يخبرني صديقي الماروني أنّه سيفضل الزواج المدني على الديني لأنّ الطلاق سيكون أسهل له، وعمّتي التي وقعت بحب شاب من دين آخر أيضاً تخبرني أنّها ستلجأ للزواج المدني لأنّها لا تودّ أن تغير دينها، وصديقتي الملحدة لا تريد وبأي شكل أن تقول للشيخ “أنت وكيلي” وجارتنا التي تتعذب بحضانة ابنها بسبب حكم المحكمة الشرعية التابعة.
لا يمكننا أن ننكر كم أنّ المجتمع اللبناني بتركيبته بحاجة إلى قانون مدني للأحوال الشخصية، والمحاكم الدينية والروحية ما زالت متشبثة بفرض سلطتها على أحوال الشعب. تنتشر اليوم عبارة “الزواج المدني الاختياري” على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن طرحت وزيرة الداخلية والبلديات الجديدة ريا الحسن الفكرة من جديد. ولا بدّ بكل هذا التركيز على كلمة “اختياري” أي عدم قمع المتدينين الراغبين بالبقاء تحت المحاكم الشرعية أو الدينية. الآمال بعد تصريح الوزيرة ارتفعت، وكذلك الصرخات المضادة. لكن في حال تحقق الحلم، ماذا سيحدث بعد السماح بالزواج المدني؟ ماذا ننتظر وما الذي يجب أن يتغير؟ نسأل خبراء لنعلم ماذا يجب أن ننتظر أو لنعلم ماذا يوجد على الطاولة أساساً.
Videos by VICE
الحديث عن الزواج المدني ليس جديداً
أول من تحدث عن الزواج المدني كان رئيس الجمهورية الياس الهراوي الذي طرح في عام 1998 قانون “الزواج المدني الاختياري” ليواجه بهجوم كبير من السلطات الدينية ولينتهي النقاش قبل أن يبدأ. في عام 2013 شهد لبنان أول زواج مدني بتوقيع وزير الداخلية والبلديات آنذاك، العميد مروان شربل. اعتبرت الخطوة تاريخية، وأصبح منذ حينها الزواج المدني معقولاً بحال تمّ شطب طوائف الزوج، حيث قام الثنائي نضال درويش وخلود سكرية بشطب مذهبيهما (وهي مسألة بات في إمكان اللبنانيين القيام بها بعد إقرار قانون بهذا المعنى العام 2011) وبموجب ذلك، اعتبر أنه يحق لخلود ونضال الزواج مدنياً. ولكن بقى الأمر مثيراً للجدل حيث اعتبر العديدين أنّ هذا الزواج ممكن الحصول سطحياً، لكنّه غير نافع جوهرياً في ظل عدم وجود نص قانوني داعم.
يخرج وزير ويدخل وزير، ويُدفن الملف من جديد في حكم نهاد المشنوق، وزير الداخلية والبلديات، والذي اختار أن يكون أكثر واقعياً ويحمّل المسؤولية لمجلس النواب، فأصدر بياناً في عام 2015 قال فيه: “الوزير مع مبدأ الزواج المدني الاختياري في لبنان، إلا أنه وفي غياب أي نص قانوني مدني نافذ يرعى أحكام هذا الزواج ويحدد الإجراءات والآليات والمستندات المطلوبة والمرجع الصالح لعقده وبته، فإنه يتعذر حالياً تسجيل عقود الزواج المدني المنظمة لدى كاتب العدل في لبنان.” ماتت الآمال حتى 2019، مع إعلان الوزيرة ريا الحسن.
ولكن، هل طرح الزواج المدني مجدداً وسيلة لإلهاء الشعب عن قضايا أكثر أهمية؟
هناك من يرى أن الحديث المتجدد عن الزواج المدني هي مجرد وسيلة لإلهاء الشعب أو خطة من الوزيرة الجديدة لتنال رضا الشعب في أول الطريق -على الأقل هذا ما يكتبه الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي.
وهذا ما يوافق عليه الإعلامي والناشط محمود فقيه، الذي يقول: “تحاول الحكومة الجديدة استخدام هذا الجدل لإلهاء اللبنانيين، ولو أراد النواب التشريع، لشرعوا دون استشارة أحد، علماً أنّ الزواج المدني اختياري ولا ينتقص من حق من يؤمن بوصاية المؤسسة الدينية. لقد شهد لبنان مد وجزر فيما يخص هذا الزواج الذي تم إقراره في العالم في بدايات القرن الماضي. واليوم، السلطة اللبنانية تلهي اللبنانيين عن أمورهم المعيشية والانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي يشهده لبنان المقبل على إفلاس، ولن ينقذه شيء في ظل “كارتيل” (عصبة) الفساد الحاكم.”
ما ردّ السلطات الدينية؟
فور صدور موقف الحسن، سارعت السلطات الدينية للإعتراض على الفكرة من أساسها. دار الفتوى أعلنت “رفضها المطلق لمشروع الزواج المدني في لبنان لأنه يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، “ويخالف أيضاً أحكام الدستور اللبناني في ما يتعلق بوجوب احترام الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الدينية العائدة للبنانيين في المادة التاسعة منه.”
