كيف “نقتل” أمهاتنا بمحبة

christelle-hayek-ndn3LqPFLP0-unsplash

احتفالاً بعيد الأم، أطلقت فودافون مصر قبل أيام إعلانًا جديدًا خفيف الدم، يُصوّر بعض الأمهات يرقصن عندما يحظين ببعض الوقت الشخصي me time بعد خروج أولادهن من البيت. كان القطاع العريض من الجمهور سعيدًا بالإعلان المبتكر، خصوصًا أن أمهاتٍ كثيراتٍ يتحملن عبء التربية كاملاً بمفردهن. لكن -كالعادة- حين يتعلق الأمر بالنساء فهو لا يمر مرور الكرام، فقد هاجم كثيرون فكرة الإعلان باعتبارها كارثية، تهدم قيم المجتمع، وتشوه صورة الأم، وتجرح مشاعر الأبناء… لقد صرنا نحفظ هذه الحزمة الجاهزة من الأحكام والاتهامات، لكن لماذا يُستفَز البعض من إعلانٍ يريد لست الحبايب أن تحظى ببعض الروقان؟

قد يبدو أن ردة الفعل على الإعلان أمراً عادياً ولا يحتاج للكثير من التحليل، ولكن هناك الكثير من التفاصيل التي تشير لها التعليقات تتعلق بكيفية رؤيتنا للأم وهو ما ينعكس بدوره على شكل المجتمع والعائلة وقد ينقلب إلى تقديس مبالغ فيه لصورة الأم وفكرة الأمومة، وهذا التقديس يخلق في كثير من الأحيان علاقة غير صحية بيننا وبينها.

Videos by VICE

الأم “النموذجية” في مجتمعنا هي الأم فقط، الأم التي لا تفعل شيئًا غير الأمومة، تحمل وتتعب وتتعذب في ولادتها، وتسهر وتربي وتغير حفاضات وحدها، تَحميهم وتحافظ عليهم، تترك عملها لأجلهم، وتتحمل علاقات مسيئة حتى يتربوا “زي الناس.” يُسرف المجتمع في تقديس هذه الأم الكادحة التي تفعل كل شيء وتتحمل أي صعابٍ لتربي، وأغلب جوائز “الأم المثالية” تتوجه لنساء يسبحن ضد التيار للنجاة بأطفالهن بعد هجر الزوج أو موته مثلاً، هل هناك جائزة للأم المثالية رائقة البال التي تحب نفسها كما تحب أولادها؟ بالتأكيد لا.

يصنع المجتمع من الأمومة “صنمًا” عملاقًا يعبده الجميع، وتسعى كل الأمهات للاقتداء بهذا الصنم بمزيدٍ من التفاني في حياتهن وعلاقاتهن بأطفالهن، ويضحين بأنفسهن ويتحملن مزايداتٍ وضغطٍ اجتماعي لا ينتهي. في نفس الوقت، يحظى الآباء بامتيازاتٍ أكثر وأكثر على حسابهن، ويواصلون حياتهم ونجاحهم المهني والاجتماعي بنشاطٍ دون أن تعوقهم هويتهم كآباءٍ مثل النساء. بالتالي، يصبح صنم “الأم المقدسة” شديد الأهمية في مجتمعٍ أبوي يحدد قيمة النساء “بكونهن أمهات” واعتبار الأمومة الرغبة الوحيدة الجديرة بالاحترام، وتتربى الفتيات منذ طفولتهن على أنهن سيكبرن ويصبحن أمهات قبل أي شيء.

نحب الأم ونحترمها، هي أغلى شخص في حياتنا، ربما الجنة تحت أقدامها فعلاً، لكن ماذا عن حياتها؟ هل الأم التي تخلق لنا الجنة تعيش في جنةٍ مماثلة؟ أم أنها تكتوي بالجحيم لتحافظ على صورتها كأم؟ صورتها في عين المجتمع وفي عيوننا، نحن الأطفال؟

لا ننكر أن المحبة المجتمعية لكيان الأم صادقة ورائعة، لكنها أيضًا قد تؤذي أمهاتنا وتؤذينا بعدة طرق:

تتحول الأم إلى أمٍ فقط: عندما نصبح أمهات يعاملنا الناس كأمهات فقط، بينما يعامل الرجل كرجل دون أن ترتبط هويته بالأبوة. يتوقع الناس أن تكون الأم متفانية ومضحية لأبعد الحدود، تترك أحلامها، وتربط حركتها وحياتها الاجتماعية وطموحاتها العملية حتى في أبسط تفصيلة بأطفالها. هل الأب مسؤول بنفس الدرجة؟ لا. هل يشعر أنها تحمل عنه عبئًا مرعبًا؟ غالبًا لا. هل يطالبه المجتمع بتضحيات على نفس المستوى من الجسامة، مثل التخلي عن وظيفة؟ بالطبع لا.

