لكم دينكم ولي دين: صايمة جد ولّا دايت؟

GettyImages-694799322

خضعت لعملية جراحية قبل أسبوع من بداية رمضان. حسبتها في رأسي، لو عملتها الآن سأستغل الشهر في تنظيم حميتي الغذائية بسبب تداعيات العملية على الجسد وطبيعة الأكل، كان اختيارًا موفقًا. منذ أربعة سنوات وأنا أتعامل مع شهر رمضان باعتباره شهر الدايت فقط، أصوم مع أهلي كوني أعيش معهم، يعلمون تمامًا أنّني لا أزيّف أداء عبادات أخرى كالصلاة، لذلك، يمثّل صيامي أمامهم الشعرة الوحيدة التي تربطني بالدّين.

في الحقيقة، لا أعلم لو كان ما يربطني في الدين شعرة الصيام أم خيوط متشابكة كَبيتِ العنكبوت منابتها تعود لحقيقة ترعرُعي في السعودية، و٢٦ عامًا من سماع سورة الكهف يوم الجمعة، ومعالجة أبي لأمراضي بالرقية الشرعية. تكشّفت لي في الفترة الأخيرة علاقة غريبة مع روحانيات الدين، يشوبها الاضطراب والطمأنينة في آن، تجلّت بشكلٍ أوضح في شهر رمضان.

Videos by VICE

تربّيتُ في بيتٍ يفوق تديّنه المحيط حولي، لم أتابع المسلسلات التي يعرفها الجميع ولا الأغاني التي يحفظها جميع من أعرفهم بصمًا. كنت أشعر في طفولتي بالتميّز، زُرِعت في نفسي حقيقة أن ما نفعله في منزلنا هو الصواب، وأن باقي الناس خاطئين، واستمرت العادات حتى اليوم. أُقلّب في تايملاين تويتر وأقرأ آراء الناس حول مسلسلات رمضان، لا أشارك، ما تزال تغلّف هذه التسلية صفة التفاهات وتضييع وقت العبادة التي تربّيت عليها.

عشتُ مع عائلتي حتى انتهيت من الثانوية، وقتها كان عليهم أن يبقوا في السعودية وأنا أستقر في الأردن لأكمل دراستي الجامعية. تعرفتُ عبر الفيسبوك وأنا في سنتي الجامعية الثالثة على مجموعة فتيات يُقِمن نقاشاتٍ فكرية حول النسوية والدين والمجتمع والقانون، عبر مناقشة الكتب وإقامة جلسات حوارية. تعلمتُ منهن الكثير وتفتّحت في رأسي أسئلة كثيرة. في ذات الفترة، وعن طريق فتياتٍ من المجموعة، وصلت لنادٍ يقيم ورشات نقاشية محاضرات عن أمور علمية لأشخاصٍ غير متخصصين. وقتها حضرت معهم ورشة علمية عن نظرية التطور، خرجتُ بعد ست ساعات من الورشة وفي رأسي أسئلة كثيرة حول الخلق والوجود. ومن وقتها بدأتْ رحلتي مع التساؤلات.

لم تكن السنة سهلة، شابها الكثير من ليالي الاكتئاب والبحث عن جوابٍ واحد يُشعرني بالطمأنينة. بعد أن تعبتُ من التفكير، قررتُ أن أتخلى عمّا عرفته، لم أجد وقتها -وإلى الآن- أجوبة تبقيني ماشية على الطريق الذي ورثته عن أهلي. تركتُ الصلاة والحجاب. لم يكن صعبًا الانفصال عن الأداءات الجسدية، كان الأصعب والذي أدخلني في حالات اكتئابية شديدة هو تقبّل فكرة أن لا هدف أُخروي لحياتي. لذلك كان عليّ أن أمضي في طريقٍ مجهول حتى أجد شيئًا ما أتشبث به وينقذني من عذابات العدم.

