“فشل أخلاقي كارثي” هكذا وصف مدير منظمة الصحة العالمية تيدروس غيبريسوس، صراع وتسابق الدول الكبرى الغنية وتهافتها على شراء ملايين لقاحات كورونا لتطعيم مواطنيها في ظل عدم تمكن الدول الفقيرة من الحصول على أي جرعات. وأضاف: “ما لا يقل عن 49 دولة ذات دخل أعلى بدأت بطرح لقاحات كوفيد، مقارنة مع دولة واحدة ذات دخل منخفض أبلغت عن أول 25 جرعة. ليس 25 مليون. ليس 25،000. 25 فقط.”
تصريحات غيبريسوس، جاءت بعد تسابق الدول الكبرى الغنية على شراء وحجز ملايين من اللقاحات المصنعة حديثًا حتى منتصف العام الحالي 2021، الأمر الذي سيأخر وصولها للدول الفقيرة إلى ما بعد منتصف العام الحالي أو بداية العام القادم 2022، وهو ما ينذر بتدهور الحالة الصحة في تلك الدول التي تعاني من تهالك نظامه الصحي وقد يضاعف خطورة تطور الفيروس في تلك المجتمعات الأكثر فقرًا خلال المرحلة القادمة، ومن شأنها التأثير على استمرار نشاط الفيروس بين ملايين البشر في حال تعذر حصولهم على جرعات اللقاح بشكلٍ متساوي مع باقي مواطني الدول الغنية.
Videos by VICE
الدول الغنية تشتري أكثر من حاجتها
صرح تحالف لقاحات الشعب الذي يضم عدة مؤسسات دولية منها منظمة الصحة العالمية وأوكسفام “ما لا يقل عن 90٪ من الناس في 67 دولة منخفضة الدخل لديهم فرصة ضئيلة للتلقيح ضد كوفيد -19 في عام 2021 لأن الدول الغنية احتفظت بأكثر مما تحتاجه.” الدول الغنية والتي تضم 14٪ فقط من سكان العالم، اشترت 53٪ من اللقاحات.
المشكلة في تعامل الدول الغنية مع اللقاحات متشعبة. هناك دول اشترت أكثر من حصتها العادلة من لقاحات فيروس كورونا، تتصدر كندا القائمة بعد أن حصلت على 8.9 جرعة لكل فرد وهو ما يعادل لقاحات كافية لتطعيم كل مواطن خمس مرات. ومن ثم تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثانية بعد حصولها على 7.3 جرعة لكل فرد – وهو ما يكفي لتطعيم كل أمريكي أربع مرات تقريبًا – وستؤدي صفقات المملكة المتحدة إلى 5.7 جرعة لكل فرد، وهو ما يكفي لتطعيم كل فرد في البلاد ثلاث مرات تقريبًا. وقد انتقد هيئات انسانية تكديس هذه اللقاحات التي يمكن أن تذهب إلى البلدان الفقيرة.
بحسب التقارير، منحت الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي مواطنيها حوالي 24 مليون جرعة حتى الآن -أكثر من نصف الجرعات التي يتم إجراؤها على مستوى العالم- في حين لم تبدأ أعداد كبيرة من الدول حملات التلقيح بعد. وقد حصلت البلدان مرتفعة الدخل على 85٪ من لقاح فايزر وجميع موديرنا وفقًا لشركة الأبحاث Airfinity في لندن. فيما يعتمد الكثير من العالم على شركة صناعة الأدوية في المملكة المتحدة استرازينيكا التي يعتبر لقاحها أرخص وأسهل في التوزيع إلى جانب الشركات المصنعة الأخرى من الصين وروسيا.
وليس هذا فقط، بل أن كثير من اللقاحات الموجودة في هذه الدول يتم التخلص منها ورميها. بحسب تقرير لصحيفة الاندبندنت بمجرد إخراج لقاح فايزر من التخزين على درجة -70 درجة مئوية، يجب استخدامه في غضون أيام. ولكن لأن بعض المراكز الطبية في بريطانيا مثلاً تتلقى لقاحات إضافية لأسباب مختلفة، فغالبًا ما يكون هناك جرعات إضافية متبقية في نهاية اليوم لا يتم استخدامها. وبحسب الأرقام فأنه يتم التخلص من 1،000 إلى 3،000 جرعة في اليوم. هذه الجرعات التي تلقى في سلة المهملات، بعض البلدان الأخرى تتمنى أن تصلها.
