العامة والتي ولدت بالسودان، وانتقلت إلى أبوظبي بعمر السنة، ثم دبي بعمر الـ 18، تقول: “أتفق مع غيث بخصوص مفهوم الثقافة الفردية، لقد كونت ثقافتي الخاصة والتي هي خليط من ثقافات وتجارب متنوعة مما يجعلني أرى مفهوم الهوية والانتماء بطريقة مختلفة. الوضع معقد قليلاً، بالنسبة للثقافات، أشعر بانتماء للإمارات العربية المتحدة بالتأكيد، ففيها أسرتي وهنا نشأت وأكملت دراستي المدرسية والجامعية. الإمارات بالتأكيد أعطتني الكثير، وهي ما أطلق عليه home (بيت). لكن هناك بالتأكيد ما يربطني بشكل عميق بجذوري السودانية والأبعد من ذلك الأفريقية، وهو أمر أنا فخورة جداً به، فهي ثقافة عريقة وغنية جداً، ذلك بجانب الثقافة السودانية التي ورثتها.”
وعد تشير الى أن السفر غير من منظورها تجاه الإنتماء بشكل كبير كذلك: “تخصصت بالجامعة في مجال السياحة والآثار، ولدي ولعٌ خاص بالسفر وتعطش للتعرف على الثقافات المختلفة، بدأت السفر وأنا بسن العشرين، وكلما سافرت لدول أكثر كلما اختلف منظوري لمفهوم الانتماء وما يمكن للإنسان أن يطلق عليه home، فما الذي يحدد ذلك حقاً، هل هو من أين أنت ومن أين أصولك الفعلية، أو هو حيث تشعر بهذا الاتصال؟ لقد زرت بلدان عدة أعطتني شعور الإنتماء لثقافتها من أول زيارة.”
قد يبدو الموضوع بسيطاً للبعض، ولكن سؤال من وين أنت، قد يحتاج إلى إجابة لا تخلو من التعقيد كما يقول غيث: “في دبي هذا السؤال مطروق جداً، وأجيب عليه بأنني من مدينة رام الله حيث تعيش أمي، بينما أن أصلاً من نابلس. أما إذا كنت بالخارج في أوروبا مثلاً فإنني أجيب أني من دبي، حيث لا أعتقد أن جواب أني من فلسطين سيكون دقيقاً جداً، حيث سيفترض الشخص افتراضات معينة تصح على القادمين من فلسطين مباشرة وليس علي كمقيم في دبي منذ 10 سنوات.”
مراهقتي في السويد كانت مليئة بالعنصرية وعدم التقبل، وهو ما يجعلك كطفل تشعر بالضياع بين ما يفرضه المجتمع بالخارج، وما يفرضه منزلك من قوانين ومعتقدات متناقضة مع المجتمع الذي تعيش فيه
ميلاد، 28 عاماً، عراقية المولد والتي نشأت في السويد كطفلة ومراهقة ثم ببريطانيا كبالغة والآن تعيش في الإمارات وتعمل في مجال الإنتاج التلفزيوني، تعلم معنى صعوبة الإجابة على هذا السؤال أحياناً، وتقول أنها غالباً ما تجيب على هذا السؤال لتشير إلى المكان الذي تسكن به حالياً، وتقول: “أحيانا قد يكون السؤال معقداً، هل تقصد أصلي من أين، أم من أين أتيت. ولكني وصلت إلى تفسير مرضي ومفهوم. أقول أصلي من العراق، ولكني مقيمة حالياً في المكان الفلاني.” بالنسبة لميلاد، كان دائما واضحا بالنسبة لها أن هويتها هي العراق، وإن كانت لا تتفق مع الكثير من الجوانب السلبية للثقافة العربية كالعادات والتقاليد التي تقدس مفهوم الـ”العيب،” إلا أن تعلقها بالهوية العراقية كان موجوداً بشكل مستمر، كما تقول: “ذهبت إلى السويد في 1999، كنت طفلة، وتعرضت للكثير من التنمر، فلم يكن حينها السويديون معتادون على المهاجرين الأجانب. هذه العنصرية والمضايقات جعلتني أرتبط أكثر بالعراق وهو ما وصل بعمر المراهقة إلى حد “المرض” إذا استطعت القول، كنت أستمع فقط للأغاني العربية، أوصي على المجلات العربية من الخارج لأقرأها، لم أعاشر سويدين، وزاد التزامي بالدين والعادات والثقافة وكل ما هو مرتبط ببلدي.”
