“أرفض الإحتلال الاسرائيلي وأرفض ارتداء الملابس العسكرية ورفع السلاح بوجه أي إنسان، أياً كان،” بهذه الكلمات بدأ جلاء زاهر حديثه معي على أدراج مدينة القدس المحتلة عند مقابلتي له لسؤاله عن أسباب رفضه التجنيد الإجباري في جيش الاحتلال الإسرائيلي المفروض على الشبان العرب الدروز. جلاء، 21 عاماً، شاب عربي درزي من قرية عسفيا الكرملية، جنوب شرق مدينة حيفا، هو واحد من كثير من الشباب من الطائفة الدرزية (أو الموحدون) الذين رفضوا التجنيد الإجباري بجيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي فرض عليهم عام 1956 من قبل رئيس الوزراء الاسرائيلي الأول دافيد بن غوريون، حيث واجه هذا القرار في حينه رفض ومقاومة شاملة من قبل أبناء الطائفة الدرزية العربية.
جلاء الذي يدرس الموسيقى في معهد بالقدس، ترعرع في بيت موسيقي لا يؤمن برفع السلاح والالتحاق بالتجنيد الإجباري. لم يكن جلاء الوحيد في عائلته الذي لم يلتحق بالجيش، جده شفيق زاهر كان من أحد المناضلين ضد الاحتلال الإسرائيلي ما بعد النكبة، كما لم يلتحق والد جلاء وأعمامه وأخوه الاكبر لم يلتحقوا بالجيش ايضاً. ولكن قرار عدم التجنيد ليس خياراً سهلاً، فالتجنيد الإجباري في إسرائيل مفروض بحسب قانون خدمة الأمن يطبق على كل شخص بلغ 18 عاماً من عمره ويحمل المواطنة أو الإقامة الإسرائيلية. وفي حين تم إعفاء العرب الفلسطينيين من حاملي الجنسية الإسرائيلية من الخدمة الإجبارية في البداية، تم تغيير هذا القرار عام 1956 وفُرض التجنيد الإجباري على الشبان العرب الدروز غير المتدينين(بينما تعفى النساء من ذلك). هذه الخطوة كانت الاولى ضمن عدة خطط قامت بها اسرائيل لفصل الدروز عن باقي الفلسطينيين.
Videos by VICE
دخولي للسجن كان أرحم لي من لبس البدلة العسكرية والخضوع إلى أوامر غير مقتنع بها
بعمر 15 عاماً، بدأ جلاء باستلام أوامر تجنيد للذهاب الى مراكز التجنيد ليتم تصنيفه للوحدة المناسبة. يتم استلام أوامر التجنيد بالبداية باللون الأخضر، وفي حال لم ينفذ أمر التجنيد، يرسل الجيش أمر التجنيد باللون الأحمر والذي يعتبر بمثابة إنذار نهائي، كالتي استلمها جلاء في حينها كان عمره 19 عاماً، وكان قد انهى دراسته الثانوية على أمل الالتحاق بالدراسة الجامعية. “عندما بلغت 19 سنة، ذهبت لتسليم نفسي لأقرب مركز شرطة، وتم حَبسي لمدة 14 يوماً،” يتذكر جلاء هذه الأيام بمرارة ويضيف: ” أذكر أن أول 3 أيام كانوا الأكثر صعوبة فكنت استيقظ على وأنام على صراخ الضباط. هذه المرحلة التي مررت بها كانت من أصعب مراحل حياتي، ولكن دخولي للسجن كان أرحم لي من لبس البدلة العسكرية والخضوع إلى أوامر غير مقتنع بها.”
ويفرض القانون الاسرائيلي الخدمة العسكرية على الرجال لمدة ثلاثة أعوام والنساء لعامين ويعفى اليهود المتشددون من الخدمة إذا كانوا يتابعون دروسا دينية والنساء المتزوجات والشبان الدروز المتدينين، لكن يجب عليهم إبلاغ الجيش للحصول على الإعفاء واتباع إجراءات معينة. اما من لا يشملهم الاعفاء فيجب ان يتقدموا للخدمة وهم عرضة للاعتقال في حال تخلفهم.
