عن كل ما تحفظه ذاكرتي: أن تكبر في سوريا قبل الحرب

منذ أن بدأت الحرب في سوريا قبل سبعة أعوام ومع كل ما شهدناه خلالها، أصبح الإعلان عن الحنين لصورة البلاد قبل جميع هذه الأحداث متواصلاً لا يتوقف. بالنسبة لي وللجيل الذي انحدر منه والذي قضى معظم شبابه يحاول مقاومة آثار هذه الحرب أو الهرب منها أو حتى إنكارها، صورتنا السابقة عن سوريا ونشأتنا فيها كأطفال هي كل ما نملك في محاولة التواصل مع ذاتنا بصورة أكثر طبيعيةً وحميمية من الجنون المحيط.

الحقيقة أن النشأة في سوريا قبل الحرب كانت مميزة، بالنسبة لي شخصياً على الأقل. تكتسب خصوصيتها من فرادة هذا البلد واتساعه وثرائه، ورغبته المستمرة مع ذلك في الالتحام بتجربة المنطقة والاستمرار كجزء منها. دون أن ننسى بالطبع التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن كونه جزء من منظومة سياسية امتدت لعقود، منذ تسلم حزب البعث للحكم في الستينيات ورؤيته الاشتراكية في إدارة وتنظيم البلاد. أما ما يمكن لكل هذا إحداثه من أثر في طفولة وتكوين شخصية أي إنسان، فالنتائج أكبر وأكثر تعقيداً من إمكانية الإشارة إليها أو تحديدها بسهولة.

Videos by VICE

للرأسمالية نكهة حلوة
المرة الأولى والوحيدة التي خرجت فيها من سوريا أثناء طفولتي، كانت إلى دبي في الإمارات العربية المتحدة في بداية الألفينات. كان ذلك يعني ببساطة الخروج إلى النقيض الاقتصادي لبلدي الأم بكل ما سيترتب على الموضوع من تبعات، كدخول المولات الضخمة والأسواق التجارية التي تزخم بالبضائع الأجنبية المستوردة. أما بالنسبة لطفل في العاشرة فيعني ذلك باختصار التعرف على أنماط غريبة من الحلوى والوجبات السريعة. صراع المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي بأكمله كان حاضراً في ذلك اللقاء الأول، وبدا واضحاً أن الرأسمالية أكثر قدرةً على اجتذاب الأطفال. استثمرت الإجازة بأكملها بتجربة أنواع الشوكولا والحلوى المستوردة التي لم يسبق أن شاهدتها سوى في الأفلام والإعلانات التلفزيونية ومقارنتها بنظيرتها من المصنوعة محلياً في سوريا. السنيكرز والأم أند أمز والتوبليرون مقابل “الفاخر” و”لهفة” المصنوعة محلياً. رقائق ليز مقابل “شيبس طبوش،” بيبسي وكوكا كولا في مواجهة “مياه دريكيش الغازية.” في المقابل، كان وجود ماكدونالدز وبيرغر كينغ وغيرها من مطاعم الوجبات السريعة أمراً مفرط الحماسة بالنسبة لي مع انعدام وجود المعادل الوطني لها.

عدت إلى سوريا في النهاية بثلاثة علب برينجلز كنت قد استهلكتها على متن طائرة العودة استخدمتها والدتي لتخزين البهارات. أما والدي الذي لطالما نظر إلى كل ما يأتي من الغرب بعين التهديد، فقد أفهمني أن الدول التي تقوم باستيراد الأغذية والحلوى الأجنبية الصناعة لا تمتلك الاكتفاء الذاتي الذي تملكه سوريا بوجود الحلاوة بجبن والعوامة والمشبك.

