في قلب المدينة القديمة في بيت لحم في فلسطين، يتسابق السياح لزيارة المعالم التاريخية مثل كنيسة المهد حيث ولد السيد المسيح. ولكن على بعد 5 دقائق فقط سيراً على الأقدام من الكنيسة وسوق المزارعين ذائع الصيت في المدينة، يمكنك العثور على “حوش السريان” وهو مبنى عثماني قديم يتم استخدامه حالياً كدار للضيافة. في حوش السريان، الذي تأسس عام 2015 على يد صاحب بيت الضيافة والشيف الفلسطيني الفرنسي فادي قطان، لابد لك من زيارة مطعم “فوضى” والذي يقدم مجموعة متنوعة من أطيب المأكولات الفلسطينية الشعبية.
قطان، 40 عاماً، هو طاه فرنسي فلسطيني يدير هذا المطعم الذي أصبح المطعم المفضل للكثير من من السكان المحليين والسائحين الأجانب والدبلوماسيين. ولد قطان في بيت لحم، ودرس إدارة الفنادق في باريس وعمل في عدد من الفنادق في كل من لندن وباريس، ثم عاد إلى بيت لحم في عام 2000 للعمل في فندق إنتركونتيننتال في بيت لحم، والذي أُغلق بعد فترة قصيرة بعد اندلاع الانتفاضة الثانية في سبتمبر من ذات العام.
Videos by VICE
“بعد أن أُغلق الفندق، تركت إدارة الفنادق وعملت مع عائلتي لفترة من الوقت، وفي مرحلة ما فتحت وكالة سفر،” يقول قطان في مقابلة مع VICE عربية: “ولكن قبل أربع سنوات ونصف قررت فتح حوش السريان.” يشير قطان إلى أن قائمة الطعام التي يقدمها المطعم مختلفة بشكل دائم، ومن هنا أتى اسم المطعم “فوضى.”
يقرر قطان ما يقدمه من طعام بناءً على المكونات الموسمية التي يوفرها المزارعون على أساس يومي، حيث يقدم مطعم “فوضى” نسخ مُعدلة من الأطباق الفلسطينية المحلية التي يتم طهيها بشكل شائع في المنزل مثل الشيش برك، والمقلوبة، والفريكة، والمُسخن، ولكن يتم إعدادها جميعاً باستخدام خلفية قطان في فنون الطهي الفرنسية. “نقوم بتقديم المُسخن، الطبق الفلسطيني الأشهر، مثلاً كمقبلات، حيث أضع كبد الدجاج على خبز الطابون الصغير مع البصل ومُربى السُماق،” يشير قطان.
الفكرة الأساسية بالنسبة لقطان هي إيجاد أفضل طريقة لتقديم قائمة طعام فلسطينية مختلفة باستخدام المنتجات المحلية، ابتداءً من الأعشاب واللحوم والفواكه والخضروات. يقول قطان أنه أقنع وعلّم جزارًا محليًا كيفية تجفيف وحفظ اللحوم، وبدأوا معاً بتجفيف وحفظ شرائح لحم الانتركوت (Entrecote steaks) لمدة 21 يومًا، ولحم الستيك المشوي ريب آي (Cote De Boeuf) لمدة 40 يومًا. “إنني أستمتع حقًا باللحم المعتق، لأنك بذلك تحافظ على جميع العناصر كما هي، ويكون تدخل الشيف قليل جداً، وهذا ما يؤكد على جودة نوع اللحم نفسه،”يضيف قطان.
في كل صباح، يزور قطان وفريقه السوق المحلي لاختيار أفضل المكونات كل يوم بيومه، كما يمر الموردون الآخرون الذين يعملون معهم عادة بشكل منتظم، على حوش السريان لتزويدهم بما يحتاجونه لذلك اليوم. “أعتقد إننا محظوظون؛ لأن لدينا مزارعون يقدمون كل صباح لمدينة بمنتجاتهم الطازجة،” يقول قطان ويضيف: “في هذا الوقت من العام، هناك الكثير من الأعشاب الخضراء مثل ورق اللسان، والخبيزة، واللوف، ولكننا نقوم بإعدادها بطريقتنا الخاصة جداً.”
تقدم الخُبيزة في العديد من البيوت الفلسطينية في العادة مقلية مع البصل والليمون، ولكن في “فوضى” يتم تحميص الأعشاب وتستخدم لتزيين الحساء أو كسلطة مع الفجل المخلل الُمعد في المنزل، كما يشير قطان، الذي على مر السنين، بنى العديد من العلاقات مع العديد من الموردين التي يعتقد أنها مبنية على الثقة وشغفهم المشترك تجاه المنتجات المزروعة محليًا: “نحن لا نتفاوض أبداً على الأسعار؛ لأن المكونات الطازجة هي المفتاح النجاح لأي طاهي. إذا لم تمنح المزارعين والموردين مكانتهم أو تحترم تجارتهم، فأنت لست طاهيًا حقيقياً في نظري،” يقول قطان.
