بعد ثلاثين سنة يفتح أبو يوسف، مرطبان الأرز الذي موّنه لأيام “الجوع” ويصف بأسىً يشوبه فخر بقدرته التدبيرية هذا المشهد بحضور بناته وقريبه الشاب الذي ساعده بفتح المرطبانات المغلقة بإحكام شديد: “ولا بحياتهن تخيلوا هالشي رح يصير، ضلوا يتمسخروا علي بس ليكو صار، قلتلهن ما صدقوا.”
يروي أبو يوسف الرجل الستيني قصة “المؤونة العجيبة” إذ كان قد موّن 50 كيلو من الرز والبرغل والسكر عند شرائه لبيته. كان أبو يوسف يعمل في معمل زجاج في الصباح، وسائق ميكروباص مساءً وعندما صار قادراً على شراء بيت، كان حريصاً على بناء سقيفة مع رفوف ليضع فيها مؤونة “لأيام الجوع” على حد قوله. عمل مع زوجته لعدّة أيام على تخزين هذه المونة، وتأكد من إحكام الإغلاق على هذه المرطبانات بحيث يضمن عدم فسادها أو تسلل الحشرات إليها. وأخبر بناته وهن يكبرن بأن هذه المونة ليست لهذا الوقت، ومهما ضاقت الأمور لن يتم استهلاكها، ما جعلهن يعتقدن بأن والدهم “موسوس.” طوال الثلاثين عاماً، منع أبو يوسف الجميع من الاقتراب من مونة البرغل والرز والسكر، حتى جاء وقتها في هذا العام.
Videos by VICE
مع تطبيق قانون قيصر في شهر حزيران الماضي القاضي بتجميد مساعدات إعادة الإعمار وفرض عقوبات على النظام السوري وشركات متعاونة معه، ما لم يحاكم مرتكبو الانتهاكات، إضافة إلى عقوبات على مصرف سوريا المركزي، وعقوبات تطال قطاع الطاقة في البلاد، تأثر الوضع الاقتصادي في هذا البلد الذي عانى تسع سنوات من حرب أهلية دامية ومدمرة. ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، فيما وصل سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية إلى ما يقارب 2,500 -أكثر أو أقل، يتغير سعر الصرف خلال أيام.
جاء تطبيق قانون قيصر مرافقاً لأزمة كورونا التي أوقفت العديد من الأعمال لفترة، ما زاد الضائقة المادية على السوريين الذين وجدوا أنفسهم محاصرين اقتصادياً بسبب النقص في المواد الأولية. ورغم دعم الخبز من الحكومة السورية، أشار تقرير لرويترز بـ نقص حاد في الخبز يلوح في سوريا، فيما يعتبر قطاع الدواء من أكثر القطاعات التي تأثرت بالعقوبات، حيث توقفت عدد من المعامل عن العمل بسبب ارتفاع أسعار المواد الأولية وعدم تناسبه مع القدرة الشرائية أو حتى الأسعار المفروضة من الحكومة، كما تم إغلاق الكثير من الصيدليات، فيما يصطف الناس في طوابير طويلة أمام الصيدليات التي لم تقفل. كما حذر رئيس برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، ديفيد بيسلي في حديث مع BBC من “إن نحو مليون شخص في سوريا يواجهون خطر المجاعة، مالم تتوفر المساعدات الفورية، وإن قرابة نصف السوريين ينامون جوعى.”
انهيار العملة الوطنية وارتفاع الأسعار أدى لفقدان الأجور والرواتب والمدخرات لأكثر من ثلث قيمتها الشرائية خلال أيام بالنسبة للسلع التي لا تدعمها الحكومة كالسكر والرز والخبز، في الوقت الذي يعيش أربعة من بين خمسة أشخاص من السوريين تحت خط الفقر حسب تقرير اليونسيف، إذ تسببت المشاكل التي تعاني منها سوريا على مدار سنوات بانهيار تدريجي للعملة السورية قبل قانون قيصر الذي تسبب بالانهيار الأخير والأسرع.