الأغنياء في العالم استغلوا كل هذه الفروقات لصالحهم. بعض الأغنياء والمؤثرين من الدول العربية -ممن لديهم إقامة- يختارون السفر إلى الإمارات للحصول على اللقاح، المتوفر مجاناً لجميع المقيمين. كما أشار تقرير لـ VICE أن هناك الكثير من رجال الأعمال والمشاهير من أعضاء نادي نايتسبريدج سيركل (يدفع الأعضاء 25،000 جنيه إسترليني سنويًا لرعايتهم من قبل مدراء شخصيين يعتنون بكل احتياجاتهم داخل بلادهم وخارجها) يقومون بالسفر إلى الإمارات أو الهند، حيث يتم تنسيق حصولهم على لقاحات. وقال نيك ديردن، مدير مجموعة العدالة العالمية الآن في التقرير: “من غير المقبول أن يتمكن الأثرياء من استخدام أموالهم للحصول على اللقاح قبل العمال الأكثر ضعفًا أو الطواقم الطبية الذين أبقونا قادرين على العمل طوال العام الماضي. لقد أظهرت الأبحاث أن المزيد من الناس سيموتون إذا تم تطعيم الأغنياء أولاً، بدلاً من توزيع اللقاح بشكل عادل.”
عنصرية اللقاح
منذ بداية الإعلان عن إنتاج لقاحات فيروس كورونا، سارعت “إسرائيل” للتعاقد مع كبرى الشركات المنتجة لشراء كميات كبيرة، حيث تعاقدت مع شركة فايزر الأمريكية لشراء 8 مليون لقاح، وتعاقدت مع شركة بيونتيك الألمانية لشراء 6 مليون جرعة، للإسرائيلين البالغ عددهم قرابة 9 مليون. وتفاخر رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو مؤخرًا أثناء تلقيه الجرعة الثانية بأن إسرائيل ستكون من أولى الدول في العالم التي ستطعم جميع مواطنيها فوق سن 16 عامًا بحلول شهر مارس القادم، بواقع جرعتين لكل مواطن.
وفي الوقت الذي من المفترض أن تقوم إسرائيل التي تحتل الأراضي الفلسطينية، وتتحكم بحياة قرابة 4.5 مليون فلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، بتأمين اللقاحات للفلسطينيين الواقعين تحت الإحتلال بحكم القانون الدولي، إلا أن إسرائيل ترفض القيام بذلك حتى الآن على الرغم من دعوة الأمم المتحدة لها لتأمين إمداد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة باللقاحات. ووفقاً لأحدث بيانات منظمة الصحة العالمية فإن معدل الوفيات بين الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة هو (1.1 في المئة)، أما في إسرائيل، فبلغت النسبة ( 0.7 في المئة).
تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين الذين تحتلهم، وُصف بأنه عنصرية واستمرار لممارسات الابرتهايد، وقال عمر شاكر، مدير هيومن رايتس ووتش في إسرائيل وفلسطين: “لا شيء يمكن أن يبرر واقع اليوم في أجزاء من الضفة الغربية، حيث يتلقى اللقاحَ أشخاصٌ على جهة من الشارع ، بينما يحرم منه آخرون على الجهة الأخرى، بناء على ما إذا كانوا يهودًا أو فلسطينيين. يجب أن يحصل كل فرد في الأراضي نفسها على اللقاح بشكل عادل، بغض النظر عن أصله العرقي.”
وتزعم السلطات الإسرائيلية أن مسؤولية تطعيم الفلسطينيين بموجب اتفاقيات أوسلو تقع على عاتق السلطة الفلسطينية. ولكن تُلزم اتفاقية جنيف الرابعة إسرائيل، بصفتها القوة المحتلة، بضمان “الإمدادات الطبية للسكان المُحتلين” بما في ذلك “تبني وتطبيق الإجراءات الوقائية والوقائية اللازمة لمكافحة انتشار الأمراض المعدية والأوبئة إلى أقصى حد من الوسائل المتاحة لها.”