أمّا الكنيسة، فما زالت على موقفها وما زال الرفض للزواج المدني قائم بما أنّه يتعارض مع مفهوم سرّ الزواج كنسياً ولاهوتياً. أمّا بالحديث عن كون هذا الزواج “اختياري” وليس إلزامياً، يقول الأب عبدو أبو كسم، مدير المركز الكاثوليكي للإعلام في لبنان: “في ما يتعلّق بالزواج المدني الإختياري، فجوهر الموضوع في هذا الإطار هو أنه لا يُمكن إقرار قانون ذات طابع إختياري، بل إن القانون يجب أن يكون عاماً ومُلزِماً للجميع، فالإشارة الحمراء مثلاً لا يُمكنها أن تعني ممنوع المرور لشريحة من الناس، فيما يسمح بذلك لشريحة أخرى.”
يرى البعض أنّ السلطات الدينية فعلاً تخاف من نسبة الأموال التي ستخسرها من معاملات الزواج والطلاق، ولهذا تفضل أن تبقي هذه الأرباح لصالحها فقط من دون أن تتشاركها مع مؤسسة أخرى، بينما يرجح البعض الآخر أنّ تشريع الزواج المدني الاختياري سيخسر السلطات الدينية جزءاً كبيراً من سلطتها، كما يقول نديم محسن، إستاذ الفلسفة والحضارات في الجامعة اللبنانية الأميركية: “ما يخيف المؤسسات الدينية فهو فقدان دورها كدويلات فعلية داخل الدولة الوهمية، ليس اجتماعياً فقط، بل وسياسياً أيضاً، ذلك بالإضافة الى الخسارة المادية الناتجة عن تحويل أموال معاملات الزواج والطلاق والولادة، والأحوال الشخصية في حال أقرت جميعها، الى خزينة الدولة، بدل أن تكون من حصتها.”
ويشدد الإستاذ نديم الى أن من يرفض الزواج المدني وقانون مدني للأحوال الشخصية يتعدى المؤسسات الدينية “الى الأحزاب الدينية والطائفية والإقطاع الطائفي القديم والحديث، لأن الدولة المدنية تنسف بمنطقها وقوانينها صيغة الكيان اللبناني المبني على الفسيفسائية الطائفية وتقاسم الحصص،” كما يقول.
إذا أقِر قانوناً الزامياً، فقد يشكل ذلك دفعاً وشهقة اوكسجين ضرورية للصراع من أجل مجتمع متفاعل منفتح لا طائفي ودولة مدنية عادلة
بحال سُمح للزواج المدني الاختياري، ماذا ينتظرنا من تعديلات قانونية؟
يخبرنا المحامي سامر حمدان، أنّ اقرار الزواج المدني الإختياري في لبنان لا يتطلب تعديلاً دستورياً على عكس ما يشاع. “القانون لن يلغي سلطة المحاكم الدينية، فالدستور يفرض على الدولة احترام الأحوال الشخصية للطوائف، أي أن السلطة التشريعية لا يحق لها إلغاء النصوص الدينية برمتها أو المس باستقلالية الطوائف. علينا أن نعي أنّ يمكن للقوانين والتشريعات المدنية الأخرى أن تقف إلى جانب تلك الطائفية. لكن هذا لا ينكر ضرور تعديل مواد دستورية إضافية”، كما يشرح.
ويضيف حمدان أنّ بحال أقر القانون الزواج المدني الاختياري، فيجب أن يتم التعديل على المادة 25 من القرار رقم 60 ل.ر. والذي يشير إلى “عقد الزواج المدني صحيحاً من حيث الشكل، كل زواج معقود في الخارج وفقاً للأصول القانونية الشكلية المطبّقة في البلد الذي عُقد فيه.”
وأيضاً إلغاء القرار الأهم وهو قرار رقم 53 الصادر عن المفوض السامي بتاريخ 30-3-1939 والذي كان قضى بعدم إخضاع المسلمين والدروز اللبنانيين لأحكام القرار الرقم 60.
وفي حال جرى التشريع، متى سيصبح القانون واقعاً؟ يقول المحامي حمدان: “من قبل كنّا نظن أنّ لا بدّ من الغاء الطائفية السياسية وفصل الدين عن الدولة، وتغيير المنظمة السياسية بشكل كامل لاقرار هذا القانون، إذ لا يمكن انتظار تشريع قانون جديد بهذا الحجم من سلطة تشريعية، لا تسن سوى قوانين إدارية بسيطة مع بعض الاستثناءات، فمن الصعب أن يشرّع مجلس النواب بشكله المعتاد مثل هكذا قانون. لكن بعد فترة الانتخابات النيابية الأخيرة والمرحلة التي سبقتها من تشكيل لمجموعات مدنية منظمة بالشكل والمضمون، قد يكون إقرار قانون الزواج المدني الاختياري أقرب مما نعتقد. يبقى السؤال افتراضي، لكن كل شيء ممكن اليوم.”
