بحكم العادة، أردت رؤية نهر الفرات حين وصلت إلى مدينة الطبقة التابعة للرقة شمال سوريا، قبل تعالي صراخ مساعد سائق الباص في وجهي، وهو يأمرني بعدم النظر للخارج. لم أستمع إليه، وسرقت نظرة خاطفة وسريعة وهي آخر ما بقي لي من الطريق الواصل بين الحسكة في أقصى الشمال الشرقي والعاصمة دمشق. لمحت رأساً معلقاً في الهواء، رأساً بشرياً منفصلاً عن باقي الجسد. كان المنظر مرعباً لا تعبر عنه الكلمات، ولكني حاولت عدم الصراخ والالتزام بالصمت ريثما نقطع المنطقة التابعة لسيطرة داعش.
في عام ٢٠١٤ سافرت من ريف الحسكة إلى دمشق لأستعد للحياة الجامعية فيها، وهذا يقتضي التوقف في الرقة الواقعة في منتصف الطريق. كان علي أن أتوشح السواد من رأسي لأخمص قدميّ، وأن أطلب من أخي الذي يصغرني بعام مرافقتي، ليكون محرماً لي ولوالدتنا، وأن أدرك يومها أنني لن أعود للحسكة مرة أخرى، فالسواد كان عاماً ومخيفاً، ولم يبد في حينها أن الظلام سينقشع قريباً.
Videos by VICE
في الباص قسمنا إلى قسمين، المحارم من الرجال في المقدمة، والنساء في المقاعد الأخيرة، مُنع الاختلاط تماماً. مجرد التفات أحد الرجال للوراء يمكن أن يودي بحياته. عناصر الحواجز التابعة للتنظيم كانت مهمتها الأساسية التأكد من سير عملية الفصل تلك، يليها التدقيق على الملابس الشرعية، الخمار الغامق للنساء، والمظهر المحافظ للرجال. حُظر على الرجال وضع أي نوع من أنواع الحلي والإكسسوارات، أو ارتداء أي قطعة ملابس تلاحق صيحات الموضى من الألوان الصارخة وحتى الجينزات، ووجب عليهم إطلاق اللحى. الشبان المساكين من أصحاب الحواجب الجميلة والمهذبة، كان عليهم انتظار أمير الولاية ليبت في أمرهم، وقد يلقون عقوبة التشبه بالنساء، وهذا يعني الجلد بالإضافة إلى الاحتجاز حتى حفظ جزء من القرآن.
وصلنا الرقة قبل آذان الفجر بساعات قليلة، كانت داعش قد منعت حركة السفر قبل طلوع الضوء، لذلك تحتم علينا قضاء الليلة في الرقة بين عناصر داعش، وفرض على الرجال والأطفال الذكور الذين معنا في الباص الركض إلى الصلاة عند الآذان، إلّا طفل صغير خافت عليه أمه لدرجة خبأته تحت محرك الباص. في “استراحة” الرقة، كنا نتحدث همساً، فأي كلمة قد تكلفنا الجلد أو الرجم، أو الموت نحراً.
ماذا كنت سأجني من تمردي وإصراري على عدم ارتداء الخمار غير رصاصة في الرأس بأحسن الأحوال، أو حجارة ترجمني من كل صوب ليسيل دمي
حصل ذلك قبل سبعة أعوام، وكنت أظنه قد غرق في جوف الذاكرة، لكنه يطفو اليوم على السطح بعد عودة طالبان إلى أفغانستان بعد عشرين عاماً. اعتمدت داعش كما طالبان سياسة دب الرعب في قلوب الناس، من خلال نشر فيديوهات الإعدام الميدانية، أو تعليق الرؤس على أسياخ الحدائق كما حصل في الرقة، أو تعليق الأيدي على الأشجار كعقاب للسارقين في أفغانستان قبل عشرين سنة.
شاهدت الفوضى العارمة في مطار كابول خلال الإنسحاب الأمريكي، الآلاف يتدافعون محاولين الهروب لمصير مجهول تماماً. رجال وأطفال ونساء وشيوخ تكدسوا فوق بعضهم داخل الطائرة، وآخرين تعلقوا بها. كان عدد الرجال الهاربين الذي ضاهى عدد النساء بمراحل، لا بل أكثر من ذلك، فالذين تعلقوا بأجنحة الطائرة المغادرة من كابل كانوا رجالاً هربوا من موت محتمل لموت حتمي.
من بعيد قد يبدو مشهد الرجال الخائفين صادماً، لكن حين أتذكر ريف الحسكة، وماذا يعني أن تقع بين أيدي داعش، أفهم رعبهم تماماً. الرجل يحاكم مرتين: الأولى على تجاوزاته الخاصة، كوضع حلق في الأذنين، أو تهذيب الحواجب، أو التغيب عن الصلاة في المسجد وغيرها من الأحكام التي تُفرض عليه. والمرة الثانية يعاقب “بنسائه” إذا خرجت ابنته أو زوجته على شرفة بيتها مكشوفة الرأس مثلاً، وغيرها من العقوبات التي تطبق عليه بصفته ولي أمرها.
الجميع كان يتحدث عن الخوف على حياة النساء ومستقبلهن أمام الحكم المتطرف، لكن في الحروب النساء والرجال سواسية أمام الموت، وأمام الاستبداد، الظلم واقع على الجميع. على عكس فزع الرجال، تعتبر مخاوف النساء بديهية وهروبهن مبرر، ولكن في ظل حكم الجماعات المتطرفة تصبح المخاوف واحدة. أتذكر جيداً حين كان الخمار ومعه حياتي على كفة الميزان، وعلى الكفة الأخرى حريتي، ساومت بها واخترت أن أقطع مدينة الرقة حيّة، وأحياناً أندم على ذلك، لكن بعد كل الندم أسأل نفسي ماذا كنت سأجني من تمردي وإصراري على عدم ارتداء الخمار غير رصاصة في الرأس بأحسن الأحوال، أو حجارة ترجمني من كل صوب ليسيل دمي.
“كل شيء يمضي، كل شيء يعود، وتدور إلى الأبد عجلة الوجود.” منذ عودة طالبان وأنا أفكر بنظرية العود الأبدي لنيشته، والحتمية المسبقة التي ترى أنه من المُقدر مواصلة تكرار نفس الأحداث مرارًا وتكرارًا. أفكر ماذا لو عادت داعش للحكم؟ ماذا لو قطع عناصرها طريقي مرة جديدة؟ هل سأساوم مرة أخرى على حريتي وأندم أم أنني سأتمرد هذه المرة؟
لا تختلف داعش، كثيراً عن طالبان، ربما يختلفان عن بعضهما في حكمهم الداخلي وطرق القيادة، والعلاقات الدولية ومحاربتهم لاحتلال أرضهم. لكن في العمق سواء رفعوا رايات بيضاء أم سوداء فكلاهما تنظيمات متطرفة ترفع اسم الله عالياً، وتقتل الأبرياء باسمه.