لطالما كنت أتباهى بقدراتي الخارقة على تذكر أدق التفاصيل، سواء تعلق الأمر بالمذاكرة أو بأهم التواريخ، أو حتى بوجوه الأشخاص الذين قابلتهم على مر السنين. أما الآن، وكما يقولون يا ليت الشباب يعود يومًا، أجد نفسي أكرر جملة “يا ليت الذاكرة تعود يومًا” كلما فشل عقلي في استحضار ما تناولته على طاولة العشاء الليلة السابقة.
بدأت أنتبه جديًا لحالتي الذهنية الجديدة عندما كنت أشاهد أحد الأفلام الوثائقية مع والدي، منذ بضعة أسابيع، حول تاريخ واحدة من مناطق المملكة المغربية. حينها فاجأني والدي بجملة خلقت الفوضى في إعدادتي الإدراكية: هل تذكرين ما حصل لنا حينما زرنا هذا المكان؟ لوهلة رحلت عن لحظتي الآنية وعدت بسفر عبر الزمن داخل ذكرياتي الغابرة، أبحث بدون أمل على أصغر تفصيلة يمكنها الإجابة على هذا السؤال المفاجئ… لكن بدون جدوى. بل وجدت نفسي أسأله: هل حقًا زرنا هذا المكان من قبل؟
Videos by VICE
تبين لي لاحقًا أنني زرت تلك المدينة، بل حتى أنني نشرت صورة لي في أحد أزقتها على حسابي على فيسبوك، تأكدت حينها أنني أقرب للخَرف من والدي الذي ما يزال يتذكر أول يوم له بالمدرسة وكأنه بالأمس. لم أستطع تجاوز هذا الأمر، وقررت البحث عن أصل تراجع قدراتي الإدراكية المفاجئ، وبالتالي إيجاد حلول سريعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
إن الشعور بأن ذاكرتك قد لا تكون على ما يرام هو شعور مخيف. “فالذاكرة تجعلنا ما نحن عليه. فقدان أي جزء من هذه القدرة يهدد فكرة من نحن.” لهذا من الطبيعي أن تكون أكبر المخاوف الصحية لدى الأشخاص فوق سن الخمسين هو مرض الزهايمر والخرف.
لكن ما الذي جعلنا نحن الشباب أكثر عرضة لنسيان تفاصيل مهمة من حياتنا؟
بحسب رأي الدكتور أمير هوميون جافادي، محاضر أول في علم النفس المعرفي وعلم الأعصاب الإدراكي في جامعة كينت بالمملكة المتحدة، فإن مرورنا بجائحة صحية دامت لأكثر من سنتين جعل من الصعب على أدمغتنا تكوين ذكريات واسترجاعها عند الضرورة: “الوضع الذي مررنا به خلال العامين الماضيين دفع الكثير منا إلى عدم القيام بالكثير وعدم التخطيط للمستقبل.”
إننا نمر من واحدة من أصعب الفترات التي عرفها التاريخ الإنساني. لقد عشنا جائحة صحية عصيبة قلبت حياتنا رأسًا على عقب بين ليلة وضحاها، وبدأنا بالرجوع إلى حياتنا السابقة شيئًا فشيئًا. لكن لا شيء عاد حقًا إلى سابق عهده. فوسط حرب قائمة بين أكبر دول العالم، وأزمة اقتصادية خانقة، وتوترات سياسية حادة في المنطقة العربية، أصبحنا نغرق يوميًا في بحر من المعلومات والأخبار في غياب حبال نجاة قوية لإنقاذنا.
في خِضَم هذه الظروف الاستثنائية، خلقنا لأنفسنا روتينًا جديدًا وبنينا حولنا رواسي عالم أصبح يهيمن على وضعنا الطبيعي الجديد. لَكُم أن تتخيلوا كمّ الطاقة الإدراكية التي نبذلها يوميًا وسط كل ما يحيط بنا من أحداث وتغيرات. لقد أصبحت أدمغتنا تركز على الطرق التي يجب اعتمادها من أجل البقاء على قيد الحياة في هذا العالم، أكثر من تذكر ما تناولناه على طاولة الفطور. الأمر أشبه بجهاز كمبيوتر يعمل جاهدًا مع عدد لا متناهٍ من علامات التبويب المفتوحة في آن واحد.
