بعد عقود من ارتكاب جرائم يومية إسرائيلية بحق الفلسطينيين، ترقى لجرائم حرب، أعلنت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا يوم 3 مارس 2021، عن فتح مكتبها تحقيقًا رسميًا في جرائم الحرب التي ارتُكبت داخل الأراضي الفلسطينية، ليشمل التحقيق مع طرفي الصراع. القرار الأخير جاء بعدما قضت الجنائية الدولية في 5 فبراير الماضي اختصاصها القضائي على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وهي اعتبرت خطوة تاريخية في مسار القضية الفلسطينية قابلتها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بالرفض، فيما رحبت بها السلطة الفلسطينية وحركة حماس.
وفي الشهر الماضي، خلصت المحكمة، ومقرها لاهاي، إلى أن اختصاصها الجنائي يشمل الأراضي الفلسطينية. وأوضحت بنسودة أن التحقيق سيشمل كل من الضفة الغربية والقدس الشرقية الخاضعتين للاحتلال الإسرائيلي، وكذلك قطاع غزة، وسيغطي الفترة من 13 يونيو عام 2014 إلى الآن. وقالت بنسودة إنها أجرت “فحصًا تمهيديًا شاقًا” استغرق ما يقرب من خمس سنوات، وتعهدت بأن يكون التحقيق مستقلاً ومحايدًا وموضوعيًا، بدون خوف أو تحيز.
Videos by VICE
ماذا يعني هذا القرار؟
بعد قرابة خمس سنوات من التدقيق والفحص في القضايا التي قدمتها السلطة الفلسطينية للمحكمة الجنائية الدولية، أقرت المحكمة اختصاصها القضائي على الأراضي الفلسطينية التي تسيطر عليها إسرائيل منذ عام 1967 “القدس الشرقية، الضفة الغربية وقطاع غزة” للنظر في قضايا الاستيطان والحرب الإسرائيلية على غزة عام 2014، وغيرها من القضايا والجرائم. ذلك بسبب اعتبار دولة فلسطين 14 يونيو 2014 هو اليوم الذي يبدأ فيه الاختصاص الزماني للمحكمة الجنائية الدولية.
وقد انضمت فلسطين لنظام روما والمحكمة الجنائية الدولية عام 2015. لكن تحديد التاريخ من قبل دولة فلسطين، لا يعني أن الجرائم السابقة التي ارتكبتها إسرائيل قد طويت، بحيث يمكن لها، أي دولة فلسطين، أن تطلب تغيير الحيز الزمني إلى أعوام سابقة، بحسب ما أوضح عصام يونس، مدير مركز الميزان لحقوق الإنسان في مقابلة مع VICE عربية وأضاف: “الجرائم الإسرائيلية مستمرة ومتواصلة، سابقًا ولاحقًا، كجريمة الاستيطان وهي بالضرورة تخضع إلى عمل المحكمة. الأمر الذي سيمكن الفلسطينيون من محاسبة مرتكبي الجرائم بحقهم دوليًا، كما سيفرض قيودًا عدة على مرتكبيها دوليًا.”
وعقب إعلان الجنائية الدولية اختصاصها على الأراضي الفلسطينية، أعلنت المدعية العامة مؤخرًا فتح التحقيقات رسميًا، وهو ما يعني أن المدعية العامة بنسودا، ستقوم خلال الأيام القليلة القادمة بإرسال بيان لإسرائيل مطالبة إياها تولي التحقيق بنفسها في الشكاوى المقدمة من قبل السلطة الفلسطينية، كما يشير الدكتور عبد القادر جرادة، رئيس المركز العربي للعلوم الجنائية. ويضيف في مقابلة معنا: “فور تسلم إسرائيل بيان الجنائية الدولية، سيكون أمامها 30 يومًا للرد على قرار الجنائية فتح التحقيق.”
وبحسب نظام روما الذي ينظم عمل المحكمة الجنائية الدولية، فإنها تختص بمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية، وتعمل على إتمام دور الأجهزة القضائية الوطنية، فهي لا تستطيع أن تقوم بدورها القضائي ما لم تُبدِ المحاكم الوطنية رغبتها إن كانت غير قادرة على التحقيق أو الادعاء.
ما هي الجرائم التي نتحدث عنها؟
وثقت هيومن رايتس ووتش هجمات غير قانونية، بما فيها جرائم حرب وهجمات متعمدة على ما يبدو ضد المدنيين والبنية التحتية المدنية، خلال الحرب الإسرائيلية على غزة في 2014 التي أسفرت عن مقتل أكثر من 1,500 مدني في القطاع. كما تم تدمير المستشفيات والبنية التحتية، ومنازل أكثر من 100 ألف فلسطيني- ترفض إسرائيل بدخول أي مواد بناء لإعادة بناء كل ما دمرته. وفي ٢٠١٨، خلصت هيومن رايتس ووتش إلى أن إسرائيل استخدمت مراراً “القوة القاتلة” ضد المتظاهرين الفلسطينيين العزل الذي تظاهروا ضد الحصار المفروض عليهم من ١٥ عاماً، والذين لم يشكلوا أي تهديد وشيك على الحياة بناء على أوامر غير قانونية من كبار المسؤولين، وهو ما قد يرقى إلى جرائم حرب.
