منذ عرفت نفسي ووالدي لم ينفكا يذكراني بأهمية أن تكوني لي هوية خاصة. “بدي تكون شخصيتك قوية ومستقلة، وما تخلي أي شخص يحدد لك مين بتكون وكيف بتعيش حياتك،” لطالما رددت أمي هذه الكلمات. ظننت حينها أنني أكثر الأولاد حظًا، فمن منا لا يرغب بأن يحظى ببيئة داعمة كتلك، حيث له مطلق الحرية في اختيار الشخص الذي يغدوه.
ولكن قبل أن أبدأ بتكوين الخليط الذي أصب منه هويتي، كان علي اكتشاف معنى “هوية..” تلك الكلمة التي يرددها البالغون في أحاديثهم الجدية فقط. وعندما سألت أبي بسذاجة عن معناها، قال لي: “الهوية هي الصفات التي تنسبها لنفسك لما تعرف عنها، يعني هي جوابك على سؤال (من أنت؟).”
Videos by VICE
من أنا؟
أنا يمني لأن أبي كذلك، وبالرغم من أن أمي سورية، فلا بد لي من الإنتساب ليمانيتي وتاريخ بلادي العريق. كيف لا أكون يمنياً، بينما أذكر على الدوام بأن من ينكر أصله قليل شرف؟ منذ البداية، تم تحديد جزء أساسي من هويتي، دون أي قرار لي بذلك.
اختير لي أن أكون ذكراً أيضًا، وما يقتضيه ذلك في مجتمعنا من صفات كالقوة والشجاعة والاتزان والقدرة على تحمل المسؤولية، والامتناع عن التعبير عن أي مشاعر كالبكاء بالطبع. حتى مشيتي وملابسي كانت محددة سلفاً، “أمشي مرفوع الأكتاف ثابت الخطوات.” ارتدي ملابس “تليق بهيبتك كرجل” كان أبي يردد، فلا يحبذ أن يكون لباس الرجل مبهرجاً وملوناً. كما يجب أن يكون صوتك مهيباً وأن تكون مولعًا بالنساء.
خارج تلك المعطيات الأولية، كانت جميع الإشارات المجتمعية الضمنية تشير لوجود نمط حياة واحد مقبول. نموذج “ذكوري” مواكب للعصر يتضمن الكم المناسب من الاجتهاد العلمي والنشاط الثقافي والبدني. كل تلك كانت هويات لم يكن لي يد في تشكيلها. التعاليم كانت في غاية الوضوح. ومعنى الهوية كان صلباً صعب التغيير. اكتشاف هويتي الخاصة تحول لحلم بالهوية معلق بمجموعة من الأهداف كان يجب على إنجازها.
تحولت رحلة اكتشاف هويتي إلى بارادوكس ولغز، لم يكن من السهل علي فكه. كان هناك هوية معدة مسبقًا، في مقابل وهم بأهمية البحث عن الذات. ما تحدث عنه أهلي من انفرادية في رسم الهوية، كان في الواقع مجرد تلوين بين سطور كتبت بالفعل. الانفرادية متاحة فقط في وضع لمسات نهائية طفيفة على الهوية، بعض اللمسات غير المرئية، التي لا تعكر التماهي مع الكتلة المجتمعية، كاختيار ما أفضله من موسيقى وفن وفرق رياضية -ليس لأن المجتمع ليس لديه اقتراحات معينة كذلك فيما يخص الفن والرياضة، إلا أن تلك الاقتراحات من الممكن عدم الأخذ بها دون التعرض للأحكام.
في ظل كل هذه التحديدات المسبقة، كانت عملية صناعة هويتي الخاصة محكومة بالفشل؛ فشل مرتبط بالعملية المجتمعية في صناعة وتعميم الهوية، وناتج عن تناقض ساحق بين الهوية المفروضة مجتمعيًا، والحقيقية الذاتية التي تظهر فقط كأصوات هامسة تحت ركام من اقتراحات المجتمع. الهوية التي تمثل المحرك الأساسي في عمل ديناميكية الذات، تحولت لضمير غائب (مستقبلي)، وما حضر منه وضعه المجتمع إكراهًا حيث قد لا ينتمي، ثم ما يؤدي إليه ذلك من قلق، واكتئاب وخوف من الفشل.
لطالما شعرت بأن انتمائي ليس محصوراً في اليمن، فقد عشت طفولتي في سوريا قبل ذلك، ووجدت أن ما اختبرته في اليمن كان مجرد جزء من تجارب كثيرة تراكمت لتكوين شخصيتي. التجارب التي خضتها هناك -رغم أن بينها الكثير من الذكريات الدافئة- كان جزء كبير منها مشوه بالحرب والرفض والخوف، ومشاعر لا أحبذ اختبارها مجددًا وأريد الهروب منها.
