لا يخلو التايم لاين اسبوعًا واحدًا من تسجيل حالة انتحار أو محاولة انتحار في العراق، وعادة ما تتصدر أخبار الانتحار عناوين الصحف وشاشات التلفاز. في الفترة الأخيرة، تم تسجيل عدة حالات انتحار من خلال رمي أنفسهم من أعلى الجسر، ففي بغداد يمر نهر دجلة على امتداد العاصمة التي تحتوي على 13 جسرًا، ما دعا السلطات العراقية إلى تقديم مقترح بإنشاء حواجز أمان على جسور العاصمة بغداد، لكن لقى هذا المقترح رفضا شعبية وسخرية بين رواد مواقع التواصل كونه لم يعالج أسباب ظاهرة الانتحار، وأنها حلول “ترقيعية” لا “جذرية.”
وقد كشفت مفوضية حقوق الإنسان في العراق إلى حدوث ارتفاع في أعداد حالات الانتحار التي حدثت خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي، مشيرة إلى أنها بلغت 298 حالة انتحار في عموم محافظات العراق. وجاءت بغداد في المركز الأول، بـ68 حالة ومحاولة انتحار خلال هذه المدة، تليها البصرة وذي قار. أسباب اللجوء للانتحار كثيرة في بلد توالت عليه الحروب والحصار وعدم الاستقرار الاقتصادي والأمني. كما كان هناك ارتفاع في حالات العنف الأسري، “مصحوب بجرائم وحشية أدت إلى حرق أطفال أو نساء على خلفية مشاكل أسرية في ظل جائحة كورونا،” بحسب عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، فاضل الغراوي.
Videos by VICE
“المشاكل الاسرية والأسباب الاقتصادية، اضافة الى الضغوط النفسية مؤخرًا بسبب جائحة كورونا، كلها أدت إلى زيادة معدلات الانتحار ومحاولات الانتحار في العراق،” يقول الدكتور علي البياتي، عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان: “كما أن عدم وجود اهتمام بالصحة النفسية والصحة العقلية وعدم امتلاك الدولة خطة واضحة للتعامل مع الظاهرة، أدى إلى ازدياد حالات المشاكل النفسية التي هي واحدة من أسباب الانتحار.”
تقول منظمة الصحة العالمية أن ما يقارب 800,000 شخص يموت بالانتحار حول العالم في الاعمار المتراوحة بين 15 و29 عامًا، وأن حالات الانتحار ترتفع بين الفئات التي تعاني التمييز مثل اللاجئين والمهاجرين والـ LGBTQI والسجناء، والأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب هم الأقرب إلى التفكير بالانتحار.
في العراق، أكد لنا طبيب يعمل في أحد مستشفيات محافظة البصرة (جنوب العراق) فضّل عدم كشف اسمه، تزايد عدد الحالات لشباب حاولوا أو قاموا بالانتحار وتتراوح اعمارهم من 18 عامًا إلى 30 عامًا ويضيف: “لا يمكن القول أن حالات الانتحار هي من أكثر الحالات التي نواجهها، ولكن لا يمكننا في نفس اللحظة إنكار تزايدها في الآونة الاخيرة، إذ تعتبر المحافظات الجنوبية هي الأعلى تسجيلًا لظاهرة الانتحار، ولكن الأرقام الصادرة من السلطات الصحية غير دقيقة بسبب أن أغلب الحالات يتم التستر عليها لأسباب اجتماعية.”
وذكر الطبيب أثناء المقابلة، “نواجه أحيانا ضغط من قبل الأهالي وسلطة العشيرة لمنعنا من تشريح جثة المتوفى للوصول إلى سبب الوفاة، وهذا يعود لسببين، الأول نابع عن قناعة اجتماعية دينية بأن التشريح يشوه جسد الميت، وانه بشكل أو آخر يضره ويضر ذويه الذين يريدون تسليمه سليمًا. أما السبب الثاني فهو للتستر على السبب الحقيقي وراء الموت، فالأهل يرفضون الإفصاح عن ذلك لما فيه من عار اجتماعي وديني في الوسط الشعبي، فيلجؤون إلى التستر بواسطة ضغط أهل المنتحر على مراكز الشرطة الذين يشرفون على كتابة التقرير الخاص بالحادث حتى قبل وصول الجثة إلى المستشفى، فيتم بعدها تعديل السبب من الانتحار ليصبح حادث عرضي.”
يتم تسجيل بعض حالات جرائم القتل من قبل العائلة على أنها حالات انتحار لإعفاء منفذ الجريمة من العقوبة
يتفق البياتي مع ما قاله الطبيب بشأن الأرقام الرسمية المعلنة: “الأرقام التي يصدرها مجلس القضاء حول عدد حالات الانتحار دائمًا تكون أقل مما هو معلن من جهات أخرى. وصحيح تُجرى التحقيقات مع أهل المنتحر، ولكن في بعض المناطق وخاصة العشائرية يكون هناك تكتيم تام على الموضوع وبالتالي من الصعوبة الوصول إلى الحقيقة.”
