لطالما كانت النسوية عدسة تحليل هامة للظواهر الاجتماعية والأنظمة السياسية. ولطالما أضفت أبعادًا أخرى للصراعات مع السلطة بتفكيك هذه السلطة وتحليل دوافعها. والنسوية التي نعنيها هنا، هي النسوية التقاطعية التي تقرأ وتُحلل التداخل بين الأنظمة القمعية، دون أن تُقصر نفسها على ثنائية: الرجل/المرأة. النسوية التي نعنيها هنا، هي أداة تحليل سياسي اجتماعي، يُمكننا من خلالها قراءة الاحتلال كسُلطة سياسية قمعية تستهدف إبادة شعب بأكمله بسياساتها.
ضمن هذا الإطار، هناك علاقة مباشرة بين كفاح النسوية لتحصيل حقوق النساء وتحقيق العدالة لهن، وبين الكفاح ضد الذكورية والسلطة القمعية والاستعمار والاحتلال الإسرائيلي. تُعتبر النسوية في هذا الصدد عدسة لتفكيك جرائم الاحتلال باعتبارها ضد السلطوية وأنظمة القمع في العموم، سواء كان القمع موجهًا ضد أفرادًا، أو مجموعات، أو شعوب. في هذا المقال نستعرض جزءًا من تلك السياسيات ونُفسّر لماذا نعتبر القضية الفلسطينية قضية نسوية.
Videos by VICE
الفصل العنصري
تتبع إسرائيل سياسة تهجير وفصل عنصري عام ١٩٤٨ أو ما يسمى فلسطينياً بالنكبة. تم ممارسة القمع المباشر على السكان الأصليين على أساس العرق والهوية الدينية. ضمن تلك السياسة، يُعتبر كل ما هو فلسطيني أو خاص بالهوية الفلسطينية، أقل وأدنى من اليهود الإسرائيليين. وبحسب تقرير جديد لمنظمة هيومن رايتس ووتش، “تسعى إسرائيل للإبقاء على هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة والقدس والفلسطينيين في أراضي الـ ٤٨، من خلال اتباع سياستي الفصل العنصري والاضطهاد حيالهم.”
وبحسب التقرير فإن اسرائيل تقوم بارتكاب “جريمتين ضد الإنسانية” بحق الفلسطينيين حيث هناك “سلطة واحدة، وهي سلطة الحكومة الإسرائيلية، تحكم في شكل أساسي المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، حيث تسكن مجموعتان متساويتان في الحجم تقريًبا، وتمنح امتيازًا ممنهجًا لليهود الإسرائيليين بينما تقوم بقمع الفلسطينيين، ويمارس هذا القمع بشكله الأشد في الأراضي المحتلة.”
ما تقوم به إسرائيل في الأراضي المحتلة هو استهداف جماعي لأصحاب الأرض، يتضمن ذلك الحصار العسكري ومنع وصول المُساعدات للشعب الفلسطيني، ويشمل أيضاً تدمير البُنى التحتية كالصحة والمرافق والتعليم، بالإضافة إلى تقييد حرية الحركة من خلال الحواجز الإسرائيلية المنتشرة في جميع الأراضي المحتلة، ويتعرّض الفلسطينيين/ات إلى الإهانة والعنف عند المرور بها، مما يتسبب في حصار حركتهم/نّ على أراضيهم/نّ.
الفلسطيني/ة مُستهدف/ة حتى لو لم يشترك/تشترك في المقاومة. هو/هي مُستهدف/ة لأنهم فلسطينيون/ات- أي بناء على العرق والهويّة. تُدين النسوية تلك السياسات ليس فقط لأنها سياسات قمعيّة وعنيفة، إنما لأنها قائمة على العنصرية واستهداف شعبًا كاملًا بالعنف والإبادة بسبب الشعور بالتفوّق العرقي/الديني والاستحقاق للأرض. سياسات الفصل تطال أيضاً الفلسطينيين في الداخل أو أراضي الـ٤٨. فوجود كيان محتل يُعرقل التغيير السياسي والاجتماعي للمجتمع الفلسطيني، بالأخص التحوّل الديموقراطي والأبويّة المتفشيّة والممتدة من العنف المنزلي للقتل على أساس الهوية الاجتماعية- أو ما يُعرف بجرائم الشرف.
التهجير القسري
إحدى السياسات المُتبعة في الفصل العنصري هي تهجير قسري للأسر الفلسطينية وإحلال/توطين الأسر الإسرائيلية محلّها، ما يحدث في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية المحتلة هو أحدث مثال على ذلك. سياسات الطرد والتهجير القسري أدى إلى شُتات الفلسطينيين والفلسطينيات في البلدان المجاورة أو في مُخيّمات اللجوء. ويعتبر ذلك بمثابة انتزاع للشعب من أرضه بقوّة السلاح وإعادة تقسيم الأرض جغرافيًا وسياسيًا وديموغرافيًا بالتبعيّة.