أبو يوسف يعمل كسائق شخصي براتب 60 ألف ليرة، سورية وتساعد زوجته بالدخل إذ تعمل في صالون تجميل لتحصل شهرياً على حوالي 30 ألف ليرة سورية. قبل قانون قيصر كان دخل العائلة يعادل 100 دولار شهرياً، وكان مبلغاً كافياً بالنسبة له مع تدابيره الاقتصادية السنوية، حتى أصيبت ابنته الصغرى بالفشل الكلوي. مع بدء تنفيذ قانون قيصر، انخفضت قيمة المدخول الشهري لعائلة أبو يوسف إلى أقل من 50 دولار تقريباً، ومع ارتفاع أسعار قطاع الدواء، وصل سعر الإبرة الواحدة التي تحتاجها ابنته إلى 15 ألف ليرة (ما يعادل 8 دولار تقريباً)، وعليها أخذها مرتين أسبوعياً مع عملية الغسيل الكلوي التي تكفلت بها الجمعيات الخيرية.
كان هذا الوقت الذي استعدّ له أبو يوسف منذ زمن طويل، فرغم انهيار الليرة السورية على مدار سنوات، لم يتخيل أحد انهياراً كهذا يفقده أي فرصة في النجاة مع محاولات تقنين الاستهلاك. الآن، بدأت عائلة أبو يوسف باستهلاك المونة التي أعانتهم على تدبير أمور المعيشة اليومية، ورغم “تدبيره” لا يزال أبو يوسف قلقاً: “هذه المؤونة ستطعم عائلتي لفترة من الوقت وتسمح لي بشراء الأدوية لأبنتي، ولكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر إلى الأبد.”
وعلى الرغم من عدم صعوبة الوضع على الجميع، إلا أن كثيرين قد يعتبرون أبو يوسف محظوظاً. خالد شاب في الثلاثين من العمر، كان قد ساعد أبو يوسف في فتح المرطبانات محكمة الإغلاق، يتحدث عن كيف تأثرت حياته بعد قانون قيصر. يمتلك خالد ملحمة لحم عجل لها سمعة جيدة، بعد عمله لسنوات كمساعد لحّام استطاع أن يكون “المعلم” الآن، ووجد أنه في حالة اقتصادية تسمح له –على عكس الكثير في سوريا- بالزواج وفتح بيت.
يقول خالد أنّ عرسه قريب، ولم يتخيل أبداً أن يتأثر مادياً بقانون قيصر: “زباين الملحمة مرتاحين مادياً وقلت رح يضلوا الزباين نفسهن، بس حتى هدول الأغنياء ما عاد كتير اشتروا” إذ تضاعف سعر كيلو اللحم إلى 14 ألف ليرة في محله بعد أن كان يبيعه ب 5،000 ليرة أو أكثر بقليل حسب نوع اللحم، فلم يعد الزبائن قادرين على الشراء، أو يقصدون ملحمة أخرى أرخص وأقل جودة. يكمل خالد: “كنت اكسب شي 500 ألف (500 دولار قبل هبوط الليرة /250 أو أقل الآن) وهيك بقدر ادفع اجار بيت واتجوز وبكون مرتاح يعني، بس هلق يادوب 200 ألف، بعد ما خطبت البنت شو قلها؟ ما بقدر عيشك عيشة كريمة متل ما وعدتك؟” اضطر خالد لإلغاء حفلة العرس بسبب الوضع الاقتصادي، وسيكتفي وزوجته بحفل عائلي صغير.
أما حيان (اسم مستعار)، 25 عاماً، فيشير إلى أنه انتقل مؤخراً من السويداء إلى دمشق للعمل في وظيفة في شركة اتصالات منذ شهرين، ولأنه موظف تحت التدريب فإن راتبه هو 50 ألف ليرة، أي ما يعادل 25 دولار بعد هبوط الليرة إثر قانون قيصر: “راتبي قد أجار البيت اللي قاعد فيه، أهلي عم يدفعوا الإيجار على أمل بعد التثبيت اقدر استقل، بس هلق صار مستحيل، ما بكفي غير بس جيب أكل واطلع اتنفس مرة بالاسبوع وبلاقي الراتب اختفى.”