ألا يقولون أن الإنسان قابل للتكيف تحت جميع الظروف؟ لماذا إذًا أصبح التكيف مع وضعنا الجديد يتم على حساب ذاكرتنا وقدراتنا العقلية؟ أكره أن أكون أول من يفجرها أمامكم/ن، لكن عيش حياة مضطربة وشديدة التوتر مرتبط بشكل مباشر بفقدان الذاكرة وتقلص حجم الدماغ قبل بلوغ سن الخمسين.
بحسب الدكتورة سودها سيشادري، أستاذة علم الأعصاب في جامعة تكساس لعلوم الصحة، فرع سان أنطونيو، فإن المستويات المرتفعة من هرمون الكورتيزول، وهو الهرمون المسؤول عن التوتر في أجسادنا، يمكن لها التنبؤ بوظائف المخ وحجمه وأدائه في الاختبارات المعرفية. وتضيف: “لاحظنا فقدانًا للذاكرة وتقلصًا في حجم الدماغ لدى فئة الشباب ـ المعرضين للتوتر ـ قبل ظهور أي أعراض جانبية أخرى.”
لنتكلم قليلًا عن مصادر هذا التوتر الذي يقتات على صحتنا العقلية في صمت. أظن أنه الوقت المناسب لاستحضار جملة أمهاتنا الشهيرة عند سماعنا نشتكي من أي وجع أو ألم: “هذا لأنك تحشر/ين وجهك طوال الوقت في شاشة ذلك الجهاز اللعين.” نعم أصدقائي/صديقاتي، جوهر المشكلة هو غرقنا المستمر وسط التنبيهات والإشعارات اللامتناهية بشكل يجعل أذهاننا مشتتة طوال الوقت وغير قادرة على التركيز أو التوقف للحظة من أجل أخذ نفس عميق من سباق طويل بدون خط وصول.
تشير بعض الدراسات إلى أن استخدام محرك بحث على الإنترنت يمكن أن يؤدي إلى استرجاع المعلومات بشكل سيئ، كما أن الأشخاص الذين يقومون بالتقاط الصور بصورة منتظمة خلال حدث معين يتذكرون تفاصيل ما عاشوه خلال الحدث بشكل أقل، لأن التقاط الصور يؤدي إلى تشتيت الانتباه مما قد يؤدي إلى نسيان تفاصيل التجربة.
حتى نفهم طبيعة العلاقة التي تجمع بين الاستعمال اليومي لهواتفنا الذكية، ومشكلة النسيان الذي نعاني منه، من الضروري الرجوع إلى المسار الذي يسلكه دماغنا من أجل تخزين ذاكرة ما. تعمل الذاكرة بالحصول على المعلومة، وتخزينها، ثم استرجاعها لاحقًا.
تمر المعلومة أولًا من مرحلة الانتباه والتركيز على التفاصيل الخارجية المحيطة بمناخها العام، ثم بعدها تأتي عملية الترميز التي تتحول فيها الإشارات الحسية المُستَقبَلة إلى صيغة يستطيع المخ فهمها وتخزينها. تختلف مراحل عملية التخزين باختلاف نوع المعلومة وحجمها، فنجد الذاكرة طويلة المدى تتوفر على مساحة تخزين هائلة، وتشمل المعلومات المرتبطة بالحياة اليومية لنا كبشر مثل اللغة والمشي وغيرها من التفاصيل التي تترسخ من خلال المعالجة العميقة للمعلومة؛ ثم هناك الذاكرة قصيرة المدى التي تبقى محدودة للغاية ويتم استخدامها لاسترجاع معلومة ما في وقت وجيز دون الحاجة إلى تخزينها في الذاكرة طويلة المدى. عند استرجاع معلومة ما، فإننا نسترجع معها سياقها وجميع الإشارات الحسية المرتبطة بها، بمعنى أننا نتذكر المعلومات بشكل أفضل إذا ربطناها بمجموعة من المعالم والعلامات التي تسهل علينا تذكر التفاصيل التي نحتاجها في الوقت المناسب.