تُدين النسوية الاستعمار بوصفه اعتداءًا على حق الشعوب في أراضيها ونهب ثرواتها ومحاولة محو هويّتها. كما تُدين تبعات الاستعمار على الأفراد الذين يتم تهجيرهم من منازلهم بتهديد السلاح. يتسبب ذلك في عنف آخر يتعرض له الشعب الفلسطيني سواء عند طلب اللجوء من البلدان المجاورة وغير المجاورة بما في ذلك الإقامات الجبريّة في مُخيمات اللجوء لحين البت في أمر اللجوء، أو عند الإقامة في مخيمات اللجوء داخل وعلى أطراف الأراضي الفلسطينية وما يختبرونه من عنف داخل المُخيمات من قوات الاحتلال المُشرفة عليها أو من انتظار المساعدات الخارجية من هيئات الدعم الدوليّة.
السحق الإنساني (Dehumanization)
يتعرض الفلسطينيون إلى عنف ممأسس وهيكلي من السلطات الإسرائيلية التي نجحت خلال السنوات الماضية في نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين من خلال الترويج “لبروباغندا إعلامية” قائمة على مستويين. المستوى الأول يشوه القيم والأخلاق الفلسطينية متهماً الفلسطينيين بأنهم لا يستجيبون للعنف الواقع عليهم بسبب الاحتلال، بل من منطلق “كراهية اليهود” وأن العنف متأصل في طبيعتهم وثقافتهم. سياسات نزع الصفة الإنسانية عن الواقعين تحت الاستعمار والاحتلال استخدمت في جميع المراحل التاريخية للاستعمار الغربي الأبيض، الذي قام بنزع الصفات الإنسانية عن السكان الأصليين والسود والنساء والكويريين، من خلال الإدعاء أن هذه الفئات لا تتمتع بذات القيم، ولهذا لا يحق لهم التمتع بنفس الحقوق.
يعمل المستوى الثاني من نزع الصفة الإنسانية على إضفاء شرعية على العنف الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين، باعتبارهم أقل. ولهذا لا نرى أي غضب دولي حقيقي من الإجراءات الإسرائيلية التي بحس منظمات حقوقية “قد ترقى لجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب” بما في ذلك “قصف المدنيين، وهدم منازل عائلات الأسرى وسجن الأطفال واستخدام القوة المميتة ضد رماة الحجارة، وإعدام الفلسطينيين خارج نطاق القضاء.”
هذا التجريد من الإنسانية مُورس ولا يزال يُمارس على الفلسطينيات؛ كان ذلك من خلال العنف الجسدي والجنسي الذي يتعرّضنّ له في نقاط التفتيش ومخيمات اللجوء وسجون الاحتلال.
هناك منظور نسوي آخر لسحق الذات الفلسطينية النسائية، وهي الترويج لأن الفلسطينيات مجرّد ضحايا للعنف الأبوي الفلسطيني، وأن دولة الاحتلال ستُنقذ النساء من الرجال الفلسطينيين “الهمج” المُعنفين. رغم أن العنف المنزلي شائع بين المتدينين أنفسهم، ورغم استهداف الفلسطينيات بالعنف من قِبل الجيش الإسرائيلي. لكن التركيز على الفلسطينيات كضحايا، يخدم هذه “البروباغاندا” وكأنها تُضفي شرعية على جرائمها أو تقول أن هؤلاء الرجال يستحقون العنف لأنهم في الأصل مُعنفين.
الغسيل الوردي (Pink-Washing)
“مؤسسة الاستعمار هي الأكثر ذكوريّة وأبويّة، وقائمة جوهريًا على قمع أجسادنا والسيطرة عليها، وهي من عززت وتعزز أنظمة الغيريّة البحتة والمعايير الجندرية الصارمة.” –منظمة القوس للتعددية الجنسية والجندرية.
تُقدم إسرائيل نفسها للمجتمع الدولي باعتبارها دولة مُناصرة للحقوق والحريات، بالأخص تلك المُتعلقة بالميول والهويات الجندرية. فهي تقدمية مضادة للدولة الفلسطينية “المتخلفة.” نرى مسيرات الفخر في شوارع تل أبيب كما لو أنه لا يوجد جرائم يرتكبها الجيش الإسرائيلي يوميًا في الأراضي الفلسطينية. تدعي إسرائيل أنها دولة مُتحررة من قيود المجتمع الشرق أوسطي الأبوي المضطهِد لأصحاب الهويات الجندرية والميول الجنسية غير السائدة، في الوقت الذي يقوم بسحق مواطني الدولة الفلسطينية بناءًا على العرق والهوية الدينية.