ظاهرة الانتحار تتعدى في بعض الحالات لتكون محاولة تغطية بعض الجرائم بغطاء الانتحار لإبعاد الشبهة الجنائية عنها، تسجل بعض حالات جرائم القتل (ما تسمى عشائريًا بغسل العار أو الشرف) على أنها حالات انتحار، حيث يقوم أحد أفراد الأسرة بقتل ابنتهم أو ابنهم ويتم إخفاء القضية وتقييدها على أنها حالة انتحار لإعفاء منفذ الجريمة من العقوبة. ولكن التحقيقات في مراكز الشرطة أو التقارير الطبية تكشف لاحقًا أن سبب الوفاة كان أما خنق أو ضرب مبرح حتى الموت. وقد وجد مسح سابق صادر صحة الأسرة العراقية أن واحدة من كل خمس نساء عراقيات يتعرض للعنف الأسري.
“تعيش المرأة بالعراقية بين واقعين أحدهما أمرَّ من الأخر، الأول، واقع عدم توفير مستلزمات الحياة الكريمة ومشاكل في الحقوق المسلوبة منها، وبين واقع عدم توفر مؤسسات للصحة النفسية التي تخفف من وطأة مشاكلها الكثيرة،” يقول الباحث النفسي والاجتماعي عبدالرحمن هاشم السراجي ويضيف: “هناك بعض مؤسسات المجتمع المدني تحاول المساعدة، لكنها لا تزال تقدم حلول بدائية لا ترتقي لحجم المشكلة.”
تتفق الدكتورة هبة الصُفَر، مديرة مركز سارة للعلاج والتأهيل النفسي في محافظة البصرة مع السراجي وتقول: “نظرًا للظروف السياسية والاقتصادية غير المستقرة، بالالتقاء مع الظروف البيئية وتغير المناخ، يكون العراق بشكل عام والبصرة بشكل خاص من المدن التي تسجل ازدياد كبير في الاضطرابات النفسية، وغالبًا اضطرابات الاكتئاب والهلع والقلق.” المركز الذي تديره الصُفَر، هو المركز الحكومي الأول والوحيد في منطقة جنوب العراق الذي يعنى بالعلاجات النفسية الأدائية. “الاكتئاب يأتي بالمرتبة الأولى كسبب للانتحار، حيث تبلغ نسبة المنتحرين 20% من بين المصابين، الفصام يأتي بالمرتبة الثانية فتبلغ نسبة المنتحرين 5% من بين المصابين،”تضيف الصُفَر.
يفتقر العراق إلى توفر أي خطوط ساخنة للاتصال بها في حالات التفكير بالانتحار، وهناك إهمال من الجانب الحكومي في عدم تخصيص ميزانية خاصة للرعاية النفسية، في الوقت نفسه، يتردد كثير من المواطنين الذين يعانون من مشكلة نفسية من زيارة الطبيب باعتبار أن من يزور الطبيب النفسي سيجلب وصمة عار على أسرته، وهذه ثقافة شائعة على نطاق واسع. “على حد علمي، لا تخصص الحكومة العراقية أي جزء من الموازنة المالية للصحة النفسية،” تقول الصُفَر وتضيف: “الخوف من المجتمع ومن وصمة العار التي تلاحق المريض النفسي، يفضل أغلب العراقيين الابتعاد عن مراكز التأهيل النفسي، وقد يلجأون إلى الدجالين الذين يقنعون بالمريض وذويه بمواضيع السحر والرقية الشرعية.”
“في الحقيقة، لا يوجد مؤسسات واضحة المعالم تُعنى بالصحة النفسية في العراق وإذا ما وجدت فيكون وجودها إسقاط فرض فقط. كون العراق دولة غير مستقرة سياسًيا واقتصادياً واجتماعيًا، فالحروب التي امتدت إلى عشرات السنين أدت إلى عدم اهتمام الحكومات المتعاقبة بواقع الصحة النفسية أو بناء مؤسسات للصحة النفسية خاصة. وكل هذه الظروف العصيبة أثرت على المواطن العراقي نفسياً،” يشير السراجي. “على الحكومة تشكيل خلية أزمة تلتزم ببناء مؤسسات صحة نفسية في كل المحافظات التي تكثر فيها حالات الانتحار، على الاقل ليجد الإنسان باب للمساعدة يمكن أن يلجأ إليه في حالة اليأس.”
الدكتورة الصُفَر تؤكد من جهتها على ضرورة رفع الوعي العام بالصحة النفسية، وتؤكد على الفرق الكبير الذي يقدمه علم النفس في مساعدة الشباب: “قبل سنة من الآن، زارنا شاب كان يعاني من الاكتئاب الشديد وحاول الانتحار، أُدخل إلى الردهة النفسية وتلقى العلاجات الدوائية، ولا يزال يتردد إلى المركز شهريًا كجزء من جلسات الإسناد وإعادة التأهيل، وهو الآن بصحة جيدة جدًا وعاد إلى ممارسة عمله وحياته بشكل طبيعي. الحلول موجودة ولكن الأهم هو طلب المساعدة.” وتضيف: “ثقافة الطب النفسي لا زالت يشوبها كثير من الخجل وعدم الاقتناع بأهمية ودور سلامة الصحة النفسية في بناء شخصية الفرد المستقرة، وعليه، نحن نعمل جاهدين من خلال إقامة دورات التوعية على مواقع التواصل الاجتماعي وتعريف المجتمع بأهمية الصحة والسلامة النفسية.”