بعيداً عن الجنسية، فأنا لم أجد نفسي أيضًا في القواعد المرفقة بنموذج الذكورية، فأنا أبعد ما يكون عن ما يصنفه المجتمع بالرجل الشرقي، لدي روتين يومي للعناية بالبشرة، وحركاتي غير مقيدة بصلابة مُرهقة. ونتيجة لرفضي الكثير من القواعد المجتمعية، لطالما ردد الذين حولي مقولة “خالف تُعرف” ساخرين من اعتراضي على مواقفهم فيما يخص معظم القضايا. وبينما اعتراضي ذاك كان مبالغ فيه تارة كونه نابعًا عن ردة فعل عاطفية تجاه القمع المجتمعي، إلا أنه كان موزونا أحياناً كثيراً، فأفكارهم ببساطة لم تناسبني، بل ولا زلت أراها حتى اليوم مغلوطة ومتناقضة ومنافقة.
هم يصنفون الجنس قبل الزواج خطيئة، والعنف بعد الزواج أمور عائلية. يملئون هواتفهم بالأفلام الإباحية، ويتحدثون عن العفة في المساجد. كانت تناقضاتهم أوضح من أن أتجاهلها، حتى بات من البديهي الابتعاد عنها، فلم يوحِ المجتمع ككتلة جامعة بأي قدر من الكفاءة لاتخاذ القرارات فيما يتعلق بهويتي. تلك الهوية النمطية التي رسمت في حيز بعيد عن واقع الإنسان العادي، كلفتني سنين مراهقة مُثقلة بالسعي لاقتناء مثاليات مُعلبة فوق رفوف لطالما كانت أعلى من متناولي.
ولأن هذه الهوية يتخللها ذلك الكم من الاضطراب، فهي تجد نفسها تعمل وفق غريزة النجاة؛ الهروب أو القتال. خيار الهروب الذي يتمثل في حالات الانتحار المرتفعة في جيلنا، والادمانات السلوكية والمادية التي نلجأ لها للهروب من واقعنا الحاضر. أما خيار القتال، فيتمثل في توجه متطرف في صناعة الهوية، ورفض كل الأنماط المجتمعية وبناء هوية فردية. ولأن التطرف خيار صعب يضع المتطرف في مواجهة المجتمع، يقضي الكثيرين حياتهم دون التجرأ على ممارسة أي نوع من الرفض.
بالنسبة لي، ساعدتني الظروف على اتخاذ قرار التطرف، فقد انتلقت للعيش والدراسة في لبنان، وهناك بدأت حياة أكثر استقلالية. لم يكن لدي الكثير من المعارف في بيروت، ولهذا وجدت للمرة الأولى المساحة لاكتشاف نفسي بعيداً عن آراء الناس وأحكامهم الجاهزة. في تلك الفترة بدأت بالتخلي عن الأمان والانتماء الذي توفره الكتلة المجتمعية لمن يتبع نموذجها، واتخذت التطرف كخطوة أولى لخرق حاجز الخوف والوقوف في منأى عن اقتراحات المجتمع وتفنيدها خارج سياق النجاة.
لم يعد السؤال من أنا، بل تحول إلى من الذي أريد أن أكونه؟
بدأت برفض الأحكام الجاهزة والأفكار الُمعلبة. عندما اعتبروا أن الأقراط للنساء فقط، لهذا وضعت في أذني ثلاث منها. وحين منعو البكاء عن الرجال، جعلت من بكائي فسحة يومية. ولما قللوا الدين إلى نبي وملائكة وشياطين، توجهت إلى الله بأسئلتي. لم يكن ذلك مجرد نوع من العصيان الأعمى، بل محاولة حقيقية لمعرفة نفسي بعيداً عن الخوف والقوالب الجاهزة. فكرت حينها أنني إذا عارضت اقتراحات المجتمع جميعها، فلن أكترث لآرائهم بعد ذلك. وعندها فقط سأتمكن من انتقاء هوية تتجانس مع عقليتي بعزلة عن نظرة المجتمع الحاكمة.
ولكن على الرغم من فردانية تجربتي، لم أكن وحيداً في هذا الصراع حول الهوية. تبين لي في بيروت بعد انخراطي في دائرة اجتماعية من أصدقاء ذوي خلفيات مشابهة، هو أن صراع الهوية حقيقة مشتركة بين شريحة كبيرة من الشباب العربي. فأولويات واهتمامات الكثير منا تتناقض جذريًا مع المجتمع.
ولذلك، قد نستطيع جميعنا أن نستفيد من التطرف كفلسفة وأسلوب حياة يساعدنا على مواجهة أنفسنا بشفافية، وكسر تناقضات مجتمع يتمنى سرًا ما يلعنه علنًا. بالطبع، أنا لا أدعي أن طريق التطرف قدم لي جميع الإجابات فيما يتعلق بهويتي، بل على العكس، فهو أوضح لي أن الهوية مفهوم دائم التحول وليست وجهة ثابتة نكتشفها ونرتاح عندما نصلها.
صناعة الهوية عملية مستمرة من البحث الشخصي تحيل نفسها إلى التجديد بما يجاري طباعنا المتغيرة. فالهوية التي أقتنيها اليوم قد لا تناسبني البتة في المستقبل القريب، وقد أضطر عندها إلى إعادة صياغة نفسي من جديد، وسأقوم بذلك –من جديد- ولكن بعيداً عن عبء الانتماء.