يشعر حيان بالخيبة بعد أن حلم طوال سنوات دراسته بهذه الوظيفة ثم الاستقلال مادياً، لكنه على حد قوله “عايش عالحلم” إذ يقوم بتعلم مهارات جديدة مثل البرمجة كي يستطيع مستقبلاً العمل في أكثر من وظيفة لتأمين نفسه دون مساعدة عائلته، وإلا فإنه سيترك الوظيفة التي لا تستطيع سدّ أقل الحاجات اليومية ليعود إلى السويداء معلقاً شهادته على الحائط ويعمل في الأرض.
ولكن حتى من يعمل بعدة وظائف لا يستطيعون تدير أنفسهم. يقول سعد (اسم مستعار)، 27 عاماً، أنه يعمل بالفعل في أكثر من وظيفة في دمشق ولكنه لا يزال يحتاج مساعدة أهله الذين يسكن معهم: “أعمل كمصمم غرافيك و voice over لصالح شركة إعلانات، كما أعمل في المجالات نفسها كفريلانسر لشركات مختلفة وطلبات خاصة، وكل ذلك لا يكفي للعيش بدون مساعدة أهلي، المواصلات عم تكلفنا الراتب كله.” يقول سعد أن المواصلات إلى مكان دراسته وعمله تكلفه ما يقارب 15 ألف ليرة إذا استخدم المواصلات العامة، لكنه بسبب كورونا صار يستخدم سيارات الأجرة لفترة ما يكلفه 60 ألف ليرة وهو محتار الآن بين التعرض لخطر الإصابة بكورونا أو صرف كل ما يملك على سيارات الأجرة. يضيف حيان: “غير التكاسي معاشي بروح على الجامعة، فنجان قهوة وسندويشة وباكيت دخان بلاقي حالي صرفت 5،000 ليرة بساعتين.”
تواجه العائلات ذات الدخل الواحد مشكلة أكبر، تخبرنا السيدة نور (اسم مستعار)، 52 عاماً بأنها رغم سكنها في منزل ملك لا تستطيع تدبر المعيشة الشهرية. تحصل السيدة نور على راتب تقاعدي بمبلغ 59 ألف ليرة سورية وهي المعيلة الأساسية لابنتيها الجامعيتين: “بموّن يلي بقدر مونه بس مو ليكون فيه مصاري كافية لنقدر نموّن؟ البنات لازمهن تياب ومصاريف جامعة وما بتكفي المصاري. ابني سافر من 4 سنوات على هولندا، ويبعتلنا كلما قدر، ولولا المصاري اللي بيبعتها صعب نكفي.” تذكر السيدة نور الحاجات المختلفة مثل الموبايل وإصلاحات المنزل وفواتير الكهرباء والماء “القصة مو بس أكل وشرب” وعن بناتها تخبرنا بأنهن يعملن في العطلة، لكنها ترغب أن يتفرغن لدراستهن لأنها لا تريد أن يعتمدن على أحد في المستقبل.
لم يمض سوى شهر واحد على قانون قيصر، ولكن الأوضاع الاقتصادية تتدهور يوماً بعد يوم. ولكن هناك بعض المبادرات الشبابية التي تحاول إنقاذ الوضع، من محاولات تأمين بعض الأدوية من تبرعات شخصية للصيدليات، إلى محاولات المهاجرين تجميع ما يستطيعون جمعه للتكفل ببعض العائلات. أيضاً تقوم منصة على الفيسبوك تدعى (شوفي فرص؟) بمحاولة تأمين فرص عمل عن بعد من خارج سوريا، بالإضافة إلى مبادرة (كنان) إذ يقوم شاب مجهول الهوية يدعى كنان بجمع التبرعات للمحتاجين عبر عرض الحاجة على صفحته على فيسبوك.