تطبيع دور الأم المضحية: يُرسخ كتالوج الأمومة المجتمعي لأم مثالية تنكر كل احتياجاتها لصالح أولادها، ويحتفي بنماذج أمهات “جاعت ليأكل أطفالها” أو قسمت قطعة الحلوى الأخيرة بينهم ولم تذقها، من بين نماذج أخرى عن أمهات ضحين بكل شيء لأجل الأبناء. لكن هل هذا صحي؟ الأكثر واقعية وعدلاً أن تقسم الأم قطعة الحلوى الأخيرة بين الجميع بما فيهم هي، ليتعلم أطفالها أن المشاركة هي الأوجب وليس تضحية أحد الأطراف. فلنحتفظ بالتضحيات لأوقات الطوارئ العظمى والايبوكاليبس لكن ليس في كل تفصيلةٍ يومية.

تفقد الأم جنسانيتها: عندما تزوجت الفنانة نيللي كريم في العام الماضي، كان جزء كبير من التعليقات على خبر زيجتها رافض لفكرة زواج مرأة لديها أبناء كبار في العمر من منطلق “بتتجوزي وعيالك طولك؟” في نفس الفترة نشرت صحيفة مصرية خبرًا عن شابين زَوَّجا أمهما ويحتفلان بها كعروسٍ تبدأ حياةً جديدة، كانت التعليقات على هذا الخبر من نوعية “عيب” و”عيالها بيجري في عروقهم مياه باردة مش دم” و”بدل ما تطلعي عُمرة.” تعبر هذه التعليقات عن توقعات المجتمع بأن تفقد الأم جنسانيتها واحتياجاتها الجنسية والعاطفية لصالح أمومتها. لقد تربيتُ في بيئة متواضعة ورأيت نماذج كثيرة لأرامل ومطلقات من حولي، ورأيت كيف يحكم عليهن الناس، وكانت من تحظى بالإشادة هي من انكفأت على تربية أطفالها بعد ترملها، ورأيت من يرفضن الزواج الثاني خشية كلام الناس، ورأيت من تهاجم وتتعرض للسخرية لأنها “مَرَة عايقة عايزة راجل.”

الشعور بالذنب: هذه هي المأساة الأكبر. توقعات المجتمع العالية من الأمهات تربي فينا جميعًا الشعور بالذنب. في كتابها البديع “كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها” تقول الكاتبة والشاعرة المصرية إيمان مرسال: “لا يرتبط الشعور بالذنب بالتقصير فقط، بل ينبثق أحيانًا من نموذجٍ مثالي للأمومة، حيث لا نهاية لما يمكن أن تقدمه الأم لطفلها من حبٍ وحماية واستثمارٍ في الوقت والتعليم. يبدو الشعور بالذنب وكأنه الشعور الذي يوحد الأمهات على اختلافهن،…. هو أيضًا نتاج المسافة بين مثالية الأمومة في المتن العام وبين إخفاقاتها في الخبرة الشخصية.”

الذنب هنا هو شعور الأمهات بالتقصير مهما بذلن من جهد، لأن المجتمع يُسوِّق لتضحيات بلا نهاية يمكن أن تقدمها، وهناك دومًا أم أخرى قدمت لأطفالها أكثر منها. من ناحية ثانية نرتبط نحن بإحساس الذنب نحو أمهاتنا إذا رغبنا ببعض الاستقلالية، أو المساحة الشخصية، أو عوملنا بشكلٍ غير صحي. لقد تربينا أن الأم هي الأفضل والكيان الأسمى الذي يعرف مصلحتنا أكثر منا، وسط هذه البروباجاندا توجد أمهات سامات يعاملن أولادهن بشكلٍ غير صحي، ولن يدرك هؤلاء الأولاد ذلك إلا بعد زمنٍ طويلٍ جدًّا، وسيكون الشعور بالذنب مرافقًا لهم وهم يتحررون من تلك الأم.

