هوية

عن الجدات الموشَّومات في العراق بخطوط الزمن الخضراء لطرد العين والأمراض

تبدو ام هاشم، معتزة كثيرا، _بالدگ_ المنثور مثل حبات هال على يدها، ويُطلق اسم الدگ، او الشذر، على الوشم المحلي

“لم اتخيل ظاهر كفيّ المجعد دون تمدد هذه الفروع الخضراء، لطالما كانت مهمتها أمتصاص دموعي في ساعة متأخرة من الليل أو إلهاء الصغار وتخدير ذاكرتهم قبل النوم، نظرت إليهن عند توديع زوجي الى الجبهة، ومسحت بها وجه ابني و”فتشت” عيني عند وفاته، لم افعل ذلك بباطن يدي، بل بشذراتي الخضر التي لازمت كل مشقات حياتي.”

تبدو أم هاشم معتزة كثيرًا “بالدگ” المنثور مثل حبات هال على يدها. يُطلق أسم الدگ، أو الشذر، على الوشم المحلي الذي يعتبر من التقاليد الشائعة لدى العشائر العراقية من شماله لجنوبه، ‏خاصة لدى النساء، إذ اعتدن سابقاً، في القرى والبادية تحديداً، على موضة الوشم الاخضر. ولهذه الوشومات العديد من استعمالات ثقافية عديدة، وكان يحتمل أن بدأ انقراضها قبل الحرب العراقية الإيرانية عام ١٩٨٠، ودخول المد الديني في العراق.

Videos by VICE

IMG_7182.JPG
وشوم أم هاشم

طريقة عمل الوشم

بالحديث عن وشومها، تقول أم هاشم  في مقابلة مع VICE عربية إن زوجها الراحل أصر عليها أن تملأ يدها وجسدها بالدگات. وكانت تبلغ من العمر حوالي ١٥ عامًا خلال تلك الفترة وكانت تخشى الألم لكنه أقنعها أن العين الحسودة ستتجه صوب يدها فلا تصيبها بالضرر، مضيفة: “كان يخشى عليّ المرض والحسد، أوصلني عند منزل الداگوگة، وانتظر لأكثر من ساعتين عند عتبة المنزل. بدون مخدر، ولا بنج، بكيت كثيرًا، وضحكت الداكوكة وهي تغرز الابرة في يدي وتجعل الدماء تنسكب مني وتحيل جلد يدي لنقاط خضراء، اخبرتني انها ستجلب لي البركة.”

تميل نساء العشائر إلى وشم مناطق مختلفة وبأشكال مختلفة على أجسادهن. وهناك اعتقاد أن جسد المرأة الخالي من الوشم هو جسد رجالي. وكلما ابتكرت المرأة اشكالًا مختلفة على جسدها، صارت محبوبة اكثر. أما التي تقوم بعمل الوشم فهي امرأة تمتهن دق الوشم، وتُكنى بالداگوگة، أو الدگاگة، أو أم هرفي. 

تم الاعتقاد بإن جسد المرأة الخالي من الوشم هو جسد رجالي. وكلما ابتكرت المرأة اشكالا مختلفة على جسدها، صارت محبوبة اكثر. .JPG
IMG_7190.JPG

تقوم بعض النساء أحيانًا بوشم بعضهن البعض بمساعدة الجارات، وقد يصاحب عملية الوشم الضرب على الطبلة لإزالة الخوف او لإلهاء الموشومة عما يسببه لها من ألم، نتاج غرز الإبرة المخصصة في الجلد. وتستخدم الداكوكة القليل ممن السخام، إذ تعتمد على استخدام قدور الطبخ اليومية، حيث توضع على النار بجانب وجبة لذيذة حتى يتحول قاع القدر إلى اللون الأسود. ثم يتم بعد ذلك ثقب الجلد باستخدام إبرة حتى ينزف، وملء المنطقة المثقوبة بالسخام الأسود حتى يتحول إلى اللون الأخضر. كما وتم استخدام الكحل او النيل ودخان الشحم كذلك.

