“سلام.. بسم الله” بهذه الكلمات تهمس المدونة المغربية فاطمة الزهراء، 30 عاماً، قبل أن تشرع في مضغ كميات من الأكل التي أمامها بصوت واضح.
قبل سنتين فقط، كانت فاطمة الزهراء تستغرب من قيام البعض بنشر فيديوهات لهم وهم يستهلكون أطباقًا متنوعة من الأكل أمام ميكروفون حساس يلتقط أصوات المضغ والبلع بوضوح: “لم أكن أفهم ما الهدف من تصوير هذه المقاطع، لكنني بعد ذلك، أدمنتها، وبدأت بمشاهدتها لساعات طويلة لأنها أشعرتني بالراحة،” تخبرني فاطمة خلال مقابلة أجريتها معها عبر واتس آب. قررت فاطمة أن تتحوّل من مجرد مشاهدة ومستمعة إلى صانعة محتوى وتكون الأولى في هذا المجال في المغرب، واليوم لديها قناة على يوتيوب 33 ألف متابع بمجموع 1,8 مليون مشاهدة، وحساب على تيك توك بـ 53 ألف متابع، ٢٧٧ ألف شخص على إنستغرام.
Videos by VICE
الفيديوهات التي نتحدث عنها تشير إلى ما يسمى اختصارًا بـ ASMR أو الاستجابة الحسية لقنوات الجسم المستقلة (Autonomous Sensory Meridian Response)، التي تحفز الشعور باللذة والنشوة في الدماغ من خلال محفزات بصرية أو سمعية أو لمسية أو شمية، وتعطي شعورًا بالتنميل والوخز الخفيف الذي يتولد في مؤخرة الدماغ ويمتد للعمود الفقري والأطراف ويسبب شعوراً بالنشوة الدماغية attention-induced head orgasm.
ظهرت أول قناة ASMR على يوتيوب في سنة 2009، وكانت تدعى Whispering Life، وذلك قبل تبني هذا مصطلح إيسمار بشكل رسمي. في عام ٢٠١٠ قامت الأمريكية جينيفر ألن بتأسيس مدونة تحت إسم “المشاعر التي لا تسمية لها” قبل أن تبتكر مصطلح ASMR. لم يحتج الأمر كثيراً ليجتاح محتوى إيسمار العالم وانتشرت فيديوهات أشخاص يأكلون أمام الكاميرا، أو يقومون بلمس وخدش بعض الأسطح والأدوات أو الحديث بصوت خافت، بهدف تحفيز ردة فعل الجسم.
وعلى الرغم من أن فيديوهات ASMR لها جمهور واسع في دول أجنبية وتحقق مشاهدات عالية جدًا، إلا أن الأمر يعتبر حديثا نسبيًا في المنطقة العربية. تؤكد لنا الشابة المعروفة بـ@ASMRARABI أنها تعرضت للكثير من الانتقاد في بداياتها وكانت تصلها عشرات الرسائل والتعليقات التي تستغرب قيامها بالأكل أمام الكاميرا، وغيرها من الأسئلة المزعجة والفضولية.
وتقول: “كانت تصلني تعليقات من قبيل “ممكن أن أعنف شخصًا إذا أكل أمامي بصوت عالي، مشاهدة شخص يأكل.. إنه أمر يثير القرف. البعض كان يرسل كلمات نابية ويدعو علي أو على والدي بالسوء. أعلم أن معظمهم يجهلون المغزى من إيسمار لهذا فأنا أحرص على الرد على جميع التساؤلات التي تصلني بدون أحكام. لحسن الحظ أن لدي “ذاكرة السمك” وسرعان ما أنسى التعليقات السيئة والسلبية التي تصلني.”
تضيف فاطمة أن التعليقات اختلفت بعد مرور الوقت: “بعد فهمهم للمحتوى الذي أقدمه، تغيرت التعليقات والرسائل وتحول بعضها إلى ألا تكسبين وزًنا زائدًا؟ وكيف تحافظين على رشاقتك. وفي النهاية أصبحت تصلني طلبات لتصوير أطباق معينة لأنها تشعرهم بالراحة.”
