كيف أعاد هؤلاء الشباب الرواية الفلسطينية إلى مركزيتها النضالية

الشيخ جراح

استعمار (كولونيالية)، تطهير عرقي (جينوسايد) وفصل عنصري (أبارتهايد). هذه بعض المفردات التي عادت للظهور بقوة في الفترة الماضية لتصف ما يحدث في فلسطين المحتلة. وعلى الرغم من أن الفلسطينيين استخدموا هذه المفردات طوال أكثر من سبعين سنة من الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن قيام عدد من المنظمات الحقوقية العالمية والإسرائيلية بوصف ما يجري في فلسطين بأنه أبارتهايد وجرائم ضد الإنسانية، ساعد على تغيير طريقة السرد لقضية فلسطين بشكل كبير.

الرواية الفلسطينية حاولت على مدار عقود التأقلم مع التغييرات العالمية والإبقاء على وجودها وسط عالم غير عادل، إلا أن الفترة الماضية شهدت تحول في كيفية تعريف هذا الصراع. وساعد في ذلك انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، والأهم وجود شخصيات شبابية استطاعت إيصال الواقع كما هو من احتلال واغتصاب ارض وتهجير قسري واعتقالات وقتل وفصل عنصري، والتعامل مع الإعلام العالمي بلغة جديدة وقريبة من المشاهدين والمستمعين الأصغر سناً. نستعرض في هذا التقرير مجموعة من الشخصيات الفلسطينية ـ هناك الكثير غيرهم طبعاً – ودورهم في هذا التغيير النوعي، لا سيما مع العدوان الأخير على فلسطين ككل.

Videos by VICE

منى الكرد

قد يكون فيديو المواجهة الكلامية بين منى ومستوطن إسرائيلي يريد الاستيلاء على منزل عائلتها “إذا لم أسرقه أنا، سيسرقه شخص آخر” بداية الانتباه العالمي لما يحدث للعائلات الفلسطينية التي تريد إسرائيل تهجيرهم من بيوتهم قسرياً في حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة. فعلى الرغم من أن قصة الشيخ جراح ليست جديدة، وتم الاستيلاء على بيت لعائلة منى من قبل مستوطنين منذ سنوات، إلا أن  منى نجحت في إيصال القضية للعالم كله، ووضعت قضية عائلتها ومئات العائلات الأخرى التي هُجرت أو من المقرر تهجيرها قسرياً ضمن الأخبار الرئيسية في العالم.

منى الكرد تجاوزت المفهوم التقليدي للإعلام المؤسسي، وعبرَّت عن الإعلام الشعبي وصوت الشارع المقدسي بشكل حقيقي. منى تقدم لنا نموذجًا للصحفية المواطنة التي تنقل تفاصيل يومية عن الحياة في حي الشيخ جراح قد لا ينقلها الإعلام التقليدي. نقلت منى من خلال منصات التواصل الاجتماعي أحداث انتفاضة جديدة بدأت مع تجدد أزمة المنازل الفلسطينية. “التهجير القسري جريمة حرب” هكذا قالت منى في أحد اللقاءات، عندما سئلت عن ما تقوم به قوات الاحتلال التي تسعى لإخراجها من منزلها في القدس الشرقية المحتلة بحي الشيخ جراح. 

مع متابعة حساب منى على انستغرام (الذي تم حظره عدة مرات)، يمكننا معرفة تفاصيل شبه يومية عما يحدث في الداخل وكأننا في حي الشيخ جراح. فهي تنقل يوماً بيوم ماتقوم الشرطة الإسرائيلية من منع للأهالي لدخول بيوتهم وضرب واعتقال المتظاهرين وفرض حكم عسكري كامل على الحي المحتل. وبنفس الوقت نرى كيف يتم التعامل مع المستوطنين بشكل مختلف وسلمي تماماً وهم ليسوا أصحاب الأرض. ما يحدث هو فصل عنصري كامل يشبه ما حدث في جنوب أفريقيا.

الوجوه الشابة التي تظهر مع منى في تغطيتها المستمرة تقدم لنا رؤية جديدة عن شكل النضال الفلسطيني في الداخل. رؤية تبتعد تمامًا عن الأسلوب الذي سئمناه لعقود من شجب وإدانة الساسة والقادة الذين مازالوا يقولون نفس العبارات الرنانة الجوفاء دون اتخاذ أي تحرك فعلي على الأرض.