يشير جلاء، الذي تم حبسه انفرادياً في زنزانة مساحتها لا تتجاوز متر* متر خلال فترة التحقيق الاولى، إلى أن معظم السجناء الذين كانوا معه في السجن كانوا شباب من الطائفة الدرزية منهم رافض للتجنيد والنصف الآخر، من قطع فترة التجنيد ولا يريد إكمال الفترة المتبقية له.”
يبلغ عدد أبناء الطائفة الدرزية في فلسطين حوالي 130 ألف نسمة يعيشون في كل من الجليل والكرمل والجولان المحتل، وقد صادر الاحتلال في عام 1948 نحو 66% من مساحة أراضي تابعة للطائفة، كانت نسبة ممن يعتمدون على الزراعة فيها 96%، وبعدما أفقدت الدروز مصدر رزقهم من خلال مصادرة غالبية الأراضي الدروز، وقامت بإهمال قراهم، تم استخدام فرض التجنيد الإجباري كوسيلة ضغط. ولم تكتف إسرائيل بذلك، بل عملت على فصل مناهج التدريس الدرزية عن تلك العربية في سنوات السبعينات، حيث قامت اسرائيل، في أعقاب هبة شعبية طالبت بإلغاء التجنيد الاجباري في بداية السبعينات، بتشكيل طاقم في وزارة التربية والتعليم مؤلف من مثقفين دروز منتفعين ويهود لإدخال مفهوم الوعي “الدرزي-الإسرائيلي” في مناهج التعليم المعمول بها في المدارس الدرزية والتركيز على “حلف الدم” بين اليهود والدروز (بأن هناك رباط دم بين الدروز واليهود ولذلك عليهم ربط مصيرهم بالدولة اليهودية) في المدارس الدرزية حتى يتوقف الشاب الدرزي بالتشكيك في ماهية التجنيد الإجباري. وللاستفادة من معرفتهم باللغة العربية ولتعميق الانقسام بين فلسطيني الشعب الواحد، يتم بالعادة وضع الجنود الدروز على الحواجز ونقاط التماس في الضفة الغربية وغزة سابقاً.
وضع الطائفة الدرزية اليوم مزري جداً على جميع المستويات، من مستوى تعليم متدني، انعدام مناطق صناعية وفرص تشغيل، بنى تحتية غير موجودة أو غير مكتملة، اضافة الى الفقر والعنصرية من قبل الدولة
وتلعب القوى الوطنية الدرزية، مثل لجنة المبادرة العربية الدرزية وحراك “أرفض. شعبك بيحميك” وآخرون، دوراً مهماً في توعية الشباب لرفض التجنيد الاجباري، كما أن السياسات العنصرية الإسرائيلية ضد العرب بما فيهم الدروز، الذين يتم التعامل معهم كمواطنين درجة ثانية، دفعت بالكثير من الشباب لاتخاذ قرارهم برفض التجنيد الإجباري.
“التجنيد الإجباري لم يشفع للطائفة الدرزية لتحصيل المساواة،” تقول ميسان حمدان، إحدى مؤسسات حراك “ارفض شعبك يحميك” وهو حراك شبابي، غير حزبي وغير محصور بإطار طائفي يضم شباب وشابات من مختلف المناطق والمذاهب ويرتكز على قيم إنسانية، وعلى تثبيت الهوية العربية الفلسطينية تم تأسيسه سنة 2014. وتضيف: “وضع الطائفة الدرزية اليوم مزري جداً على جميع المستويات، من مستوى تعليم متدني، انعدام مناطق صناعية وفرص تشغيل، شح الميزانيات، انعدام تخطيط خطط هيكلية للقرى الدرزية وبنى تحتية غير موجودة أو غير مكتملة، اضافة الى الفقر والعنصرية من قبل الدولة.”