شغف قطان للطبخ انتقل إليه من مطبخ جدته، حيث تعلم الكثير عن النكهات المختلفة والطعام الفلسطيني الشعبي، ويضيف: “ولد أبي في الهند، وتَنقلت العائلة بين السودان واليابان. أعتقد أن هذا أثّر على الكثير مما كنا نأكله على مائدة العشاء.” ولكن على الرغم من السفر، لطالما كانت عائلة قطان مرتبطة ببيت لحم، ما جعله شغوفاً جداً بالمدينة وناسها وكذلك منتجاتها. “كان من الممكن أن يحقق “فوضى” نجاحاً أكبر في أماكن أخرى، لكنني تعلمت من أجدادي أن هناك صلة دائمة بين العائلة وجذورها في بيت لحم. لم أكن لأتخيل افتتاح المطعم في أي مكان آخر في العالم؛ وجود المطعم في هذه المدينة يعطيني إحساسًا برد الجميل للمجتمع،” يضيف قطان.
بيت لحم مدينة صغيرة جميلة وحيوية، وهو ما أدى إلى ظهور العديد من المطاعم في جميع أنحاء المدينة، وبصرف النظر عن المحلات الشعبية التي تقدم الفلافل، وشاورما اللحم، والكنافة، فإن غالبية المطاعم الأخرى تشترك في شيء واحد: تقريبًا كلهم يقدمون نفس المأكولات العالمية “المعروفة” التي عادة ما تحتوي على فيتوتشيني ألفريدو وكوردون بلو. ويبدو أن الزبائن المحليين يتجنبون بالعادة تناول الطعام المحلي الذي تم تعديله ليصبح أكثر معاصرة، وهذا ما يحاول قطان تغييره: “نحن نحاول تغيير ثقافة الطعام في البلد، ولكن من الصعب إقناع العملاء المحليين، لا يرغب الناس بالضرورة في تجربة وصفاتهم الشعبية المقدسة التي تم تغييرها قليلاً لتصبح أكثر عصرية.”
على الرغم من أن بيت لحم مدينة تحت الاحتلال الإسرائيلي ومغلقة بشكل كبير بسبب جدار الفصل العنصري كما يسميه الفلسطينيين، إلا أن قطان يرحب بالجميع في حوش السريان ومطعم فوضى، وهو يعتقد أن أي شخص في مجال صناعة الخدمات لا ينبغي أن يميز بين العملاء حسب الجنس، أو الجنسية، أو الآراء السياسية.
وفي حين أن هناك عدد من الطهاة الفلسطينيين يعملون في إسرائيل جنباً إلى جنب مع الطهاة الإسرائيليين على أمل إيجاد فرص عمل وخبرة أفضل، يرفض قطان العمل إلى جانب الطهاة الإسرائيليين، ويقول: “نحن لسنا على قدم المساواة معهم، وفكرة التعايش هي خيال لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع. في اليوم الذي يكون لدينا دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة مع تحقيق العدالة لشعبنا، ستكون هناك قصة أخرى، لكن طالما أن هناك إحتلال مستمر لفلسطين من المستحيل أن أعمل مع الطهاة الإسرائيليين،” يشدد قطان.
منذ نكبة عام 1948 وتهجير الفلسطينيين من أرضهم و قيام دولة اسرائيل، كان هناك حرب مستمرة حول الطعام الشعبي الفلسطيني كالحمص والفلافل، التي تزعم إسرائيل أنها من “أطباقها الوطنية.” وفي الآونة الأخيرة، قامت إسرائيل بتصدير المفتول الفلسطيني إلى الغرب تحت إسم كسكس إسرائيلي، وكتبت صحيفة هآرتس الإسرائيلية (صحيفة إسرائيلية ليبرالية) مقالاً تدعي فيه إن الشاورما هي أكلة إسرائيلية.
“أعتقد أن حرب الحمص والفلافل سخيفة لأنها ليست طعام فلسطيني في الأساس. هي في الأصل طعام شعبي من بلاد الشام انتقل إلى بقية العالم العربي،” يقول قطان، ويقارن بين الولايات المتحدة الأمريكية التي لديها في أخذ مأكولات عالمية وإطلاق اسم أمريكي عليها.
“إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، دولتان حديثتان بلا أي تاريخ وجذور مع الطعام الشعبي، ويطلقان على كل شيء يتم تحضيره في بلدهم بأنه إسرائيلي أو أمريكي،” يضيف قطان: “عندما تسمع أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قدم لمنتخب بلاده لكرة القدم وجبة “أمريكية “في البيت الأبيض، وأن تلك الوجبة كانت عبارة عن بيتزا وهامبورجر، تجد الأمر مضحكاً. البيتزا ليست أمريكية ولن تكون كذلك أبداً.”
وبغض النظر عما تقوم به إسرائيل من سرقة للبلد وأكلاته الشعبية، فإن قطان مصر على الاستمرار في تقديم طعام فلسطيني أصلي وشهي وتثقيف السكان المحليين والأجانب حول تنوع الطعام الفلسطيني، سواء كان ذلك مع النسخ المعدلة اللذيذة من الباذنجان المحشي، أو الفريكة أو الكنافة، فهو يستخدم تذوق الناس للأكلات الفلسطينية كوسيلة لنقل الثقافة والهوية الفلسطينية من بيت لحم إلى العالم.
جميع الصور مقدمة من الشيف فادي ومطعم فوضى.