محمد الكرد

شقيق منى الكرد، وهو شاعر وكاتب عاصر حملات التهجير القسري الممنهج في حي الشيخ جراح منذ ٢٠٠٩. وقد لفت الأنظار له منذ طفولته (هو ومنى) عندما بدأ التحدث بالانجليزية عن عنصرية الاحتلال، فتشكل وعيه تجاه القضية، وصارت رغبته أن يكون لسانـًا مدافعـًا عن شعبه من خلال استخدام القانون والكتابة.  صوت محمد يصدح على الشاشات الغربية بطريقة علمية تفند اعتداءات الاحتلال غير القانونية. فمن خلال لغته الانجليزية يتاح له التواجد على منصات عالمية، وهو يصر على الإبقاء على وصف نفسه كشاعر فلسطيني، وليس كناشط سياسي.

في أحد لقاءاته على قناة سي إن إن سألته المذيعة عن الموقف الراهن من إخلاء منزله، فقال لها: “الأمر ليس إخلاءً، بل هو تهجير قسري عرقي كي أكون دقيقـًا، لأن الإخلاء يعني وجود سلطة شرعية، في حين أن الاحتلال الإسرائيلي لا يملك الشرعية القانونية تجاه الجزء الشرقي من القدس المحتلة وفق قواعد القانون الدولي.” اللغة التي يستخدمها محمد الكرد تعيد صياغة مفاهيم قد يرددها الإعلام العربي أيضـًا، فعندما نقرأ الكثير من المقالات أو نشاهد الشاشات العربية نجد أنهم يستخدمون لفظ إخلاء ولا يستخدمون لفظ تهجير. ما يكتبه محمد في المواقع العالمية ومنصات التواصل الاجتماعي يؤسس لمنطق نقدي للصراع من وجهة نظر قانونية ومعلومات يسهل تتبعها ومعرفة مدى دقتها، مما يضيف مصداقية واضحة لحديثه.

مريم البرغوثي

من خلال حياتها في مدينة رام الله، تقدم مريم البرغوثي إسهامًا مهماً في القضية الفلسطينية. فالبرغوثي باحثة وصحفية ومراسلة عملت مع كيانات إعلامية كبرى مثل نيويورك تايمز والجارديان وبي بي سي. كما تعمل مثل نشطاء فلسطينيين آخرين على تغيير المفاهيم المغلوطة عن الفلسطينيين في الداخل. ففي أحد لقاءاتها على قناة سي إن إن سألتها المذيعة عن وضع من وصفتهم بـ “عرب إسرائيل” فردت مريم “أنهم فلسطينيون وهناك محاولات لسلب هويتهم الفلسطينية منهم، فعلى الأقل يمكننا احترام هذه الهوية وأن نسميهم فلسطينيين وليس عرب إسرائيل.”

السؤال الذي تطرحه مريم والجيل الحالي من الفلسطينيين يتعلق بماهية الفعل الذي يجب القيام به لمواجهة احتلال عنصري مدعوم من الولايات المتحدة، وبالتالي فالإحباط بسبب الوضع القائم ليس هو الإجابة ولكن التحرك لمواجهة الاحتلال بطرق مختلفة. وتؤكد مريم هذه الاستراتيجية في لقاءاتها الإعلامية، فحين سألتها سألتها مذيعة سي إن إن عن الإجراءات التي يجب اتخاذها لإعادة استقرار الوضع في فلسطين، كان رد مريم “نحن لا نريد إعادة الوضع إلى مستوى سابق، نحن نريد تغيير، وليس هدنة. وهذا يتطلب شجاعة الصحفيين والساسة والشعوب، أن يقولوا الأشياء كما هي، مثل: هذه كولونيالية، هذا تطهير عرقي. أنا أتحدث للعالم وأقول هذه العبارات، وأتعرض لتهديدات من المستوطنين على حساباتي الإعلامية، لأن كلماتي تجعلهم  يشعرون بعدم الراحة، لأننا حرفيًا نُقتل.”

تامر نفار

يقدم الرابر والممثل والناشط الفلسطيني تامر نفار يقدم فنه الثوري منذ أكثر من عقدين من الزمن. تامر هو مغني راب فلسطيني يعيش في اللد، إحدى مدن أراضي الـ ١٩٤٨، وأسس أول فرقة راب فلسطينية في الأراضي المحتلة، والمعروفة باسم “فرقة دام.”

خلال العدوان الأخير على القدس وغزة، شهدت المدن الفلسطينية داخل إسرائيل مظاهرات داعمة في داخل فلسطين مطالبين بوقف العدوان، مع وجود تحركات ثورية في هذه المدن لوقف العنف والعنصرية الإسرائيلية ضدهم. وقد أظهرت عشرات من مقاطع الفيديو على وسائل التواصل هجمات واعتداءات التي وُصفت بأنها “عمليات قتل خارج نطاق القانون” من قبل جماعات يهودية في المدن والبلدات التي تقطنها أقلية فلسطينية في إسرائيل تحت شعار “الموت للعرب.”

