مع انتشار فيروس كورونا، وفرض الحجر المنزلي والاغلاقات ومنع إقامة المناسبات الاجتماعية، السعيدة والحزينة، باتت شبكات التواصل الاجتماعي المكان الأبرز للتواصل، وتقديم التهاني والتبريكات والتعازي وحتى الرثاء. توفي قبل فترة قصيرة صديق عزيز على القلب، وفاته أحدثت صدمة، ليس لي فقط بل لعشرات أو قل مئات الأصدقاء والأقارب من مختلف أماكن تواجدهم في دول العالم. صديقي محمد الشيخ يوسف، الصحافي والناشط الفلسطيني الذي يبلغ من العمر 32 عامًا توفي إثر نوبة قلبيّة حادّة في قطر، التي انتقل إليها بعدما نجا من الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة عام 2014.
فور سماعي لنبأ وفاته، أصبت بصدمة موجعة، في البداية اعتقدت أنها مزحة من مزحاته، وكنت آمل أن يطل علينا بابتسامته البشوشة، لنضحك ونكمل حياتنا، لكن عاصفة من التعازي والرثاء هبت على شبكات التواصل الاجتماعي لإعلان نبأ وفاته. الحزن على وفاة محمد أو أبو الشيخ كما كان يحب مناداته كان كبيراً وعاماً، فكل من تعرف عليه، أحبه. عبر أصدقائه وأحبائه عن صدمتهم بوفاته المفاجئة وعبّر صفحاتهم على شبكات التواصل الاجتماعي تناول البعض أحداثًا ومواقف وذكريات معه. ولكن تطور الأمر لأكثر من رثاء لخسارة شاب فجأة، فقد أصبح هناك نوع من المنافسة على قربهم من محمد أو التأكيد على صداقتهم معه من خلال نشر لقطات مصورة بهواتفهم لأجزاء من المحادثات “الخاصة” مع محمد ونشروها للعام -حتى أن بعضهم تداول تسجيلات صوتية من محادثاتهم بصوته. وهناك من أخذ على نفسه مسؤولية – لم يطلبها منه أحد – إثبات أن غزة وهمومها هي من أدت لإصابته بسكتة قلبية أودت بحياته.
Videos by VICE
في البداية لم أعر الأمر اهتمامًا، لكن مع تكرار ذات الفعل، وتناقل بعض اللقطات المصورة من صفحة إلى صفحة أخرى، صار الأمر غريباً ومشوهاً.
لم تكن المرة الأولى التي نفقد فيها صديقًا وزميلاً عزيزًا، لكنها ربما المرة الأولى التي يتم فيها تداول محادثات خاصة بهذا الكم الملفت للانتباه، حتى تساءلت “هل يا ترى لو كنت على قيد الحياة يا أبو الشيخ ستوافق على ما يحدث؟ ماذا كنت ستقول لمن ينشرون؟” كنت أود لو يخرج من تحت التراب ليرد عليهم، أو ليعبر عن غضبه. بعض الأصدقاء حاولوا الكتابة بطريق جدية وأخرى ساخرة، لتنبيه الناس وحثهم على عدم نشر لقطات مصورة من المحدثات الخاصة لكنها لم تهدئ من غضبي، كما لم توقفهم عن النشر.
مرت أيام كانت عائلته وأصدقائه المقربون مشغولون في حزنهم حتى خرج صديقه ورفيق دربه في مراحل حياته كافة أحمد بعلوشة ليكتب منشورًا على فيسبوك يرد به على ما يجري: “صار مهم الواحد يكتب وصيته، قبل ما الناس ينهشوا لحمه ويقهروه بداعي الحب والصداقة.”
رد بعلوشة، كان بمثابة الرد من أبو الشيخ نفسه بالنسبة لي ولعشرات من الأقارب والأصدقاء، ربما ما كتبه كان سببًا مهمًا أدى لتوقف النشر أو تقنينه. وما حدث مع محمد، أعاد إلى ذهني السؤال عن أخلاقية نشر أحاديث مع شخص متوفي وهو غير قادر على تبريرها أو توضيح سياقها ووقت كتابتها، من سيأخذ بحقه في انتهاك خصوصيته بعد وفاته وهو صاحب الحق المنتهك؟ وهل لدينا رفيق درب يمكن أن يتحدث بصوتنا بعد مماتنا؟
أشار خبراء إلى أن فقدان صديق حميم، تسبب في انخفاض الرضا عن الحياة بشكل حاد خلال السنوات الأربع التي تلت الحادثة
في تقرير سابق لموقع “باور أوف بوزيتيفتي” حذر من بعض الأمور الواجب تجنبها والامتناع عن نشرها على شبكات التواصل الاجتماعية عند حدوث وفاة، مثل: نشر المعلومات الخاصة مثل محادثات خاصة على الملأ أو خلافاتك الشخصية والتحدث عن العلاقات العاطفية. نشر صور المحادثات الخاصة يعتبر انتهاك لثقة الطرف الآخر، إلا في حالة الحصول على موافقته قبل النشر. لكن في حالة وفاته -أي الطرف الآخر- لا يمكن الحصول على الموافقة، لذلك يجب أن نمتنع عن النشر مهما كانت أهميته. المشكلة الحقيقية، أن الأمر يعتمد على مدى احترامنا ومعرفتنا بخصوصيات الآخرين، ومدى تقيدنا الطوعي في الالتزام بها، وربما من الممكن لنا أن نلخص من خلال الكتابة الفكرة التي نريد إيصالها دون أي إثبات أو انتهاك، ومن لم يستطع منا فليصمت دون انتهاك لصداقات كانت وستبقى في القلب.