التنوع، التنوع، والتنوع
في حالة بلد كسوريا، يصعب في الواقع إصدار تعميمات وأحكام مطلقة تنطبق على الجميع. ما لا يعيه كثيرون هو الكم الهائل من التنوع والاختلاف الذي تنطوي عليه البلاد. البيئة الجغرافية مثلاً، التي تعتبر المؤثر الأول في طبيعة وسلوك السكان ليست واحدةً في سوريا. هناك البيئة الصحراوية والجبلية والساحلية وغيرها، ولكل منها أبنائها ومجتمعاتها. التنوع الديني والطائفي، اختلاف الثقافات والمرجعيات، وتداخل القوميات في بعض الأحيان أكسب البلد خصوصية يصعب شرحها. الحي الذي نشأت فيه في حلب كان نموذجاً غريباً من التخالط والاندماج. في مدرسة الحي كنت أتشارك الصف مع أقران من خلفيات شديدة الاختلاف من سريان وأكراد وشركس وآشوريين ومسلمين من كافة الطوائف والمذاهب. كثير من الباعة وأصحاب الدكاكين المسلمين في الحي كانوا طليقين بالأرمنية مثلاً لا لشيء سوى لطول اختلاطهم بتجار آخرين من الأرمن ركيكي العربية. أن تعيش وسط هذا كله كان أمراً ساحراً، وأن تكبر على هذا التنوع يعني أنه سيصبح حتماً جزءاً منك ومن هويتك مهما تقدمت في السن أو اختلفت وجهتك في بلد اللجوء.

إن لم تكن قد قضيت حياتك المدرسية بأكملها في الامتثال لأوامر مدرب الفتوة والتعبير عن الولاء والالتزام بأفكار حزب البعث، فالمؤكد أنك قد قضيتها بالتظاهر بذلك على الأقل

الفُتُوّة
لست متأكدة تماماً من أين جاء مصطلح الفتوة بالتحديد، ربما لأنه كان موجهاً لشريحة طلاب المدارس بالذات، ولكنه بالعموم كان مرادفاً لأسلوب التربية العسكرية المطبقة في المدارس الإعدادية والثانوية. لاحقاً أدركت أن الطالب السوري خاصة من جيل التسعينيات قد خضع لنظام مدرسي صارم على أسلوب المدراس العسكرية أطلق عليه نظام الفتوة. الزي العسكري الموحد الذي لا يحمل أي إمكانية للتميز أو الاختلاف. تحية العلم الصباحية بتفاصيلها الدقيقة في الاصطفاف وترديد النشيد الوطني وأهداف وشعارات الحزب الحاكم ثم الاستماع لبعض التوجيهات التربوية. مناداة الجميع لبعضهم ب “الرفيق” فالجميع رفقاء في انتمائهم إلى الحزب ذاته-حتى إن لم يكونوا منتسبين له بالمعنى الحرفي-واستغلال أي وقت مستقطع في البرنامج للتوعية حول موقع وتأثير سوريا في الصراع العربي-الإسرائيلي، وإيماننا الخالد بالقضية الفلسطينية. أما الاحتفالات المدرسية المرتبطة بالأعياد الوطنية والحزبية فقد كانت فرصة لإبراز نظام الفتوة بأبهى حلله. تزيين المدرسة بالصور والأعلام، إعداد اللافتات وكتابة الخطابات لإلقائها من قبل المشرفين أو الطلاب على حد سواء. باختصار، إن لم تكن قد قضيت حياتك المدرسية بأكملها في الامتثال لأوامر مدرب الفتوة والتعبير عن الولاء والالتزام بأفكار حزب البعث، فالمؤكد أنك قد قضيتها بالتظاهر بذلك على الأقل.

في مرحلة لاحقة، وبالتزامن مع بعض التغييرات السياسية الظاهرية أو أخرى اجتماعية ارتبطت ببداية قرن جديد، تم إلغاء نظام الفتوة وحصص التربية العسكرية، تسربت بعض الألوان إلى الزي الموحد وأصبح المشرفون أكثر تساهلاً. لكن درجة من الصرامة بقيت سيدة الموقف. الأجيال التي تكبرنا تنظر إلى تلك المرحلة السابقة على أنها العصر الذهبي للأخلاق والانضباط بالمقارنة مع التسيب الحالي في المدارس. أما بالنسبة لمن نشأ في ظل نظام الفتوة فالأمر لا يتعدى كونه كابوساً مزعجاً.