في تقديمها لنفسها كدولة داعمة للتعددية الجنسية والجندرية، لا تُمايز إسرائيل نفسها عن فلسطين فقط. ولكن تتنصّل من أنها كيان استعماري في الأساس. فعلى مدار التاريخ، عملت الكيانات الاستعمارية على سحق الهويات والميول الجنسية المختلفة. ونصبّت معاييرها المُغايرة كمقياس أخلاقي واجتماعي للشعوب التي تستعمرها. حتى أن بعض الشعوب الأصليّة لديها أكثر من هوية اجتماعية للسكّان وأكثر من ميل جنسي واحد.
الاستعمار سحق تلك الهويات حصرًا في ثنائية محدودة رجل/مرأة، كما حدث مع السكان الأصليين في الأمريكتين من قِبل المُستعمر الأوروبي الأبيض. لذلك، ادعاء إسرائيل أنها كيان مُناصر للاختلاف الجنسي والجندري يضعه في مفارقة مع كيانات استعمارية أخرى. كما أن تلك الادعاءات وتصوير إسرائيل كمنقدة من بطش المجتمع الفلسطيني بالكويريين/ات، يتعارض مع وجود رفض ديني مُتزمّت لتلك الهويات والميول ويعتبرها انحرافًا يجب معالجته.
تنتقد النسوية الغسيل الوردي من منطلق أن الغرض من مسيرات الفخر هو إعلان وجود أطياف وهويات جندرية وجنسية مُتعددة مقابل الهوية المُغايرة السائدة التي غالبًا ما تضطهد هؤلاء الأفراد والمجموعات. أي أنها إعلان وجود ضد قوة اجتماعيّة مُهيمنة، بينما إسرائيل في هذا السياق هي القوة المُهيمنة على الأراضي الفلسطينية.
لماذا نستخدم الخطاب النسوي وليس خطاب حقوق الإنسان؟
الخطاب النسوي خطاب نقدي وتحليلي لعلاقات القوّة. أما خطاب حقوق الإنسان فهو معني في الأساس بالحقوق داخل أطر قانونية لا تهتم غالبًا بتفكيك علاقات القوّة. لتبسيط تلك المعلومة، سنأخذ مثالًا للخطابين تجاه اللاجئين الفلسطينيين. سيهتم خطاب حقوق الإنسان بحق المواطن الفلسطيني في اللجوء، أو الشكوى من تعنّت سلطات البلد المستضيف في إجراءات اللجوء. سيُطالب بتحسين الأوضاع في المُخيمات.
الخطاب النسوي في المقابل، سينتقد الظروف التي أدت إلى اللجوء في الأصل. القوّة أو السلطة التي جعلت من مواطن فلسطيني، لاجئ فلسطيني. سينتقد مفهوم اللجوء في حد ذاته، وسيُفكك معناه القانوني والسياسي. سينتقد تعنّت سلطات البلد المُستضيف في إجراءات اللجوء بتحليل دوافعها. فقد يكون الدافع هو الخوف من تأثير هوية اللاجئ الفلسطيني على هوية مواطن الدولة المُستضيفة من خلال الزواج مثلًا. أو الاعتقاد أن اللاجئ الفلسطيني سيأخذ حق مواطن الدولة المستضيفة في الرعاية الصحيّة أو سوق العمل. ذلك ما يُسمى بفوبيا الأجانب (Xenophobia).
سينتقد الخطاب النسوي فكرة مُخيمات اللجوء نفسها. أن ظروف المعيشة بها تُجرد البشر من انسانياتهم/نّ. سينتقد فكرة وجود هيئات مساعدة دوليّة وسيعتبرها بزنس من شأنه استمرار وجود مُخيمات لاستمرار وجود تلك الهيئات في العمل الإنساني. هذا هو الفرق بين الخطابين. خطاب يعتمد على المطالبة بالحقوق دون الاعتناء بالظروف المؤدية لسلبها. وخطاب يعتمد على نقد وإدانة البُنى السياسية التي أدت إلى سلب تلك الحقوق.
القضية الفلسطينية قضية نسويّة في المقام الأول والأخير. هي قضية انتزاع حق منهوب. عندما نقول فلسطين قضية نسوية، فنحن نتحدث عن كيان استعماري سلطوي يسحق الذات الفلسطينية معنوياً ومادياً.
عندما نُدين عنف الرجال الفلسطينيين تجاه النساء، فإننا نعلم جيدًا كيف شكّل الاحتلال جزءًا كبيرًا من هذا العنف؛ فالفلسطيني كذات اجتماعية لا يتشكّل بمعزل عن سلطة احتلال. عندما نُدين الغسيل الوردي، فإننا لا نُبرر العنف ضد أصحاب الهويات الجندرية والميول الجنسية المختلفة، إنما نُدين الازدواجية واستغلال قضايا المجتمعات الكويرية لتحقيق مصالح سياسية وتبيض الوجه أمام المجتمع الدولي.
ملاحظة: تم تعديل بعض المعلومات في المقال لتتناسب مع المعايير التحريرية لـ VICE.