ما هو الغرض من هذه الوشوم؟

تمتد الوشوم، التي تحمل العديد من الخطوط والعلامات الهندسية المتقنة، في الأيدي أو من الرقبة حتى أسفل البطن. تمثل هذه الوشوم إرثًا اجتماعيًا شعبيًا وتقليديًا في العراق.

وكانت هذه النقشات بمثابة إنقاذ، ليس لغرض الجمال والزينة فقط، اذ فَضل البعض ان يصفه كدواء كما تصف وتوضح وردة لنا. تقول وردة إنها أصيبت بالرمد في الخامسة من عمرها، مع اخوتها، وجرب والديها كل شيء ولكن دون جدوى. تقول وردة إن امها اخذتها بيدها نحو الداكوكة، التي حلت الامر ببساطة عن طريق دق نقطتين حول الصدغ.

وتضيف وردة: “بعدها بيوم واحد صرت أرى، لكنني لم اجرؤ على وضعه فوق جسدي عندما تزوجت في مطلع الثمانينات. قال احدهم انه حرام رغم أني كنت احلم بدقه.”

سحر وعقدة لسان

واحدة من العادات المتعارف عليها في العراق هي  دق الوشم للزوج، والذي يمتد إما من الصدر إلى عظم العانة أو من أعلى الركبة إلى أعلى الفخذين. ويوضح الدكتور صالح زامل، الباحث في التراث الشعبي العراقي ورئيس مؤسسة شناشيل، المعتقدات المختلفة لهذه الأوشام من قبل العراقيين في الماضي: “كانوا يعتقدون أن الوشم يعالج المرض، وألم الغازات، والثآليل، ويتم ذلك بسبع نقاط في الجهة الداخلية من العضد، ووشم الصدغين لمعالجة آلام الرأس.”

ولجأت العديد من النسوة إلى دق هذا الوشم لخدمة أغراضهن ومساعدتهن على تخطى صعوبات الحياة، على اعتباره أنه “سحر” يوضع في مناطق معينة، بما في ذلك داخل باطن الكف اليمنى، حيث يُعتقد أنه سيتم السيطرة على الاخرين وخاصة الزوج. ويستخدم أيضًا على طرف اللسان ليزيل عقدة اللسان أو ليكون كلام المرأة مسموعًا لدى زوجها. 

ويشير الدكتور صالح أن البابليون كانوا يستخدمون الوشم منذ فجر التاريخ ولأغراض مختلفة، منها دينية وطبية. ويضيف أن ما اكتشفه علماء الآثار في الرسومات والتماثيل والنصب يدل على وجود هذه الوشوم، مكملاً: “أشكال الوشم في العراق لا تدل على رؤية فنية. يتم الدق المتعارف عليه من قبل الواشمات، اللاتي يبتكرن النقوش بأنفسهن أو يتداولنها من جداتهن. إنه موروث شعبي مأخوذ من الثقافات السابقة واللاحقة.”

IMG_7259.JPG

وفي محاولة للحافظ على نسائهم ورجالهم، ابتكرت بعض القبائل وشمًا معينًا على شكل عادة مرتبطة بمعتقدات القبيلة أو الطائفة، تسمى دكة العشيرة أو العائلة، والتي من خلالها يمكنهم التعرف على هوية الشخص ومساعدته/ا من الضياع أو التشرد أو حتى الاختطاف والأسر.

ويقول الدكتور صالح: “بعض النسوة يعتزن كثيرًا بقبائلهن وأعرافهن، وأحببن أن يحظين بذات الوشم المرسوم على ايادي الرجال. وأيضا قد يكون غرضه دفع الحسد وإبعاد العين والحفظ من الموت كما تعتقد هذه الجماعات.” 

 مغريات الاندماج ثقافي

يوضح الدكتور صالح أن أحد العومال التي أدت إلى اندثار هذا النوع من الأوشام هو نزوح العديد من الدگاگات إلى مختلف المدن العراقية، حيث تأثرن بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الامكنة الجديدة. 