في ظل كل هذا، تحاول إسرائيل التشديد على الشبان الرافضين للخدمة، ومنهم جلاء الذي يقول أنه بعد أسبوعين من السجن، ساءت حالته الصحية والنفسية وتم الإفراج عنه بناءاً على طلب من الطبيب العسكري، ولكن كان عليه التعهد في العودة الى القاعدة العسكرية بعد 24 ساعة. “مكثت في المنزل لمدة شهر كامل ولم أغادره لعدم التعرض لاي نقطة تفتيش او سؤالي من قبل الشرطة،” يقول جلاء: “هذه الفترة كانت كافية لتقويتي نفسياً ومعنوياً لتجديد رفضي للتجنيد الإجباري واتخاذ القرار بالعودة إلى السجن، لأنني لم أعد خائفاَ، فأنا لم أرتكب أي خطأ. قمت بتسليم نفسي مرة اخرى وسجنت لمدة 114 يوماً.”
بعد فترات متقطعة من السجن والتي كانت لمدة 126 يوماً، (في البداية تم سجنه لمدة 14 يوم، وبعد اصراره على عدم التجنيد سجن مرة اخرى لمدة 114 يوم)، حيث يتم سجن الرافض بمجرد فعل رفضه وخلال فترة سجنه تتم محاكمته لمعرفة فترة السجن، علماً أن جلاء تمت محاكمته خلال دخوله للسجن للمرة الثانية لأن بالمرة الاولى تم اعطائه فرصة للذهاب الى معسكر التجنيد لكنه رفض وقرر أن يبقى في السجن بدلاً من الذهاب الى التجنيد.
لكي يتمكن جلاء أو غيره من الشباب الدرزي (او الإسرائيلي اليهودي بشكل عام) الحصول على الإعفاء من التجنيد الإجباري يجب ان يكون لديه سبب “مقنع” وهو أحد من الأسباب التالية: أسباب دينية ، أسباب طبية على خلفية مرض جسدي أو إعاقة او على خلفية نفسية، أو يمكن أن يكون رفض التجنيد لأسباب مبدئية ضميرية (يعطى هذا الإعفاء عندما تقرر “لجنة الضمير” في الجيش ان تعترف بأنهم مسالمون، تعترف هذه اللجنة بالمسالمين كأشخاص يناهضون كل أنواع العنف ويمتنعون عنها، بما في ذلك امتناعهم عن العنف كدفاع عن النفس، ولا يتم الاعتراف بمناهضة الإحتلال كسبب مقنع بحسب إسرائيل.
قام جلاء بالحصول على إعفاء طبي على خلفية نفسية عن طريق لجوئه لأخصائي نفسي مدني وحينها حصل على تقارير بأنه يمر بأزمة واضطرابات نفسية لهذا فإنه غير مخول ان يخدم بالجيش وذلك بمساعدة من حراك “ارفض شعبك يحميك” الذي قدم له دعماً قانونياً ومعنوياً وتم توفير المعلومات القانونية ليتم حصوله على الاعفاء من خلال تقديم تقارير طبية للمؤسسة العسكرية. بالإضافة الى ذلك، قام الحراك بالعمل على تحضير ونشر حملة إعلامية لمساندة جلاء، ونشر قصته عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي حيث عبر كثير من الشباب الفلسطينيين من مخيمات الشتات في فلسطين وخارجها عن مساندتهم لـ جلاء.
وتقول المحامية هدية كيوف، من شبكة دعم الرافضين والممتنعين عن التجنيد الإجباري في الحراك والتي قامت بمرافقة جلاء وشباب دروز آخرين رافضين للتجنيد الإجباري فيما يتعلق بدور الحراك بحصول الشباب على الإعفاء: “عادة يتوجه الشباب لطلب مساعدة الحراك في مرحلة من مراحل التجنيد، إن كان قبل التجنيد أو خلال فترة التجنيد، حينها يقوم الحراك بطرح المسارات لرفض التجنيد على الشباب ان كان (طبي، ضميري، ديني) والشرح عن كل مسار والإجراءات الخاصة فيه، كما ونشرح إيجابيات وسلبيات وصعوبات كل مسار التي يمكن أن يواجهها الشاب وكيف يمكن أن يحصل على إعفاء وعن احتمالية الاعتقال. يقوم الحراك أيضا بمساعدة الشباب في كيفية اللجوء للطبيب المدني وكيفية الحصول على التقرير الذي يخولهم الحصول على الإعفاء، يتم مرافقة الشباب من أول الطريق حتى الحصول على الاعفاء.”