هواتفنا المحمولة لا تغرقنا فقط وسط أطنان من المشتتات التي تمنعنا من تخزين المعلومات واسترجاعها بالشكل السليم، لكنها أيضًا تعلمنا الكسل وتحد من عمل الدماغ الطبيعي. لم نعد نستطيع العيش بدون هواتفنا، لقد أصبح اعتمادنا عليها بشكل يومي يشكل خطرًا على التكوين البيولوجي لأدمغتنا. “الثمن الذي ندفعه -باعتمادنا الدائم على هواتفنا الذكية- هو ارتفاع حظوظ إصابتنا بالخَرف.”
عندما أصبحت أكتب قصاصات صغيرة وألصقها في أرجاء البيت لتذكيري بالاتصال بصديقي المريض والاطمئنان عليه، أو بدفع فواتير الإنترنت والماء والكهرباء، تيقنت أن ذاكرتي في خطر. لكن النقطة التي أفاضت الكأس كانت يوم خروجي من الشقة بدون حجاب. أذكر أنني كنت أسابق الوقت من أجل ترتيب مشتريات البقالة في الثلاجة، ووضع الملابس في الغسالة، وشحن اللابتوب قبل الخروج مسرعة من أجل عدم تفويت وقت بداية حصتي الرياضية. في خضم هذا المارثون، نسيت وضع حجابي ولم أتدارك الأمر إلا بعد خروجي إلى باب العمارة والإحساس بنسيم خفيف يلاعب أذني. هذه الحادثة جعلتني أتأكد بأن مستوى تركيزي أصبح مشتتًا أكثر من أي وقت مضى.
حيث نفشل بالتذكر، قد يكون ذلك لأننا نشعر بالتعب أو الاحتراق، أو لأننا لا نعير اهتمامًا لما يجري حولنا حقاً، أو لأننا نحاول فعل الكثير في وقت واحد.
الحل موجود في داخل المشكلة ذاتها. يمكن تحسين الذاكرة اليومية عن طريق أن تكون أكثر وعيًا وأقل انشغالًا. السر هو الحضور قالبًا، والأهم قلبًا، في كل لحظة. العمل على أكثر من مهمة في آن واحد، لا يزيد من إنتاجيتنا بالضرورة، بالعكس، نحن ندمر خلايا عقلنا دون أن ندرك ذلك. يكفي أن نركز كل طاقتنا على عمل واحد ونعيش كل لحظة في وقتها.
أعلم أن هذا التمرين يمكن أي يكون صعبًا على بعضكم/كن، لكن بالممارسة كل شيء سيصبح أتوماتكيًا لديكم/كن. كيف؟ بالتأمل، وممارسة الرياضة، قراءة الكتب، والنوم الكافي، والاهتمام بالصحة النفسية، واتباع أكل صحي. والأهم من كل ذلك، التفاعل الاجتماعي، حيث تؤكد الدراسات أن الأشخاص الذين يظلون على اتصال وثيق بأصدقائهم ويشاركون في الكثير من الأنشطة الاجتماعية يحافظون على ذاكرة أفضل وقدرات معرفية أخرى لفترة أطول من أقرانهم المنعزلين.
تذكروا/رن أن سنوات عمرنا تجري بسرعة، لنتوقف قليلًا ونُبطِء الخطى من أجل الاستمتاع بكل لحظة وتخزينها في ذاكرتنا لأطول فترة ممكنة، وحتى تبقى لدينا قصص نستطيع روايتها لأحفادنا عندما نبلغ من العمر عتيًّا.