في الواقع، يميل أغلب محبي الإيسمار إلى مشاهدة هذا النوع من المحتوى لمساعدتهم على النوم والاسترخاء وتخفيف التوتر والقلق، وبحسب تقارير علمية فهذا المحتوى يساعد على الاسترخاء والتفكير الإيجابي، وتخفض معدلات ضربات القلب بنحو 3.14 نبضة في الدقيقة أثناء مشاهدة مقاطع الفيديو. وقالت مؤلفة التقرير الدكتورة جوليا بوريو أن هناك فوائد محتملة لـ إيسمار في تخفيف الأرق والقلق والاكتئاب، لكن هناك حاجة إلى المزيد من الأبحاث بما في ذلك التجارب السريرية.”
كما أشارت دراسة أخرى إلى أن المحفزات الشائعة المستخدمة في فيديوهات إيسمار بما في ذلك الهمس والأصوات الواضحة والحركات البطيئة ساعدت في تحسين مؤقت لأعراض الاكتئاب والألم المزمن لدى أولئك الذين يشاهدون هذا المحتوى.
تقول فاطمة أن فيديوهات إيسمار التي تقوم بها تساعدها هي شخصياً على الاسترخاء والشعور بالراحة والهدوء، وتضيف: “تصلني تعليقات وردود أفعال إيجابية لمتابعين تغلبوا على الأرق وتمكنوا من ضبط مشاكل النوم لديهم، وحتى نجحوا بالتغلب على فقدان الشهية بفضل فيديوهاتي. ولكن في المقابل، أتفهم تماماً أن فيديوهاتي قد تؤدي لردة فعل سلبية لدى الآخرين، وخاصة ممن يعانون من متلازمة الميزوفونيا.”
متلازمة الميزوفونيا، أو متلازمة حساسية الصوت الانتقائية هي اضطراب عصبي تثير فيه بعض الأصوات استجابةً عاطفيةً أو فيزيولوجيةً شديدة، ويُبلِغ المصابون بهذه الحالة عن انزعاجهم من بعض الأصوات مثل الصوت الذي يصدره البعض أثناء تناول الطعام والمضغ وحتى التنفس، أو صوت الكتابة على لوحة المفاتيح أو طقطقة الأصابع. ويعتقد الباحثون أن الأشخاص الذين يعانون من الميزوفونيا قد يكون لديهم مشاكل في طريقة تصفية الدماغ للأصوات. وترى دراسات علمية أن عدم شعور البعض بتأثير لـ إيسمار يعود لاختلاف منسوب تحرير هرمونات الدوبامين والإندروفين والأوكسايتوسين والسيروتونين من شخص لآخر، بالإضافة إلى أسباب جينية وأخرى تتعلق بالبيئة والطعام وذكريات الطفولة.
إن كان البعض يشعر بالاشمئزاز أو الغضب من فكرة سماع صوت الأكل أو الهمس أو الخربشة، يبدو أن الأغلبية تحب هذا المحتوى، حيث هناك أكثر من 12 مليون مقطع فيديو إيسمار على يوتيوب وتحظى بانتشار واسع ونسبة مشاهدات بالملايين. وتظهر بيانات “غوغل تريند” أن البحث عن هذا المصطلح أخذ منحى تصاعديًا في السنوات الخمس الأخيرة. هذه الشعبية دفعت عددًا من الشركات العالمية الكبرى لإعداد مقاطع إعلانية بطريقة الـ ASMR من بينها إعلان الشركة السويدية “ايكيا” في عام ٢٠١٧ حقّق أكثر من ثلاثة ملايين مشاهدة على يوتيوب، كما مكنها من رفع نسبة مبيعات مجموعة “العودة إلى المدرسة” في 2019 إلى 27 في المئة مقارنة مع السنة التي قبلها. كما خصصت منصة “سبوتيفاي” قائمة تشغيل ASMR منذ بضع سنوات فقط، وحققت من خلالها حوالي 2.1 مليون استماع يوميًا لمدة ثلاثة أشهر على إطلاقها.