كنت أنجو بأعجوبة خلال طفولتي من السكتة القلبية في كل مرة تلغى فيها فقرة برامج الأطفال على القناة الرسمية الثانية لبث انعقاد إحدى جلسة مجلس الشعب

التلفزيون السوري، آه يا جامعنا
في ظل الغياب التام للقنوات التلفزيونية الخاصة في البلاد، والتأخر في السماح بانتشار الأقمار الصناعية بالمقارنة مع باقي دول المنطقة، كان التلفزيون السوري الرسمي ببثه الرسمي عبر محطتين وحيدتين هو المصدر الرسمي الوحيد للتسلية. من الصعب اكتساب أي مصداقية عند إيراد كلمة “تسلية” إلى جانب كلمتي “التلفزيون السوري” في جملة واحدة. لنقل إنها كانت تسلية بتحفظ، أو لنقل تلفزيون ببرامج هادفة ذات رسالة. أو لنعترف فقط أننا لم نستطع تقديم أي محتوى ترفيهي كما كان يفعل جيراننا اللبنانيون في برامج من نمط استديو الفن، وأشقاؤنا المصريون في فوازيرهم ودراماهم. لذا لم يكن أمامنا سوى الاستسلام لمتابعة برامج مثل “طرائف من العالم” الذي يقدم تقارير قصيرة من حول العالم يختتمها الإعلامي محمد توفيق البجيرمي بعبارته الشهيرة “فتخيل يرعاك الله” أو برنامج “ما يطلبه الرياضيون” والذي قدمه لمدة من الزمن الإعلامي مصطفى الآغا. برامج أخرى ذات رسائل اجتماعية كبرنامج “مع العمال” و”الشرطة في خدمة الشعب” و “أرضنا الخضراء” كانت تدفع العائلة بأكملها لليأس الشديد بانتظار الفيلم العربي في سهرة الخميس.

مع تأسيس استديو الزُهرة لدبلجة الرسوم المتحركة في دمشق في منتصف الثمانينيات، وتقديمه لبرامج عالمية ناجحة ومميزة بلغة عربية فصيحة وسليمة جعل من فقرة الأطفال اليومية المحطة الأهم في برنامج التلفزيون السوري، وجزءاً أساسياً من نشأة وتربية أي طفل سوري. شخصياً كنت أنجو بأعجوبة خلال طفولتي من السكتة القلبية في كل مرة تلغى فيها فقرة برامج الأطفال على القناة الرسمية الثانية لبث انعقاد إحدى جلسة مجلس الشعب.

الرحلات
سواء بتنظيم من برنامج مدرسي، أو كنشاط عائلي جماعي، تشغل الرحلات أو السياحة الداخلية جزءاً كبيراً لا يمكن إغفاله من ذاكرة أي مواطن سوري على اختلاف سنه أو خلفيته الثقافية أو طبقته الاجتماعية ووضعه المادي. دون حواجز أمنية أو عسكرية، وبلا طرق مغلقة أو مسدودة أمام أحد، كانت سوريا في الماضي أكثر اتساعاً. كثير من الأماكن كانت بانتظار زيارتها واكتشافها في المدن المختلفة وأريافها. الكم الهائل من الحضارات المتعاقبة التي مرت على المنطقة تركت في البلاد بقعاً من الدهشة تستدعي إليها السياح من حول العالم ومن أبنائها على حد سواء.

أمي، وبحكم الفارق في السن، تملك الكثير من الحكايات عن رحلاتها المختلفة عبر سوريا. تحب أن تتذكر بشكل خاص زيارتها لتدمر مع جدي كطفلة، أو النظرة الأولى التي ألقتها على مدينة معلولا المعلقة في الصخر. تتفاخر بأنها لم تترك شبراً في سوريا يعتب عليها، ثم تختتم كلامها بتنهيدة حسرة وتنظر إليّ أنا وأختي الصغرى: “معقول لكن ولا مرة أخدناكم على بصرى؟”