لبنانيون يهربون من الغلاء إلى أسواق سوريا

“على الأقل البحر هنا أنظف ولست مضطراً لشراء مياه الشرب أو دفع ضرائب إضافية على الدخان،” يقول اللبناني عليّ، 26 عاماً، مهندس اتصالات عن سبب تفضيله للتسوق في سوريا مقارنة بلبنان على الرغم من الحرب الدائرة هناك منذ سبع سنوات. في الماضي كان من الممكن بسهولة ملاحظة مجموعات المتسوقين المتبادلة على الدوام بين البلدين وعبر الحدود المفتوحة بين الطرفين وبإستمرار. كان خيار التسوق في لبنان متاحاً للسوري المقتدر الذي يسعى نحو المزيد من الرفاهية المرتبطة بالبضائع والماركات الأجنبية المستوردة، فيما كانت سوريا بالمقابل تتيح صناعاتها الوطنية أمام السياح الأجانب أو الوافدين من دول مجاورة، وخاصة لبنان، بأسعار رخيصة بكافة المقاييس، سواء صناعات الأقمشة والقطنيات خاصةً التي تميزت بها مدينة حلب لعصور، أو الصناعات الغذائية المحلية وحتى الصناعات الدوائية، جميعها كانت توفر للمواطن اللبناني بديلاً أقل سعراً عن السلع المستوردة في بلده وموازيةً في الجودة أحياناً.

بعد اندلاع الحرب السورية في عام 2011 والدمار الذي لحق بالبنى التحتية في المدن المختلفة، وهجرة الصناعيين وأصحاب رؤوس الأموال، وخطورة الظروف الأمنية، كان من المتوقع أن تصبح الحركة الحدودية الوحيدة بين البلدين هي حركة خروج باتجاه واحد وبلا رجعة. لكن لبنان اليوم وإن كان المنفذ البري الوحيد أمام السوريين، فهو حتماً ليس المنفذ الأنسب لمواجهة التدهور الاقتصادي. فعلى الرغم مما شهدته سوريا من تضخم متزايد في الأسعار عاماً تلو الآخر، وارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية إلى عشرة أضعافه في الماضي، مازال البلد بأسواقه الشعبية وبضائعه المحدودة أكثر رحمةً بالمتسوقين-على اختلاف إمكانياتهم المالية وطبقاتهم الاجتماعية-بالمقارنة مع لبنان حيث “لا بد أن أبيع إحدى كليتيّ في السوق السوداء لاشتري ما أريد،” كما يقول علي.

Videos by VICE

البعض وجد أن الموضوع هبل، ولكن برأيي الهبل هو ألا تتجاوز مصاريف إجازتي هنا متضمنةً أجور المواصلات والطعام والتسوق، أجور الدخول إلى أحد منتجعات جبيل أو بيروت ليوم واحد

والد عليّ وعمه عملا بالشراكة مع تجار سوريين طوال عشرين عاماً سبقت الحرب، مما جعل البضائع السورية متوافرة للعائلة خلال نشأته، وتسبب انقطاعها إرباكاً اقتصادياً للأسرة. “خلال هذا الشتاء ومع استقرار الوضع الأمني نسبياً في سوريا، رافقت والدي لزيارة أحد أصدقائه القدامى. لاحظت حينها أن معظم البضائع أو الخدمات رغم محدوديتها، إلا أنها حتماً أرخص بالمقارنة مع لبنان،” مما شجع علي على العودة خلال الصيف لقضاء بضعة أيام من إجازته رغم ما أثاره الموضوع من استنكار بين بعض أصدقائه: “البعض وجد أن الموضوع هبل، ولكن برأيي الهبل هو ألا تتجاوز مصاريف إجازتي هنا متضمنةً أجور المواصلات والطعام والتسوق، أجور الدخول إلى أحد منتجعات جبيل أو بيروت ليوم واحد.”