مؤخراً، قامت قناة تلفزيونية عمومية مغربية ببث مقطع إعلاني على طريقة “ASMR” لأول مرة في المغرب وربما حتى في المنطقة العربية، يعود لإحدى شركات الزبدة “ماكدور.” تراوحت ردود الأفعال بين مرحب ومعجب بمشاهدة أفكار تسويقية جديدة، وبين منتقد لطريقة إخراج الإعلان الذي لم يكن في مستوى تطلعات محبي الإيسمار، وهناك من كره الإعلان بسبب شعوره بالتوتر والانزعاج من تلك الأصوات.
الموكبانغ..ASMR اكسترا
غير بعيد عما تشاركه فاطمة على حساباتها في شبكات التواصل الاجتماعي، أي الفيديوهات المتعلقة بالأكل، انتشر في السنوات الأخيرة تحدي جديد يربطه الكثيرون بالإيسمار ويُدعى MUKBANG. ظهر هذا النوع من المحتوى في كوريا الجنوبية سنة 2010، ويقوم على تسجيل أو بث فيديو مباشر لشخص يطهو كميات كبيرة من الأكل الدسم وغير الصحي أو يقوم بطلبها ثم يشرع في أكلها بشراهة وبأصوات مبالغ فيها، الأمر الذي يجذب مشاهدين كثر تقدّر أعدادهم بالملايين.
تحقق فيديوهات الـموكبانغ أرباحًا ضخمة لنجومها تصل إلى ملايين الدولارات سنويًا، وهو ما يجعل المؤثرين يقدمون على أكل كميات أكبر لجذب مزيد من المشاهدين وبالتالي مداخيل أكثر، إذ ليس من الغريب أن تجد أحدهم يرغم نفسه على أكل صحن كبير من “النودلز” الحار الذي يكفي لأربعة أشخاص أو أكثر، إلى جانب 5 شطائر “برغر” عشرين قطعة من الدجاج المقلي، وغيرها من الأطباق في فيديو واحد.
تشير فاطمة أن “موكبانغ” تعني الأكل أمام الكاميرا، ولكن ليس ضروريًا أن تهمس أو تصدر أصواتًا معينة، المهم أن تشغّل الكاميرا وتبدأ في تناول الطعام. وتضيف: “يطلب مني الكثير من المتابعين إعداد فيديوهات “ماكبانغ” وأن أتناول مثلا عددًا كبيًرا من ساندويشات الشاورما أو البيتزا، لكن ليس لدي الرغبة في القيام بذلك. أعتقد أن الأغلبية تشاهد هذه الفيديوهات بغرض التسلية وهو سبب كاف لفهم انتشارها.”
تثير فيديوهات موكبانغ مخاوف لدى الكثيرين على اعتبار أنه يروج للعادات السيئة للأكل والإفراط في تناول الطعام غير الصحي، وهو ما قد يزيد من المخاطر الصحية المتعلقة بالوزن مثل مرض السكري وأمراض القلب والشرايين والسمنة، وهو ما جعل هيئة مكافحة الفساد في الصين تمنع بث فيديوهات “الموكبانغ” لأنه يشجع على إهدار الطعام.
في النهاية، تشير فاطمة إلى أنه بسبب الشعبية التي بدأ يكتسبها إيسمار، بدأت بعض الشركات بالتواصل معها لإنتاج محتوى ترويجي، وتقول أن هذا الأمر قد يشجع آخرين لدخول الميدان وبالتالي تقبّل أو تفهم المزيد من المتابعين لهذا النوع من المحتوى الذي يتجاهل البعض تأثيره الإيجابي على النفسية وخاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها العالم.