ميلاد تضيف أنها خلال فترة المراهقة وجهت جميع مشاعرها للعراق كما تقول: “سواء بارتداء خارطة أو اسم العراق على ملابسي أو قلادتي، كنت أحلم ببلدي ليلاً نهاراً. الآن الوضع مختلف في السويد، إلا أن مراهقتي هناك كانت مليئة بالعنصرية وعدم التقبل، وهو ما يجعلك كطفل تشعر بالضياع بين ما يفرضه المجتمع بالخارج، وما يفرضه منزلك من قوانين ومعتقدات متناقضة مع المجتمع الذي تعيش فيه، ولكن بالطبع هذا التنمر في الطفولة ساعدني على مواجهة الأزمات بقوة وزاد ثقتي بنفسي كبالغة.”
حين تحدث هذه الهجرات، غالباً ما يكون الأطفال في عمر حرج وحساس، والنقلة من مجتمع إلى آخر، وماهية الظروف التي يواجهونها في المجتمعات الحاضنة، تأثر عليهم نفسياً بشكل كبير. توفيق، 33 عاماً، الذي يعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات، عاش تجربة مختلفة عن ميلاد، حيث ولد ونشأ في بريطانيا ثم انتقل إلى سوريا بعمر الـ 8 سنوات، يقول عن تجربته: “اسمي، كان الأمر الوحيد المستغرب بعض الشيء في بريطانيا، فالتعدد هناك موجود بشكل كبير، ولا أتذكر أي تفرقة عنصرية بالعكس فقد كان الجميع لطيفون جداً معي، من أساتذة وطلاب. وعندما قررنا الانتقال إلى سوريا، أتذكر أن جميع زملائي في المدرسة البريطانية أرسلوا لي رسالة رسموا عليها علم سوريا.”
لا أعرف كيف ممكن لطفل عربي ألا يتحدث لغته، وحتى ممن نشأوا ببلدان عربية، إنه أمر مخز
يتحدث توفيق عن انتقاله من بريطانيا إلى سوريا: “حين تنتقل في هذا العمر الصغير، بين مجتمعين متناقضين، ونظامين مدرسيين مختلفين تماماً، وخاصة كطفل فإنك تواجه صعوبة بإستيعاب كل شيء، وتبدأ تتساءل عن بعض الأفكار الكبيرة التي لا يخوض بها غالباً من هم في مثل سنك كالأمور الدينية مثلاً، التي اختلف التعاطي فيها بين البلدين في المدرسة.” يقول توفيق أنه واجه بعض الصعوبة في استيعاب صف التربية الدينية في دمشق وتخصيص حصص للمسلمين وأخرى للمسيحين وبعض المفاهيم الفلسفية والحوادث التاريخية، كما يشرح: “كنت أدرس الاحتلال البريطاني، وكل الأسباب التاريخية للعداوة التي تربطنا مع هذا البلد كسوريين قديماً وأجد صعوبة في مقارنة ذلك مع أصدقاء صفي في بريطانيا والمعلمين اللطيفين. ولكني استطعت كطفل التفرقة بين الشعوب والبشر والقرارات السياسية التي تتخذها الدول، وهي أمور كبيرة على طفل بعمر الـ 10 سنوات ليفكر بها.” هي أمور كبيرة على الكبار بالعمر أيضاً؟
في الواقع، عدة دراسات أجريت في الغرب على الأطفال متعددو الثقافات، ووجدت في غالبها قدرة لهؤلاء الأفراد على إدارة الأزمات وميل إلى التفكير الإيجابي وتعزيز الثقة بالنفس، وأشارت دراسة أن هؤلاء الأطفال كبالغين لديهم فرص كبيرة في النجاح، حيث وجدت أن 70% من هؤلاء حاصلين على درجة تعليم عالي، وهم غالباً يشغلون مناصب هامة. ولكن هذا لا يعني أن شعورهم بالغربة يختفي مع الوقت، فعلاقتهم ببلدهم الأصلي وحتى لغتهم الأم قد تشعرهم بالحيرة أحياناً.