يمكن للبنان أن يستفيد من التشريع من خلال جعله واجهة للعرب الذين يريدون الزواج مدنياً
وإن تمّ إقرار هذا القانون، ماذا علينا أن نتوقع اجتماعياً؟ هل ستزيد نسبة الزيجات بين الطوائف المختلفة؟
لا شك أن الزواج المدني الاختياري له الكثير من الأبعاد الاجتماعية، وهناك توقعات بأن يلجأ الكثير للزواج المدني وهذا بسبب الحقوق المحفوظة من خلاله للنساء كما أنّه يسمح بالاختلاط الطائفي، كما يحفظ هذا الزواج متطلبات وحقوق الطائفة رقم 19 وهي “العلمانيون” أو “اللادينيون” الذين همّشوا وأجبروا باتباع محاكم طوائفهم في جميع أحوالهم الشخصية.
ويقول الدكتور محسن بهذا الصدد: “أن أقِر قانون الزواج المدني اختيارياً فقط، فسيتحوّل العلمانيين وغير الطائفيين الى طائفة جديدة في نظام بدائي بائس. أما إذا أقِر قانوناً الزامياً، كما هي طبيعة قوانين الدول، فقد يشكل ذلك دفعاً وشهقة اوكسجين ضرورية للصراع من اجل مجتمع متفاعل منفتح لا طائفي ودولة مدنية عادلة.”
اقتصادياً، ماذا ينتظر لبنان إن سُمح للزواج المدني اختياري؟
في ظل الوضع الراهن، يلجأ الكثير من اللبنانيين الراغبين بعقد القران وفق الزواج المدني إلى قبرص أو اليونان، فالقانون اللبناني لا يجيز عقد القران في لبنان، لكنه يعترف بالزواج المدني المبرم بالخارج. وتشير بعض الأرقام الى أن حوالي ثلاثة آلاف زوج من الشرق الأوسط يتوجهون إلى قبرص كل عام من أجل إتمام مراسم الزواج. ومؤخراً أصبح الزواج المدني نوعاً من السياحة التي تستثمر بها شركات سياحية ولذلك، يمكن أن يعزز لبنان هذا النوع من السياحة إن سمح للزواج المدني، كما يخبرنا الخبير الاقتصادي موريس متّا: “من جهة قد تخسر الكثير من الشركات السياحية التي كانت لتستفيد من هذه الأعراس سواء من التنظيم أو المعاملات بتشريع الزواج المدني. ولكن من جهة أخرى، يمكن للبنان أن يستفيد من التشريع من خلال جعله واجهة للعرب الذين يريدون الزواج مدنياً.”
بإختصار، المؤسسات الدينية وشركات السياحة والسفر وطبعاً قبرص، سيكونون من الخاسرين في حال تم إقرار القانون. على الجانب الآخر، خزينة الدولة ستربح، حيث من المتوقّع أن ترتفع عائداتها نتيجة للرسوم اللازمة لعقد كل زواج مدني، والأهم هم المواطنون اللبنانيين أنفسهم الذين سيتمكنون من التوفير في التكاليف والزواج ممن يحبون وليس ممن يتبع دينهم.
ماذا عن تجارب الزواج المدني السابقة؟
بجولة سريعة على مجموعة “تزوجنا مدني … و عَ قبالكن” على فيسبوك يمكن أن نلاحظ أنّ اجراءات الزواج المدني في “قبرص” أو “تركيا” ليست سيئة. لكن بالنسبة للأطراف اللادينيين، فالزواج المدني في الخارج لا يغير شيء لأنّ الدين لا يشطب عن الأوراق القانونية الأخرى ويخضع الأولاد (مثلاً بحال الإرث) إلى محكمة الوالد الروحية. وإن كان الطرفان من الدين الإسلامي، تحكم المحكمة الدينية في حالات الطلاق والحضانة والإرث. لكن إن كان المتزوجان من دينين مختلفين أو من الدين المسيحي، تحكم المحاكم المدنية اللبنانية في حالات النزاعات، أي أنّ بالنسبة للمسلمين، لن يتغير شيء.
يمكن القول أنّه لا يوجد أي مشكلة في الزواج المدني بالخارج، إلّا إذا كان المتحابان من الدين المسلم، والمشكلة الأخرى انّ الأولاد سيخضعون لشروط مذهب الأب، ولن يلدوا بهوية مدنية. تخبرنا إحدى النساء اللواتي تزوجن مدنياً في قبرص عن قضية أخرى، حيث طلبت المحكمة القبرصية معرفة دينها ودين زوجها، وهو أمر أثار استغرابها، فلم السؤال عن الدين إن كان الزواج مدنياً؟ شرحت المحكمة في قبرص أنّ البطريركية المارونية تريد أن تعلم نسب المارونيين الذين يتزوجون مدنياً. يشار الى أن كثير من المارونيين يفضلون الزواج المدني، لأن الطلاق في المذهب الماروني هو شبه مستحيل.
من المتوقع أن تتم عرقلة قضية الزواج المدني كما حدث سابقاً. ولكننا اليوم أكثر من أي وقت، بحاجة إلى تشريع الزواج المدني، في ظل القوانين غير المنصفة والتي لا تأخذ بعين الاعتبار الأفراد اللادينيين أو المجتمع القائم على 18 طائفة.