أغاني نفار تنقل الصورة التي يعيشها فلسطينيو ٤٨، فهي ليست صورة وردية كالتي يصدرها الإعلام الإسرائيلي. فكثير من الفلسطينيين في أراضي الـ ٤٨ يُقتلون على يد الاحتلال دون تدخل قانوني من مؤسسات دولة الاحتلال. هذه العنصرية يفضحها نفار على التليفزيون الأمريكي، ففي لقاء على قناة أيه بي سي قال نفار إن الفلسطينيين داخل إسرائيل لا يحصلون على نفس المميزات التي ينالها الإسرائيليون، فهناك فقر يعاني منه الفلسطينيين، وتعنت من سلطات الاحتلال تجاه بناء المنازل أو التعليم. “نحن نُعامل مثل مواطنين من الدرجة الثانية.”  وأضاف أنه يعيش داخل إسرائيل ويخاف على نفسه من الشرطة التي تحمي المدنيين الإسرائيليين المسلحين، رغم أنه يدفع الضرائب مثله الإسرائيليين. لكنه مثل بقية الفلسطينيين في أراضي ٤٨، لا يحصل على الحماية.

تامر نفار يقدم فنًا ثوريًا، وما أقصده بالفن الثوري ليس فقط على المستوى السياسي، بل المستوى الاجتماعي، فنفار ينتقد العادات الاجتماعية البالية مثل حصر دور المرأة في الزواج فقط، في أغنية ايمتى نجوزك يامة وأغنية جسدكهن لانتقاد السلطة الذكورية التي تحكم أجساد النساء. أغاني نفار تناقش قضايا كثيرة، فهو يرى أن الفن يلعب دورًا اجتماعيًا كبيرًا، وخاصة في ظل الأحداث الجارية التي تمس كل إنسان يؤمن بعدالة القضية الفلسطينية.  فمثلًا، رغم بدء الحديث عن إعادة إعمار غزة من دول عربية، نجد أن أغنية مثل ملياردات ترد على هذه الجهود التي لا يشعر بها الفلسطينيون “مليارداات الدولارات عشان نعيش في شتات.”

نورا عريقات

أكاديمية فلسطينية مرموقة تعمل في الولايات المتحدة في مجال الدراسات القانونية وحقوق الإنسان، إلى جانب عملها محامية.  تقدم عريقات بُعدًا مختلفـًا في دعم القضية الفلسطينية، إذ أنها تحمل الجنسية الأمريكية، مما يجعل وصولها أكثر يسرًا لمنصات الإعلام الأمريكي التقليدي. فعادة، ما تُشاهد عريقات على قنوات مثل سي إن إن وبي بي سي الدولية، فهي تمتلك الجانب الأكاديمي الذي يضعها في مكانة مميزة ويصنع لحديثها تأثيرًا مختلفـًا سواء في الإعلام أو عند مخاطبة الطلاب الأمريكيين الدارسين للقانون أو العلوم السياسية.

في حديث أذيع منذ أيام عبر برنامج Democracy Now مع الإعلامية الأمريكية إيمي جودمان، قالت عريقات “إن اسرائيل تعمل على تغيير معنى القانون، لذا يجب أن نكون حذرين عندما نطالب بتطبيق القانون الدولي. فهي -إسرائيل- تعتبر الفلسطينيين دائمـًا تهديدًا لها إلى أن يستطيعوا إثبات براءتهم. الفلسطينيون يمثلون تهديدًا لمجرد وجودهم. إسرائيل تقتل الكثير من الفلسطينيين السلميين، وإن أراد المجتمع الدولي أن يفعل شيئًا تجاه ذلك، فعليه فرض عقوبات على إسرائيل ويمنع تسليحها، وغير ذلك معناه أن نطلب من الفلسطينيين أن يموتوا في هدوء.”

كلمات نورا عريقات هنا، لا تتحدث عن شرعية المقاومة الفلسطينية كحق منصوص عليه في القانون الدولي للشعوب المحتلة، لكنها تفند جرائم الحرب التي تمارسها سلطات الاحتلال ضد الفلسطينيين. قدرة نورا على استخدام خطاب منهجي وعلمي في الرد على مزاعم الاحتلال يفيد القضية الفلسطينية على المدى البعيد، إذ لم يعد يُنظر لها أنها مسألة تعاطف فقط، لكنها قضية حقوقية قانونية عادلة تستند إلى أدلة وبراهين.