أما وسيم، 30 عاماً، موظف تسويق، وكون والدته سورية، فيشير الى أنه كان يذهب لزيارة لنصف عائلته المقيم في سوريا بشكل دائم، ولاحظ خلال هذه الزيارات انتشار محلات الألبسة المستعملة أو (البّالة) التي تكاثرت مع تراجع الصناعات الوطنية حتى لا يكاد يخلو شارع منها. لهذه المحلات سمعة أنها تبيع ملابس قديمة أو مستعملة أو نخب ثانٍ، “ولكنها في الواقع تجمّع لبضائع من ماركات أوروبية لم تنفذ في موسمها وتم تصديرها لتباع بالوزن في بلدان أخرى، كما يقول وسيم ويضيف: “إعتدت على اقتناء ملابسي كلها من محلات البالة سواء في حمص أو اللاذقية، وفي لبنان كنت دوماً أحظى بالإطراء والثناء على هذه الملابس. المشكلة انه كلما كشفت سر مصادري لأحد الأصدقاء أصبح مضطراً للتسوق لهم أيضاً خلال زيارتي،” يقول وسيم ضاحكاً. “أفكر جدياً في الفترة القادمة أن أستثمر مع أخي في بزنس يعتمد على ما نجلبه من بضائع وملابس من البالة في سوريا.”

الصورة من فليكر

وعلى الرغم من انتشار محلات البالة في لبنان إلا أن بضائعها في سوريا أرخص بكثير. السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى الاختلاف في دخل الفرد بين البلدين، أو اختلاف أسعار الضرائب المفروضة على شحن هذه البضائع عبر البحر. أبو إبراهيم، 49 عاماً، عمل سائقاً بين سوريا وبيروت طوال حياته تقريباً، وتزوج صغيراً من سيدة سورية انتقلت للعيش معه في لبنان. مع ذلك يؤمن الزوجان أغلب احتياجات عائلتهم من سوريا: “زوجتي تبتاع كثيراً من ملابس وحاجيات أولادنا عند زيارتها لعائلتها في سوريا ولم يتغير هذا الحال حتى بعد الحرب،” يضيف: “أنا أحاول دوماً ابتياع حاجيات المنزل اليومية الأقل سعراً في سوريا أثناء نقلي للركاب من وإلى بيروت سواء الخضراوات أو الحلويات أو حتى اللحوم.”

الحلويات التي تجدها في سوريا لا بديل عنها في العالم، البرازق وحلاوة الجبن، والغريبة والمعمول بسفرجل، وشراب الورد والجميع في بيروت من جيران وأصدقاء يطالبني بحصته بعد كل زيارة


أطرح على وسيم وأبو إبراهيم السؤال ذاته عما إن كان تسوقهما في سوريا هو بحكم العادة فقط، فيجيب وسيم: “أعتقد أن جزءاً من السبب هو إمكانية وجودي في سوريا بالمقام الأول لأسباب عائلية. فالمواطن اللبناني الذي لم يزر سوريا سابقاً لن يقصدها اليوم للتسوق بعد كل ما مرت به البلد مهما كان في ذلك من عروض مغرية.” أما أبو إبراهيم فيقول: “في الماضي كنا ندعو مدينة حمص (أم الفقراء) لرخص أسعارها وجودة منتجاتها المتاحة للجميع، ولكن حتى إن تغيرت الأوضاع اليوم فما زالت هذه المدن أماً للمعترين من أمثالي بالمقارنة مع مدينة كبيروت.”

من ناحية أخرى، ما زالت العاصمة دمشق مركزًا للسياحة الدينية بالنسبة للكثير من شيعة لبنان الذين يزورون مقام السيدة زينب بانتظام سنوياً وتربطهم بالمدينة علاقة حميمية لا يبدو أنها تأثرت كثيراً بفعل الحرب. تخبرنا السيدة نجوى، 53 عاماً، مدرّسة لغة فرنسية، عن كل ما اعتادت تسوقه خلال زيارة دمشق: “هناك الحلويات بالطبع، الكثير منها،” (تضحك) الحلويات التي تجدها في سوريا لا بديل عنها في العالم، البرازق وحلاوة الجبن، والغريبة والمعمول بسفرجل، وشراب الورد والجميع في بيروت من جيران وأصدقاء يطالبني بحصته بعد كل زيارة،” تتابع: “بعض البضائع باتت أقل توافراً بالمقارنة بالماضي ولكن ما زال تأمينها يستحق العناء كالأقمشة والصابون والزعتر الحلبي.”