إسرائيل هي فعلياً الدولة المسيطرة على الأرض بالكامل، فهي تسيطر على الحدود والعملة وتجمع الضرائب نيابة عن السلطة الفلسطينية. حتى في مناطق مثل رام الله، التي يُفترض أنها خاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، تحتفظ إسرائيل بالحق في دخول المدينة في أي وقت، وإغلاق الشوارع والمتاجر، واقتحام المنازل، والقيام باعتقالات عسكرية دون إذن قضائي. وبسبب سيطرة إسرائيل على الحدود، فإنه حتى في حال حصلت السلطة الفلسطينية على لقاحات، فإن السماح بدخول هذه اللقاحات من عدمها يعتمد أولاً وأخيراً على قرار إسرائيل.
لم تتمكن السلطة الفلسطينية من شراء الجرعات بسبب تعثرها المالي نتيجة للأوضاع الاقتصادية الصعبة قبل أزمة فيروس كورونا، والتي تفاقمت مع هذه الأزمة، ولهذا فهي ستقوم بشراء بعض اللقاحات حسب استطاعتها، وستعتمد كذلك على مشاركتها في برنامج “كوفاكس” الخاص بمنظمة الصحة العالمية والتحالف العالمي للقاحات والتحصين، الذي يهدف لضمان حصول البلدان ذات الأقل دخلاً على كمية من اللقاحات -تكفي فقط لتلقيح 27% من سكان كل بلد. وتشارك 92 دولة في البرنامج الذي من المفترض أن يوفر ١.٣ مليار جرعة للدول الفقيرة.
ولكن بحسب منظمة الصحة العالمية في تقرير لبي بي سي، فإن اللقاحات التي يتم توفيرها بموجب خطة كوفاكس، وكذلك تلك التي تم شراؤها من قبل السلطات الفلسطينية، ستذهب كلها إلى غزة. لكنها ستواجه تحديات لوجستية بسبب القيود المفروضة على المنطقة التي تخضع لحصار إسرائيلي. ومن المفترض أن تحصل السلطة على 5،000 جرعة من اللقاح الروسي سبوتنيك ستصل عبر المطار الإسرائيلي، وسيتم اعطائها للطواقم الطبية. كما اشترت السلطة 100 ألف لقاح من روسيا، ومن المتوقع أن تصل في شهر فبراير المقبل.
اللاجئين
بعد عام مأساوي على المهاجرين واللاجئين بسبب فيروس كورونا وانعكاساته على حياتهم اليومية، وفقدان الآلاف منهم فرص عملهم، في ظل ضعف الخدمات الصحية المقدمة لهم، كان من المفترض أن يكون عام 2021 عام الأمل بالنسبة لهم بعد اكتشاف لقاحات فيروس كورونا التي بدورها من المفترض أن تعيد الحياة تدريجيًا إلى سابق عهدها -كما كانوا يعتقدون.
لكن عوامل عدة قد تعيق وصول الجرعات لهم، مثل قوانين الدول التي لجأوا إليها والتي تقيد وصول اللقاح لهم على أساس حالة الهجرة، والحواجز اللغوية، إضافة إلى نقص المعلومات الملائمة ثقافيًا والمتاحة حول اللقاح، تلك العوامل وعدم شمول غالبيتهم في التأمينات الصحية حتى الآن، قد يحول دون إدراجهم في حملات التطعيم الوطنية لدول النزوح.