بعض الأمهات سامّات: الأمومة السامة موجودة، وكثيرًا ما تظهر نتاج التضحيات اللا نهائية التي قدمنها خلال تربية أطفالهن. غياب الاستقلالية في علاقة الأم وأطفالها يحولهم إلى “مشروع عمرها” الذي تمحورت حياتها كلها حوله، وماذا عندما ينفصلون عنها بسفرٍ أو زواج؟ حزن وفراغ وغياب للمعنى يلقي بالأم في دوامة من الكآبة والمرارة. في المقابل، وضع المرأة بصورة القديسة يجعل من الصعب الإعتراف بأن هناك أمهات سامات، وعنيفات ويفرقن بين الأبناء ويناصرن الأبناء على البنات وغيره من الصفات غير المثالية كما في أي إنسان. كما أن هذه السلطة الممنوحة للأم تجعل من الصعب على أبنائها تحديد خياراتهم في الحياة بدون أن يكون لها رأي، وهذا قد يعني الخضوع للابتزار العاطفي الذي قد تمارسه الأمهات بسبب هذه السلطة الممنوحة لهن.

تصبح الأم ملكية خاصة للأبناء: أتذكر أن في طفولتي كانت إحدى الجارات تأتي وتنادي أمي باسمها “يا فوزية”، بصوتٍ عالٍ يسمعه الشارع كله. وقتها كنت أُجن من الغضب، وأعترض على ما يحدث وأطالبها بمناداتها كما يناديها الجميع “أم آية.” لكن كلما نضجت رحت أتذكر مشاعري، وأتساءل لأي درجةٍ كان غضبي ينبع من شعوري بامتلاك أمي، ورغبتي في أن تُنادى باسمي باعتباري الابنة الكبرى؟ شعوري بامتلاك اسم أمي رأيت ما يشبهه عند آخرين تعاملوا مع أمهاتهم بحدة حين حاولت الانفصال عنهم بأي صورة سواء سفر أو فرصة عمل أو قضاء بعض الوقت لوحدها. هذا الامتلاك المرضي سمٌ حقيقي، نقتل به أمهاتنا دون أن نشعر، ويجبرهن على التضحية بوعي أو دون وعي لإبقائنا سعداء.

في كتابها الصغير الجميل “عزيزتي هاجر، أو مانيفستو نسوي من خمسة عشر مقترحًا” تقدم الكاتبة النيجيرية تشيماماندا نغوزي أديتشي مقترحات لصديقتها حول كيفية تربية ابنتها كنسوية، فهي ترى أن تربية الفتيات كنسويات يساهم في خلق أجيال أمهات أفضل، لهن علاقات صحية رائعة مع أطفالهن.

تقول تشيماماندا في نصائحها: “كوني شخصًا كاملاً. الأمومة هدية رائعة لكن لا تُعرِّفي نفسك بها، ولا تحبسي نفسك في إطار الأمومة وحسب. كوني شخصًا كاملاً. لا تعتذري مطلقًا عن عملك. أنتِ تحبين ما تقومين به، وحبك هذا هو هدية عظيمة لطفلك.” إن حل الكثير من مشاكل علاقاتنا العائلية سيأتي من تقدير فكرة أن الأم إنسان مستقل، لها حياة وشخصية مستقلة عن أطفالها رغم حبها وتعلقها بهم.

نحن نحب أمهاتنا، لكن الخطأ الكبير يأتي من وضع الأم في منزلة مقدسة، والتعامل مع أمومتها كوضعٍ افتراضي لوجودها، لا تُحتسب حياتها قبله، ولا يُعتَرَف بحياتها بعده. الأم ليست مقدسة، هي مجرد إنسان لها احتياجات ومشاعر، ولديها الحق في الخلوة والخصوصية والهدوء والابتعاد قليلاً عن أطفالها، كما لها حق في الطلاق والخروج من علاقة سامة، وحق بالارتباط والعمل والسفر وتحقيق ذاتها، وبالتالي بناء علاقة أكثر توازنًا مع أطفالها.

في عيد الأم أحب الأمهات جميعًا من كل قلبي، وأتمنى لو نرى الأمومة على حقيقتها لنستطيع أن نحبهن بشكلٍ أفضل، بشكل يخلق علاقات أكثر صحة في مصلحتها قبل أن يكون في مصلحتنا.. كل عام والأمهات سعيدات.