أجبرتني أزمة فيروس كورونا العام الماضي على مغادرة لبنان والرجوع مؤقتًا إلى وطني تونس لمواصلة الدراسة عن بعد، لأعود بعدها إلى بيروت وأدخل في دوامة من الحيرة حول علاقتي بالمدينة طوال أربع سنين واستعدادي لمغادرتها، بعد أن أصبحت معلقًا بين مدينتين أربط بكل واحدة منهما معان ورموز مختلفة.
كشاب تونسي، تعمّقت حالة اغترابي مع تونس وعلاقتي بها في ظل حالة المد والجزر التي تمر بها سيرورة الإصلاح السياسي والاجتماعي. المكاسب الديمقراطية وخصوصية تونس على المستوى العربي بعد الثورة، لا تغن عن الواقع المعيشي اليومي المتشبع بالتجاوزات والإكراهات المسقطة من قبل الدولة أحياناً. ولكنني أعلم أن تونس هي نقطة العودة بالنسبة لي والكيان الذي سيؤثر على ملامح مستقبلي وعلاقاتي أو بالأحرى “حياتي الحقيقية.” لذلك، كنت أزور أهلي وأصدقائي لأسبوعين أو ثلاث كل فصل، وقد كان ذلك كفيلاً بكبت إشتياقي وتمضية وقت ممتع دون الحاجة إلى التعامل مع تفاصيل العيش هناك والمشاكل التي أرى شخصيً بأنها تزداد سوءاً.
Videos by VICE
من هذا المنظور، تموضعت بيروت كقالب خوّل لي الإبتعاد، ولو جزئيًا، عن تبعات حياتي الأخرى التي ارتأيت تأجيل التعامل معها إلى إشعار آخر، خاصة مع حصولي على منحة كاملة بالجامعة اللبنانية الأمريكية مما مكنني من التمتع بنمط عيش مرفه نسبيًا كطالب أجنبي كان ولا يزال “يقبض بالدولار.”
لقد احتضنتي بيروت، بتناقضاتها، بتضاربها الطبقي وبعبثية الوجود فيها لأربع سنين دون أن أشعر بالغربة أو العزلة. لقد كانت المدينة التي قضيت فيها بداية عشريناتي، وهي حقيقة لن تقدر الظروف الحالية المأساوية على دحضها. لا أبالغ إن قلت بأن فكرة الحنين إلى بيت أو home، تعيدني إلى بيروت وإلى نمط حياتي هناك، والذي كان مقاربًا لـ لفانتازيا المغتربين ذوي الامتيازات التي تحول دون التعرف على معتركات الحياة اليومية.
عدت إلى تونس مع بداية انتشار جائحة كورونا، وواصلت دراستي عن بعد بينما تدهورت أوضاع لبنان خلال تلك السنة، إنهيار إقتصادي شامل، أزمة صحية والنهاية كانت بانفجار 4 آب المدمر. اضطررت لمغادرة البلاد وقتها في أقل من 24 ساعة مع بداية إغلاق الحدود البحرية والجوية، مما منعني من التصرّف والتخطيط لإنتقالي الغير معلن. ظننت بسذاجة بأنني سأعوّل على مدّخراتي في بنكي اللبناني للإنفاق على احتياجاتي و مصاريفي، فإذا بي أفاجأ بسلسلة القيود المعلنة التي منعتني من إستخراج نقودي من الخارج، والتي أدّت في النهاية إلى فقدانها حوالي 65 بالمئة من قيمتها داخل لبنان أمام تضخم الهوة بين الأسعار المعتمدة بين البنوك وداخل السوق السوداء.
مع كل خبر مفزع كان يصلني عن لبنان، كنت أشعر بالتعاسة والحزن كأي لبناني. كان الجميع يشعر بالاستغراب، لم يتفهم أصدقائي أو أهلي الروابط المتينة التي بنيتها في هذه المدينة، والتي جعلتني أرى نفسي جزءً منها. لا، بل تحولت بعض التعليقات إلى مساحات سخرية من رغبتي بالعودة للبنان، مما عمّق الهوّة الفاصلة بين وجودي بين مدينتين مختلفتين. أصدقائي وأهلي كانوا عاجزين فعليًا عن فهم نمط حياتي هناك، ولم تزد التعليقات المشحونة بالتهكم عن حسن حظي بابتعادي عن بيروت في هكذا وضع إلا الطين بلة أمام إحساسي بالذنب بسبب تأثير الانفجار على العديد ممن أعتبرهم عائلتي التي أخترتها بعيدًا عن أهلي.
لقد كانت بيروت مساحتي الآمنة التي تقوقعت فيها من عالمي الخارجي. أجلس الآن في مقهى، وأنا عاجز عن رسم ملامح هذه المدينة الكئيبة والتي، في بؤسها وشقائها، حجبتني عن مرارتها بصخبها وروحها. كان من السهل عليّ التعايش والإندماج في هذه المدينة دون أن أحس بعدميتي، وهو شعور لطالما اختبرته في المدن الغربية التي تتّسع رقعة الفردانية فيها.
لم أشعر للحظة واحدة بأنني غريب هنا، ممّا جعلني أربط بنائي الشخصي وتغيّر منظومة عيشي وفهمي لنفسي من عمر العشرين إلى الرابع والعشرين الآن ببيروت. لقد أصبحت بيروت نفسها متقوقعة على ذاتها، مما جعلني اغترب عنها رغم أنني ابتعدت عنها لمدة سنة واحدة فقط. كان التغيير الأكثر وضوحًا متجليًا في الأسعار الجنونية التي جعلت من لبنان البلد العربي الأول من حيث غلاء المعيشة وحاجتي السريعة لفهم نمط العيش الاقتصادي مع تقلبات سعر صرف الدولار، فقدان مدخراتي قيمتها ووجود ثلاث أسعار معتمدة مع تردّي الخدمات الأساسية وانقطاع الكهرباء المتكرر وأزمة البنزين الحالية. هذا علاوة على إستعداد العديد من أصدقائي لمغادرة البلاد إما لإستكمال دراستهم بالخارج أو بهدف الهروب من الوضع لحين تدبير وضعهم بعدها.
حتى مجرد المشي في شارع الحمرا أصبح مختلفًا، سواء على البعد الشخصي النفسي لما كان يمثله الشارع أو البعد العملي الحقيقي مع نقص الحركة وإغلاق العديد من المحال والمنشآت التجارية أبوابها. في البداية، عدت لثلاث أشهر قابلة للتمديد لإتمام بعض الإجراءات الإدارية قبل إستلام شهادتي الجامعية مع رغبتي الأولية في تمضية أكثر وقت ممكن لي هنا، لكنني أدركت الآن جدوى مغادرة البلاد، وهو قرار اخترته عن قناعة بضرورة الإنتقال إلى مرحلة أخرى لن يكون للمألوف فيها مكان.
تخرجي وحصولي على شهادتي العليا ستكون خطوة معلنة عن مرحلة قادمة في حياتي، وهي، وفي نفس الوقت، مختلطة بمشاعر التوق والحسرة على بيروت التي تخنق سكانها وتكبّل عيشهم مع كل يوم. وعلى الرغم من الإمتيازات التي أتمتع بها، والتي تمثل فرصة الرحيل واحدة منها، لم أتصالح بعد مع فكرة الرحيل تحت هذه الظروف التي ستكرّس آخر تصوراتي وانطباعاتي عن هذا البلد الذي كبرت وتغيرت معه، والذي سأعتبره دوماً بيتي الثاني.