في الوقت الذي يعاني سكان القطاع أصلاً من تقييدات شديدة على السفر بسبب الحصار الإسرائيلي المفروض منذ أكثر من ١٥ عاماً، يقوم المجلس الأعلى للقضاء الشرعي التابع لحكومة حماس بالإعلان عن تعميم قضائي يمنع النساء غير المتزوجات من السفر بغير موافقة ولي الأمر، بعد أن كان الأصل هو السماح، والاستثناء هو المنع.
هذا التعميم المفاجئ ينص على “منع سفر الأنثى غير المتزوجة بكراً كانت أو ثيبًا دون الحصول على إذن من وليها، وأن الولي يمكن أن يمنعها من السفر إذا كان في سفرها ضرر محض أو وجدت دعوى قضائية بينهما تستلزم المنع من السفر.”
Videos by VICE
المرأة لم تكن الوحيدة التي حصلت على مزيد من التضييق على حرية تنقلها وسفرها، حيث نصت المادة الثالثة من القرار على أنه يجوز لأحد الأبوين أو الجد للأب منع الولد الذي تجاوز الثامنة عشر من عمره من السفر، بمعنى أن هذا القرار اعتبر أن الجد “للأب” هو من يستطيع منع الشاب من سفره، وطبعاً كلها قوانين تزيد من سلطة الذكور الموجودة فعلاً.
تبريرات
رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي في غزة حسن الجوجو برر القرار في مقابلة قائلاً أن هناك من سافرن دون علم والديهن، بمعنى أن القضاء قرر ما هو الأفضل لهؤلاء النساء دون أن يبحث في سبب سفرهم، أو عن الظروف التي تعيشها النساء داخل العائلة. أما بخصوص منع الأب والجد لأبنائهم من السفر، فقد أشار الجوجو أن سبب منع الشباب من السفر هو أنهم يتركون عائلاتهم بدون مصدر رزق، متجاهلاً نسبة البطالة التي قاربت من 50% في القطاع المحاصر.
وفي حين يبدو أن القرار محايداً، ويشمل الرجال والنساء، إلا أنه بسبب الأعراف الاجتماعية، يُرجّح أن تقدّم العائلات طلبات منع سفر لتقييد حركة النساء أكثر من الرجال. كما أن توقيت هذا القرار غير مفهوم، فالسعودية -وغيرها من الدول- التي كانت تطلب موافقة ولي الأمر، هي نفسها قامت برفع رفع هذه القيود وإعطاء النساء المزيد من الحريات.
أثار هذا القرار ضجة على المستوى المحلي والدولي، حيث طالبت عدة مؤسسات حقوقية بسحب القرار أو إعادة النظر فيه لما فيه من انتهاكات واضحة وصريحة بحق القانون، وامتهان لكرامة المرأة. بعد ردود الفعل الغاضبة التي أثارها القرار الذي بدا كدعاية انتخابية سيئة لحركة حماس، عاد الجوجو مرة أخرى ليعلن أن المجلس سيعيد صياغة التعميم، وليس الغائه، قبل أن يعلن مرة أخرى عن إلغائه.
ولكن حتى في حال الإلغاء، فالمشكلة لا تزال قائمة في طريقة التعامل مع النساء. فقد أكد الجوجو في مقابلة على أن حق التنقل والسفر ليس حق مطلق للنساء بل حق “مقيد” بما لا يتعارض مع “مصالح الآخرين” دون تعريف “مصالح الآخرين” وكيف يمكن أن يتعارض سفر النساء معها. القرار الذي يخص منع السفر ذكر سبب المنع وهو “الضرر” ولم يذكر ما هو الضرر ولا ماهيته.
مثل هذه التعميمات ترجع حقوق المرأة إلى الوراء، في الوقت الذي تطالب الكثير من النساء بسن قوانين أهم تُجرم العنف الأسري الذي ارتفع بشكل غير مسبوق خلال فترة انتشار الوباء وإجراءات الإغلاق والحجر الصحي. وقد أظهرت بيانات تجمع المؤسسات التنموية النسوية أن 26 جريمة قتل سجلت بحق النساء في الضفة الغربية وغزة منذ مطلع عام 2020. وشهد قطاع غزة خلال العام الماضي جرائم بشعة من بينها جريمة قتل مادلين جراعبة التي قُتلت على يد والدها لأنها اتصلت بوالدتها.