كما تم استبدال هذا الشكل من التجميل بوسائل التجميل الحديثة، بعد أن أصبح منتميًا الى بيئة أخرى. ويضيف: “يحاول المهاجر وهو يندمج ببيئة جديدة ان يتخلص من ماضيه. كما أن علاقات المدينة قوضت الكثير من البراءة التي تسكن الفلاحين والبدو، فاذا كان المجتمع الريفي يثق بانكشاف المرأة امام الدگاگة فانه لا يقبل ذلك في مجتمع المدينة، ونساؤها، الامر الذي ساهم بانقراضه”

كل ما تحتاجه يديك لتصبح جميلة، بواسطة هذا الوشم، هو القليل من السخام.jpg

 وللوشوم دلالات أخرى في هذه المدن، حيث أنها مرتبطة كثيرًا بالرجال، بما في ذلك الأشقياء ومحبي الشجار الذين يستعرضون أوشامهم في المناطق المكشوفة من الجسم. وغالبًا ما  تحمل هذه الوشوم صور لنساء عاريات أو أدوات حادة مثل السكاكين والخناجر. ويقول الدكتور صالح: “اليوم، ليس الوشم وحده الذي ينتمي إلى تقاليد معرضة للزوال والاندثار. العديد من مواد الفلكورية تضيع مع رحيل الجيل الحامل لهذا التراث، فلا يعودون لممارستها، وتضيع مع رحيل الجيل الحامل لهذا التراث. ويتم استبدالها بمواد جديدة تنتمي إلى الثقافة الحديثة السائدة.”

أسماء الأوشام المختلفة

يبين الباحث في التراث الشعبي، تقي الشحماني، أن فصل الربيع كان موسم الوشم عند النساء العراقيات، حيث تجلب بناتها الزبدة واللبن إلى الدكَّاكة والتي بسببها اُطلق المثل العراقي “دگاگة وتدگ لبتها” كدلالة على اهتمامها بتجميل البنات بكل الطرق. وهناك مثل أخر معروف: ” دگ أم هرفي مثل حروف القرآن وإبرتها مثل قلم السلطان.” ويستحسن ان تكون الدگاگه من نفس العشيرة.

ويقول تقي: “كان يتم دق على الأجساد في الربيع حتى لا تقيح الجروح من ناحية ومن ناحية أخرى لأن في هذا الفصل يكثر الخير، فترسم المرأة الريفية في العراق انواع متعددة من الأوشام. وأبرزهن: (مخدة ابن العم) والذي يرسم على الذراع ويكون على شكل خطوط مستقيمة، اعتقادًا راسخًا أن ابن عمَّها سيتزوجها. وأنه سيزداد بها حباً وهيامًا بعد الزواج حين يتوسد ذراعها.”

وتعد هذه الأوشام بديلاً لأي امرأة لا تمتلك المال الكافي لشراء المجوهرات. ولكل نقش من نقوش الدگ أسماء متعددة، برزت في الأغاني وأشعار المناطق العراقية المختلفة فيقال مثًلا: “يالداگه اعله الزردوم عيون البوم” ويبدو التغزل واضحًا بمن تدق نقش العين على رقبتها، أو “دگة شذر ياناس والرگبة مرمر” وتعني الدق بلون شذري على رقبة بيضاء كالمرمر.

ويوضح الشحماني أن لكل وشم في مكان معين من الجسد يحمل أسمًا خاصًا به، فلا تحتاج السيدة للشرح عما تريده. فإذا تحب أن يتم دق الوشم على انفها، تقول للداگوگة: اعملي لي “نونه” وستدرك الداگوگة مباشرة، في أي موضع من الجسد تهوى السيدة. ومن أسماء الأوشام الاخرى هو أسم “فاله” والذي يعني بوشم منطقة الحنك. 

كما يطلق أسم “زهرة ورفيجاتها” على الوشم المخصص لمنطقة أعلى الشفتين. ويسمى الوشم المرسوم على الخد “غمازة.” أما فوق الحاجب لغير المتزوجات، فيُطلق عليه اسم “احجاج” ، فيما يُسمى بالعاجد وشم الحاجب فوق الشعر.

تميل نساء العشائر إلى وشم مناطق مختلفة وباشكال مختلفة.jpg