ما حدث قادني للتفكير في الكثير من ممارستنا وتعاملنا مع الموت على شبكات التواصل الاجتماعية، حيث أصبحت مكانًا مهمًا لنا وللأجيال القادمة لتناول أخبار الموتى وعلاقتنا بهم. كيف نتعامل مع الموت على الشبكات الاجتماعية، والآثار النفسية لذلك على أسرة وأصدقاء المتوفي المقربون، والممارسات الخاطئة التي نقع بها دون دراية بما يمكن أن تتسبب به، مثل نشر نبأ إعلان الوفاة قبل أسرته، وكتابة عبارات تعبر عن فاجعتنا بشكلٍ مبالغ فيه أو نشر لقطات مصورة من محادثاتنا مع المتوفي، أو الإفصاح عن أسرار المتوفي أو ممارسات يومية له خلال حياته من الممكن أن تتسبب بتشويه صورته أمام أسرته وأصدقائه.
ربما ليس من الحكمة نعي المقربين ورثائهم قبل التأكد من أن أهلهم وذويهم الأكثر قربة منهم قد اطلعوا على خبر وفاة هؤلاء الأشخاص وأخذوا عدتهم لتلقي العزاء بهم كما يوضح استشاري علم الاجتماع الدكتور فيصل غرايبة. أما عن الآثار النفسية لذلك، يلفت الدكتور عبد الرحمن مزهر استشاري الطب النفسي، أن الشخص عندما يتلقى خبر وفاة مفاجئ، ولم يكن عنده خلفية عن ذلك وغير متوقع أو إذا لم يكن المتوفى مريضًا من الممكن أن يسبب صدمة نفسية قوية لمتلقي النبأ، لذلك الأفضل في هذه الحالات تهيئة المتلقي نفسيًا كي لا يدخل في حالة من الاكتئاب. وكم من الأشخاص علموا بنبأ وفاة أحد المقربين من الشبكات الاجتماعية أثناء متابعتها بالصدفة وشكل الأمر لهم صدمة نفسية.
في كثير من الأحيان، قد يكون لديك روابط أقوى مع الأصدقاء من الأشخاص الذين تربطك بهم روابط أسرية، وخسارتهم ستعني خسارة نفسك معهم وحولهم. ويشير خبراء إلى أن فقدان صديق حميم، تسبب في انخفاض الرضا عن الحياة بشكل حاد خلال السنوات الأربع التي تلت الحادثة، وقد تسبب وفاة صديق من تأثير الفاجعة نظرا لتقلص الدائرة الاجتماعية، ومن ثم يصبح الشخص أقل قدرة على تحمل الحزن كونه فقد مصدرًا رئيسيًا للدعم العاطفي من شبكته الاجتماعية.
وكشفت دراسة سابقة الباحثون بجامعة ستيرلينج والجامعة الوطنية الأسترالية، تركزت حول تأثير وفاة صديق مقرب على الحالة الصحية والنفسية والاجتماعية للمقربين منه، وامتد العمل عليها 14 عامًا، تركزت حول فهم عدد من الآثار السلبية والدائمة التي شملت تأثر الصحة النفسية والجسدية. وتوصلت الدراسة إلى أن النساء أكثر تأثرًا بالوفاة من نظرائهنّ الذكور، حيث يعانين من انخفاض حاد في الصحة النفسية والجسدية.
واستنتجت الدراسة إلى أن عامل السن ومستوى التدين لهما أثر بالغ على المقربين للمتوفي، حيث أن الأفراد الأصغر سنًّا يعانون أكثر من نظرائهم الأكبر سنًّا، لكنها وجدت أيضًا أن الأفراد الأكبر سنًّا يميلون أكثر إلى الشعور بالوحدة. وكان للدين بشكلٍ عام تأثيرًا إيجابيًّا في التعامل مع الحزن، إذ يساعد الأفراد في التعامل مع الأزمات الكبرى مثل الموت. وتوصلت إلى أن وفاة الأصدقاء لها تأثير شديد الأثر النفسي والاجتماعي على الأصدقاء المقربين للمتوفي، في حين أنهم لا يحصلون على الاهتمام والدعم. وأكدت على ضرورة الاعتراف بوفاة صديق مقرب كتجربة كبيرة ومؤثرة في حياة الإنسان، وضرورة تقديم الدعم والخدمات الصحية والنفسية وأهمية وجود شبكة دعم.
بالتأكيد لا يجب على أحد أن يقيدنا النشر في صفحاتنا على الشبكات الاجتماعية، فقد أشارت دراسة أخرى أجراها باحثوها على أكثر من 15 ألف شبكة اجتماعية على فيسبوك، درسوا خلالها استجابات الشبكة بعد وفاة صديق مقرب، فتوصلوا إلى أن التفاعل بين أصدقاء المتوفى صار مكثفًا، ووصل إلى مستوى مستقر بعد عام من الموت، ما يعني أن الشبكات الاجتماعية تمثل شكلًا من أشكال الدعم الاجتماعي خلال فترة الحزن الشديد وبعدها.
التواصل مهم. ولكن ربما علينا أن ندرك أن حريتنا تتوقف عند انتهاك حريات وخصوصية الآخرين لا سيما من فقدناهم ورحلوا عنا دون سابق إنذار. دعونا نفتح محادثاتنا الشخصية معهم ونراجعها بصمت، نستذكر المواقف والنقاشات وتبادلنا للسخرية وحتى الشتائم مع أنفسنا دون إساءة للموتى، ودون اجبارنا على كتابة وصيتنا بألا تنتهكوا خصوصيتنا بعد موتنا.