كما أن مثل هذه التعميمات تضرب بعرض الحائط الحرية الشخصية التي يكفلها القانون الأساسي الفلسطيني (الدستور) لكل من الذكر والأنثى على حد سواء في مادته رقم (11) والتي تنص على أن “لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر قضائي وفقا لأحكام القانون.” وتعتبر كذلك تمييزاً واضحاً بين الفلسطينيين بناء على الجنس وهو ما يخالف المادة (9) من نفس القانون والتي تنص على أن “الفلسطينيين أمام القانون والقضاء سواء لا تمييز بينهم بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو الرأي السياسي أو الإعاقة.”
قرارات وخلافات
جاء القرار ليجدد الخلافات بين حكومتي الضفة وغزة في الوقت الذي تعقد الحكومتين لقاءات تحضيرية للانتخابات الفلسطينية المقررة في مايو 2021 بعد مرور خمسة عشر عاماً على آخر عملية انتخابية خاضها الفلسطينيون. فبعد يوم واحد على إصدار القرار، قال ديوان قاضي القضاة في رام الله أن المواطنين غير ملزمين بما جاء في بيان القضاء الشرعي بغزة، لأن البيان الذي قيل إنه صادر عن القضاء الشرعي في محافظات فلسطين الجنوبية هو “بيان صادر عن غير ذي صفة، كونه لم يصدر من جهة الاختصاص وهي ديوان قاضي القضاة.”
ولطالما انتقدت مجموعات حقوق الإنسان حركة حماس بالتمييز ضد المرأة منذ سيطرتها على السلطة في غزة عام 2007، ويعتبر هذا القرار واحداً من قرارات تتخذها حماس بين الفينة والأخرى بعضها معلن عنه والبعض الآخر شفهي، مثل قرار منع الفتيات من تدخين الأرجيلة في الأماكن العامة، فرض الجلباب الشرعي على طالبات الثانوية العامة، واستجواب الأزواج بخصوص عقد زواجهم إذا ما وجدوا في مكان عام. كما واجهت بعض الفتيات المسافرات عبر معبر رفح وحاجز بيت حانون في السابق أسئلة من موظفي الحدود عن موافقة أولياء أمورهم عن سفرهم وحدهم.
ويعاني أكثر من مليوني فلسطيني في غزة تضييقاً خانقاً على حركة التنقل من وإلى ما بات يعرف بأكبر سجن في الهواء الطلق في العالم، حيث تغلق مصر معبر غالباً رفح الجنوبي وتفتحه “إستثنائياً” في أوقات غير محددة للمرضى والطلاب وأصحاب الإقامات في الخارج. وتستمر رحلة السفر من غزة إلى القاهرة أكثر من يومين يبيت فيها المسافرين وأطفالهم غالباً في العراء. إسرائيل أيضاً لا تمنح جميع المتقدمين لتصاريح السفر عبر حاجز بيت حانون وجسر الملك حسين الأردني، وفي حالة الرفض، لا تعطي المتقدم أي سبب لذلك.
قطاع غزة الذي يعاني من أوضاع اقتصادية واجتماعية مترديّة أحوج ما يكون لقرارات تنهض بحياة الأفراد وبكرامتهم. في الوقت الذي تناضل النساء في قطاع غزة لانتزاع حقوقهن، يريد أصحاب السلطة من النساء في غزة منهن أخذ موافقة “ولي أمر” قبل السفر، ولا يهم من يكون، الذي يهم أن يكون ذكراً، حتى ولو كان لا يوازي قدراتها العلمية والثقافية، أو حتى لو كان معنفها، مغتصبها، أو حتى مصدر تهديد على حياتها. هذا غير منصف ومرفوض وغير دستوري.