في لبنان، اشترط مؤخرًا، عضو المكتب السياسي في التيار الوطني الحر وديع عقل أن يُعطى اللقاح للبنانيين حصرًا، ضمن اقتراح خطة جديدة لتوزيع اللقاح، وتمويلها من دولارات المواطنين المحجوزة في البنوك، بحسب خطته، في إشارة منه إلى رفض منح اللاجئين داخل لبنان في جرعات اللقاح، لكن على ما يبدو قد فات عقل أن قسمًا كبيرًا من تلك الودائع تعود لغير اللبنانيين. تصريحات عقل أثارت اللبنانيين، ما بين أقلية مؤيدة للاقتراح وغالبية رافضة لطرحه العنصري، ليشتغل تويتر بالتغريدات ما بين هاشتاغ اللقاحللبنانيأولاً وهاشتاغ اللقاح_للجميع. في المقابل، أصبح الأردن أول دولة في العالم تبدأ بعملية تلقيح اللاجئين السوريين المسجلين والموجودين على أراضيها مجاناً.
التمييز التاريخي
العنصرية والتمييز التاريخي يخلقان أيضًا حواجز أمام تطعيم السود، حيث تظهر بيانات اللقاحات الموجودة أن الأشخاص ذوي البشرة السوداء يحصلون على لقاحات أقل مقارنة بنظرائهم البيض. وقد وجد استطلاع أن البالغين السود أقل احتمالًا من المجموعات الأخرى للقول بأنهم سيحصلون على لقاح فيروس كورونا إذا كان مجانيًا وقرر العلماء أنه آمن، مع ذكر معظم مخاوف السلامة أو عدم الثقة في نظام الرعاية الصحية كأسباب، إضافة إلى تجاربهم المستمرة مع العنصرية والتمييز في الرعاية الصحية.
أحد الأسباب التي غالبًا ما يتم الاستشهاد بها للعلاقة المسمومة بين الأمريكيين السود والمؤسسة الطبية، هي “دراسة توسكيجي لمرض الزهري غير المعالج” التي استمرت على مدار أربعة عقود بدءًا من عام 1932، حيث أخبرت الحكومة الفيدرالية مئات الرجال السود المشاركين أنهم يتلقون العلاج من “الدم الفاسد” بينما تم حقن عدد من غير المرضى بمرض الزهري لمعرفة مدى نجاح العلاج. هذا بالإضافة إلى ما فعله جيمس ماريون سيمز، الذي يتم اعتباره بـ “أب أمراض النساء الحديثة” الذي كان يجري أبحاثه وعملياته على النساء السود المستعبدات بدون تخدير في القرن التاسع عشر. العنصرية والتمييز لم تتغير كثيراً، العام الماضي، توفيت طبيبة أمريكية سوداء في مدينة إنديانابوليس، بفيروس كورونا بعد أسابيع من اتهامها طبيبًا بحرمانها من تلقي الرعاية الطبية المناسبة بسبب عرقها.
قد تكون الأحداث التي ذكرناها تعبير عن عنصرية الدول الغنية تجاه الدول والفئات الفقيرة حتى في مجال الصحة العالمية، إلا أن ما جرى في جنوب أفريقيا هو الأكثر عنصرية. حيث يوجد في جنوب أفريقيا مصنع لشركة Johnson & Johnson لتصنيع اللقاحات التي يتم توريدها إلى الدول الأوروبية الغنية، التي حجزت كميات كبيرة من اللقاح المصنع هناك. أما سكان جنوب أفريقيا، الدولة التي تحتضن المصنع، لن يتمكنوا من الحصول على اللقاح قبل منتصف العام الحالي 2021، في الوقت الذي ستكون الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا قد لقحت أكثر من 100 مليون من مواطنيهم. والمحظوظين من السكان -إن صح التعبير- هم من تلقوا جرعات أثناء التجارب السريرية التي أجرتها الشركة المصنعة عليهم.
توفير اللقاحات للجميع هو ما سينهي هذا المرض، العدل هو مفتاح إنقاذ جميع البشر. وإذا كانت الدول الغنية التي تتغنى بدفاعها وتطبيقها لمبادئ حقوق الإنسان، تريد القضاء على هذا الفيروس، فيمكنها على الأقل دعم اقتراح جنوب إفريقيا والهند بالتنازل عن حقوق الملكية الفكرية للقاحات والاختبارات والعلاجات الخاصة بكوفيد-١٩ للسماح للدول المختلفة بتصنيع اللقاحات، حتى تتم حماية الجميع، ولضمان توزيع الجرعات بشكلٍ عادل دون عنصرية.