دمشق، سوريا. الصورة من شترستوك

تعترف السيدة نجوى لاحقاً أن المدينة تتيح لها عند زيارتها أكثر بكثير من الحلويات والأطعمة، حيث تحظى هنا ببعض الخدمات الطبية التي تبلغ تكلفتها ما يقارب الضعفين في حال حظيت بها في بيروت: “أقوم بإصلاح أسناني ومتابعتها بانتظام في عيادة خاصة هنا في دمشق منذ أعوام، فالأمر أقل تكلفة بالمقارنة مع بيروت حتى بوجود تأميني الطبي.” أما ابنتها دلال، 25 عاماً، طالبة ماجستير التي امتنعت عن زيارة دمشق مع عائلتها في الأعوام الماضية لخوفها من الظروف الأمنية، فتقول أتها قررت زيارة سوريا هذا الصيف في زيارة سريعة مدفوعة بالحنين لهواية قديمة: “لطالما وجدت الصناعات الحرفية في دمشق مثيرةً للاهتمام. اعتدت شراء تذكارات صغيرة مصنوعة بمهارة وجمعها عاماً بعد عام كأطباق الخزف الملونة (القيشاني) أو صناديق الموزاييك.” بالطبع فإن هذه الحرف التقليدية وغيرها كالنفخ بالزجاج أو صناعة أقمشة البروكار والأغباني التي كانت تنتعش بفعل السياحة في الماضي باتت على وشك الاندثار في الوقت الحالي على الرغم من تميزها وتفرد دمشق بصناعتها. تضيف دلال:”أحب أن أحمل بعض هذه التذكارات كهدايا لبعض الأصدقاء وأحتفظ بالكثير منها لنفسي. أشعر أنها ستكتسب المزيد من القيمة مع الأيام.”

أحمل الكثير من الحاجيات بشكل يومي لتوصيلها لشبان سوريين يعيشون في لبنان من عائلاتهم. ملابس أو أدوية أو معاملات وأوراق رسمية، والأهم هو طبخات من إعداد أمهاتهم. في بعض الأيام أُوفّق على الطريق فلا أتأخر وتصل الطبخة إلى بيروت وهي ما تزال ساخنة

وإن كان بعض اللبنانيين قد وجدوا طريقهم إلى ما تتيحه الأسواق السورية من بضائع متواضعة الأسعار نتيجة عوامل أو ظروف معينة، فليس من المفاجئ إطلاقاً أن يكون السوريون أنفسهم أكثر وعياً لهذه النقطة. التواجد المتزايد لبعض الشبان السوريين في لبنان هرباً من الخدمة العسكرية، أو في انتظار طال أوانه لفيزا تعيد توجيههم إلى بلد جديد، وضعهم فجأة في ظروف اقتصادية فاقت توقعاتهم وإمكانياتهم، سواء منهم من استطاع تأمين عمل مؤقت أو من يعتمد على عائلته في تمويل إقامته. هذا الواقع الصعب جعل معظمهم يعتمد على ما يمكن لعائلته في سوريا توفيره من إمدادات كل فترة. تشاركنا السيدة علياء، 47 عاماً، مهندسة مدنية، تجربتها مع ابنها: “اتصل بي منذ مدة وأخبرني أنه أنفق 100$ ثمناً لحذاء وبنطال جينز. أدرك بالطبع التفاوت في الأسعار بين البلدين والاختلاف الكبير في متوسط الدخل، ولكن أسعار كهذه مازالت مرتفعة بالمقارنة مع الدخل الذي تؤمنه وظيفته والذي لا يتجاوز 600$ يذهب نصفها لإيجار غرفته.”

مئة دولار هي في الواقع متوسط الدخل الشهري لموظف حكومي في سوريا، لذا كان الخيار الأكثر منطقية بالنسبة للعائلة إرسال بعض المواد الغذائية او البضائع عوض إرسال مرتب شهر لا يكفي لأكثر من بضعة أيام في مدينة كبيروت: “نرسل إليه بعض المؤن كل فترة مع سائق نعرفه، وفي بعض الأحيان أزوره بنفسي وأحمل معي الكثير من الطعام والملابس.” بالة أم صناعة وطنية؟” أسألها فتجيب ضاحكة:” شوي هيك وشوي هيك، بس التنين أرحم من غلا بيروت.”

السائق أبو إبراهيم يؤكد أن كثيرين من العائلات تقوم بالأمر ذاته: “أحمل الكثير من الحاجيات بشكل يومي أوصلها كأمانات إلى شبان سوريين يعيشون في لبنان من عائلاتهم. ملابس أو أدوية أو معاملات وأوراق رسمية، والأهم هو طبخات من إعداد أمهاتهم. في بعض الأيام أُوفّق على الطريق فلا أتأخر وتصل الطبخة إلى بيروت وهي ما تزال ساخنة.”