لا يعني أن تكبر في بيئة متدينة أن تنفصل تمامًا عن جذورها بعد أن تتخلى عنها. مثّلت العادات الدينية منذ طفولتي عامودًا ثابتًا بُنيت حولها كل توقعات أهلي منّي، وتوقعاتي -لاحقًا- من ذاتي، أسلوب حياتي وصحوي ومنامي، دخولي إلى الحمّام وخروجي منه، دخول المنزل والسلام على الناس، ما أزال حتى اليوم أرحّب بالآخرين بـ السلام عليكم، ما زلت أقول الحمدلله بعد العطسة، وأتبع خططي بـ إن شاء الله، التصقت هذه العبارات في حلقي وصارت عادة لا يمكن التخلّي عنها.

أحب رمضان. لا يعني صيام الدايت أنّي أكره الشهر. رمضان هو الشهر الوحيد في السنة التي تكون حياتنا فيه منظّمة. وجبة قبل الفجر ووجبة بعد المغرب، وما بينهما هادئ، لا صراخ، لا فوضى، ولا كركبة يومية. لطالما شعرتُ بالسكينة في ساعات الفجر الرمضانية. أخرج عادةً للمشي في الليل المتأخر في حديقة بيتنا، تصلني أصوات التلاوات من المساجد القريبة خاصةً في العشر الأواخر، شيءٌ ما في قراءة القرآن يلمسني بعذوبة وكأنها قادمة من السماء.

يمثّل رمضان في بيتنا شهر سكينة، يملأه صوت تلاوة والدي قبل المغرب وبعد الفجر. تبدأ والدتي بتحضير الطعام قبل نصف ساعة من الأذان، طبق رئيسي واحد كأي يوم اعتيادي، شنينة وعصير، وتمراتٍ نكسر فيها صيامنا ونجلس في انتظار عودة والدي من صلاة المغرب في المسجد. لا يفوّت أبي صلاة المسجد أبدًا، وتعوّدنا أن لا نأكل مباشرة مع الأذان. نأكل تمرة ويبدأ والدي بالدعاء ونردد خلفه آمين. كنت أستغرب عندما أفطرت في بيوت أصدقاء أنهم لا يدعون الله جماعيًا عند الإفطار، بل يبدأ سكب الطعام في الصحون والبطون مباشرةً مع الله أكبر.

تراودني مشاعر مختلطة حول ما أكونه وما يظهر مني أمام أهلي. لم يكن سهلًا أن أُعلِن نفسي كملحدة، دائمًا ما أردت الفرار من هذا الوصف. أسمع القرآن بشكلٍ روتيني، أحب أصوات محمد عمران وعبدالباسط عبد الصمد، يُثير فيّ تجلّي القارئ في تلاوته أحاسيسًا ماورائية، أستمتع بالموسيقى الناتجة عن ارتجاج الأوتار في حنجراتهم. أتجمد عندما أسمع آيات العذاب، ويملأني شعورٌ هجين بين الرغبة والخوف، لكن شيئًا ما في التلاوة يشدّني نحو عوالم متخيلة من الأمان تطفو فيها الأرواح بسلام.

أيقظني الأطباء من التخدير بعد العملية وأعادوني إلى غرفتي في المستشفى، لم أكن واعية، كان البنج يملأ عروقي وأوردتي، شعرتُ بنارٍ وسكاكين في بطني. أمسكتُ يد أمي ووضعتها مكان الألم: اقرأي عليّ ماما. اقرأي عليّ مشان الله. بعدما خفّ الألم طلبت منها أن تشغّل شيئًا أسمعه، كان عليّ أن أكسر صمت الأوجاع بشيءٍ مريح. أجابتني مازحة: أشغلّك ويجز؟ رددت عليها بانفعال البنج: ويجز! شو ويجز! شغّلي قرآن، بدي سورة النجم بصوت سكينة حسن. ملأ صوت المُقرِئة زوايا الغرفة الباردة، وتسلل الأمان إلى قلبي، ونمت بسلام.