هناك جندي إسرائيلي في كل المدارس الدرزية يقومون بتكريس الشائعات حول كل ما يتعلق برفض الخدمة العسكرية والامتناع عنها مثل: إن لم تخدموا بالجيش لا يمكنكم الحصول على رخصة قيادة، قرض إسكان، تأشيرة سفر
بعد خروج جلاء من السجن من بعد حصوله على إعفاء لقى الكثير من الترحيب والتشجيع من الشباب الدروز والمجتمع الذي يعيش فيه، لكن حسب اقوال جلاء أن هنالك العديد من الشباب الدروز الذين يتمنون القيام بمثل فعله إلا أن سياسة التخويف التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية تجعلهم يفكرون مرتين قبل الإقدام على ذلك: “هناك جندي إسرائيلي في كل المدارس الدرزية او اكثر يقومون بالشرح للشبان عن الوحدات التجنيدية ويقومون بتكريس الشائعات حول كل ما يتعلق برفض الخدمة العسكرية والامتناع عنها مثل: إن لم تخدموا بالجيش لا يمكنكم الحصول على (رخصة قيادة، قرض إسكان، تأشيرة سفر الدراسة في الجامعة والكلية، أو أن تصبح طبيباً أو محامياً او العمل في مؤسسات حكومية أو خاصة) علماً أن كل ما سبق لا يمت للواقع بصلة، فهذه مجرد اشاعات. فالقانون يمنع التمييز في التشغيل والعمل على خلفية عرقية، قومية، جندرية، دينية وتوجهات سياسية وكذلك على خلفية الإمتناع عن الخدمة العسكرية.”
مع سن قانون القومية اليهودي في الكنيست الإسرائيلي، والذي يُعرف اسرائيل بأنها الدولة القومية للشعب اليهودي وأن “حق ممارسة تقرير المصير القومي في دولة اسرائيل خاص بالشعب اليهودي،” ارتفعت مزيد من الأصوات المماثلة لصوت جلاء برفض التجنيد الإجباري وربط مصيرهم مع اليهود. وقدم قادة الطائفة الدرزية في إسرائيل هذا الاسبوع من ضمنهم ثلاثة أعضاء كنيست، التماس لمحكمة العدل العليا ضد القانون،بدعوى أنه بمثابة خطوة متطرفة تشكل تمييزا ضد الأقليات في الدولة.
كما أعلن النائب الدرزي وعضو الكنيست الإسرائيلي زهير بهلول استقالته من الكنيست احتجاجًا على سن القانون، فيما قال ضابط شادي زيدان، نائب قائد فرقة في وحدة قتالية في الجيش الإسرائيلي، أنه ينوي مغادرة الجيش احتجاجا على القانون وتبعه الضابط، النقيب أمير جمال الذي قال في رسالة على فيسبوك: “استيقظت صباح اليوم للعودة الى قاعدتي، وسألت نفسي، لماذا؟ لماذا علي أن أخدم الدولة؟ بعد تفكير مطول، قررت مغادرة الجيش وعدم إكمال خدمتي” كتب أمير منادياً أيضا لإنهاء الخدمة الالزامية للدروز.
على الرغم من كل المراحل الصعبة التي قد مر بها جلاء لحظة دخوله إلى السجن حتى حصوله على الإعفاء الا أنه سعيد بقراره: “لقد تخطيت اليوم كل المراحل الصعبة وأصبحت بالماضي. الآن كل ما اطمح له هو أن اصبح عازف كمان مشهور، وأن أكون مثالاً ومسانداً للشباب الدروز الرافضين للتجنيد.”