يشعر أكثر من 80% من ثلاثيو الثقافة ببعد ثقافي حينما يعودون إلى مواطنهم الأصلية، فلا يشعرون بالإنتماء هناك بسبب ابتعادهم عن جزء كبير من ثقافة بلدانهم الشعبية كمشاهير المطربين أو الممثلين
وبينما تعيش اللغة العربية، أحد أكثر الفترات التاريخية تعقيداً، فبين مؤيد وعاشق لهذه اللغة، هناك أيضا الكثيرين ممن عزفوا عنها، باعتبارها غير متجددة لصالح اللغة الإنجليزية “لغة العصر، والتكنولوجيا،” وهذا ربما ما دفع الكثير من الأهالي إلى المدارس العالمية، لنرى جزء ليس بقليل من الأطفال العرب بعيدون عن لغتهم الأم. ميلاد، ترى أن الأمر يزعجها شخصياً بشكل كبير وتقول: “لا أعرف كيف ممكن لطفل عربي ألا يتحدث لغته، وحتى ممن نشأوا ببلدان عربية، إنه أمر مخز.” أما وعد فتقول أنها غالباً ما كانت تعتمد على اللغة الإنجليزية في حديثها، لكنها تحاول تغيير ذلك مؤخراً: “كلما كبرت أدركت أهمية اللغة العربية أكثر، ولذلك أحاول أن يقتصر حديثي عليها، ولدي لهجتي الخاصة التي تأتي أكثر كلماتها من اللهجة السودانية.” وعن اللهجات تقول وعد أن الناس لا يستطيعون أن يحزروا جنسيتها الأصليه بسهولة، فهي تستطيع الحديث بجميع اللهجات تقريباً. أما ميلاد، فتعدد اللغات لديها مقرون بموضوع الحديث، تقول ضاحكة: “عندما أريد أن أشتم أو أكون في حالة غضب فإنني أستخدم اللغة السويدية، أما الإنجليزية فتظهر في أحلامي أو تفكيري المنطقي، والعربية هي لغة الحب والأغاني بالنسبة لي.”
وقد أشارت نفس الدراسة إلى أن أكثر من 80% من ثلاثيو الثقافة يشعرون ببعد ثقافي حينما يعودون إلى مواطنهم الأصلية، فلا يشعرون بالإنتماء هناك بسبب ابتعادهم عن جزء كبير من ثقافة بلدانهم الشعبية، كمشاهير المطربين أو الممثلين، أو الألعاب المحلية أو حتى فهم تفاصيل اجتماعية معينة خاصة بالثقافة المحلية. وهذا ما يشعر به توفيق في بعض الأحيان: “هناك الكثير من الأمور التي لم أكن أعرفها، كأغاني مصطفى قمر أو نجوى كرم أو راغب علامة القديمة، حين كان أبناء جيلي مهووسون بهذه الأغنيات، كنت أنا استمع لأغاني غربية، وكذلك الحال بالنسبة للمسلسلات، فأنا لم أتابع بحياتي المسلسلات العربية، وخاصة المصرية، ولذلك اليوم، أجد بعض الصعوبة في فهم اللهجة، بينما أبناء جيلي لا يواجهون أي صعوبة في ذلك.” ورغم ذلك يرى توفيق أنه كطفل لم يواجه صعوبات في التأقلم حتى عندما عاد إلى سوريا، ويقول: “أذكر أني شعرت بالسعادة في البداية عندما عرفت أنني سأنتقل إلى سوريا حيث سأتمكن من الاستمتاع بساندويشات “الجبنة البيضا” حيث لم يكن لدينا منها في بريطانيا. وإن كانت هناك بعض الأمور التي واجهت بعض الصعوبة بالتأقلم بها، إلا أن الحواجز سرعان ما زالت.”
يعتقد البعض أن ثلاثيوا الثقافة، هم التمثيل الأصح لمفهوم المواطنة العالمية الحديث، حيث يكثر السفر، وتختلط الجنسيات والأصول، وهو ما يعزي أن تعد المدن التي تسكنها جنسيات مختلفة جنة لمتعددوا الثقافات. “في لندن عندما ذهبت بعمر 18 عاما، وجدت ذاتي، فهناك لا أحد يحكم على أحد، يمكنك أن تكون كيفما أنت وتكون صادقا مع نفسك ومع الآخرين، وهو أمر يعطيك الكثير من الحرية، وهو أمر وجدته كذلك في الإمارات، حيث يوجد الكثير من الحرية، وتغيب العنصرية عن المشهد،” تقول ميلاد، ويوافقها غيث الرأي فيقول: “إذا تحدثنا عن الأمكنة، فأنا أشعر بالإنتماء حقاً لمدينة دبي، فهي مدينة سريعة التطور وتحمل الكثير من الفرص. صحيح أن الهوية الأصيلة الراسخة داخلي هي فلسطين، فهي اللهجة التي لا أغيرها وهي المكان اللي لا انقطع عنه، وهي حيث عائلتي. إلا أن دبي بالتأكيد هي المكان الذي أشعر أنه يناسبني ويشعرني بذاتي.”