في المقابل، أطلقت بعض الجماعات الفلسطينية المسلحة صواريخ محلية الصنع تجاه التجمعات السكانية الإسرائيلية القريبة من غزة، مما أسفر عن مقتل 5 مدنيين إسرائيليين. كما نشرت هيومن رايتس ووتش تقريرا قال أن الممارسة الممنهجة للاعتقال التعسفي والتعذيب من قبل السلطات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة ضد المنتقدين والمعارضين السلميين قد ترقى إلى “جريمة ضد الإنسانية” يمكن مقاضاتها في المحكمة الجنائية الدولية.
ماذا يعني هذا القرار بالنسبة للقادة الإسرائيليين؟
إسرائيل ليست عضوا في المحكمة الجنائية الدولية، وسبق أن عارضت بشدة أي تحقيق. في عام 2002 وبعد الإعلان عن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ومقرها بهولندا في لاهاي، انسحبت أمريكا وإسرائيل من التوقيع على الانضمام لنظام روما، الذي ينظم عمل الجنائية الدولية، بعد استشعارها بخطر قد يطال قادتهم في المستقبل، ذلك لأن المحكمة الجنائية الدولية تختص بالنظر في القضايا المقدمة من الدول الأعضاء.
وقد حذرت إسرائيل وأمريكا المحكمة وتحديدًا المدعية العامة بنسودا التي تتولى منصبها منذ 2012، وهاجم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقيادات إسرائيلية آخرون الجنائية الدولية والمدعية العامة، رافضين إعلان اختصاصها القضائي على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
“أعتقد أن القرار الأخير سيُدخل الاحتلال في أتون أزمة كبيرة، خصوصًا أن 123 دولة منضمة للمحكمة الجنائية الدولية، مجبرة على التعاون مع قرارات المحكمة، وبالتالي إذا صدرت مذكرات اعتقال وهي في الغالب تكون سرية، ستعمم على الدول الأعضاء وسيكون من الصعب على قادة الاحتلال السفر إلى هذه الدول، خصوصًا في ظل المعطيات الموجودة على الأرض،” يقول جرادة، ونوه إلى أن قرار المدعية العامة ملزم للمدعي العام الجديد كريم خان الذي سيتولى مهامه في يونيو القادم. “أعتقد أن بنسودا رسمت خريطة الطريق لمن بعدها، وخان سيسير على ذات الدرب، هذه منظومة متكاملة ستؤدي في النهاية إلى ملاحقة قادة الاحتلال.”
المحكمة الجنائية الدولية، وهي محكمة الملاذ الأخير، يمكن أن تتدخل فقط عندما لا تستطيع السلطات الوطنية أو لا تحقق في القضايا بمصداقية، كما الحال في وضع فلسطين مع الإحتلال الإسرائيلي. وهنا يشير راجي الصوراني، مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في مقابلة معه إلى أن قرار فلسطين الذهاب إلى الجنائية الدولية، يأتي بعد استنفاذ المؤسسات الحقوقية كافة الإجراءات المحلية لمحاكمة إسرائيل عن جرائمها بدون أي نتيجة ويضيف: “السؤال الأول الذي تطرحه الجنائية الدولية، هل استنفذتم الإجراءات القانونية الوطنية. والإجابة نعم، نحن استنفذناها بالكامل، فقد ثبت لدينا أن الجهاز القضائي الإسرائيلي هو الذي يعطي الغطاء القانوني لجرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية تمارس وبشكل منهجي ضد المدنيين الفلسطينيين، لذلك توجهنا للجنائية.”
وكان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد فرض عقوبات على اثنين من مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، من ضمنهما المدعية العامة فاتو بنسودة، ضمن سعي الإدارة الأمريكية لإحباط تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في كل من أفغانستان وفلسطين والتي يمكن أن تحقق في سلوك مواطنين أمريكيين وإسرائيليين.
إدارة الرئيس الحالي جو بايدن قالت أنها ستراجع العقوبات لكنها لم تلغ بعد الأمر التنفيذي لترامب. كما رفضت الإدارة كذلك قرار المحكمة الأخير بخصوص فتح تحقيق بجرائم إسرائيل، وتهرب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية من الإجابة على سؤال صحفي حول أين يذهب الفلسطينيون لمحاسبة إسرائيل على جرائمها بعد الرفض الأمريكي محاسبتهم بمحكمة الجنايات الدولية. وكرر الصحفي سؤاله: “أين يذهب الفلسطينيون؟ أكثر من 10 مرات دون الحصول على إجابة مقنعة.
محاكمات سابقة؟
قد يتساءل البعض، ما إذا كانت قرارات الجنائية الدولية ملزمة وتنفذ، أم أنها مجرد قرارات دولية ستضاف إلى قائمة القرارات الدولية مثل قرار العودة واللاجئين، الذين لم تلتزم إسرائيل بتنفيذهم ولم تتمكن حتى اليوم دول العالم من الضغط عليها للتطبيق. يوضح مدير مركز الميزان: “يتم العمل في الجنائية الدولية على مستويين، في البداية يتم إصدار قرار بمعنى أن التحقيق يصدر عن إدانة أشخاص بعينهم وليس دول، ثم يقع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية تسليمهم للمحكمة لمحاكمتهم وقد حدث ذلك سابقًا.”
منذ نشأتها، حققت المحكمة الجنائية الدولية في العديد من القضايا، التي أدت في النهاية لمعاقبة مرتكبي الجرائم. وكانت قد حكمت عام 2012 على توماس لوبانغا، أحد أمراء الحرب السابقين في جمهورية الكونغو الديمقراطية بالسجن 14 عامًا، لاشتراكه في تجنيد الأطفال دون سن الـ 15 عامًا في مليشيا القوات الوطنية لتحرير الكونغو واستغلالهم للمشاركة في أعمال القتال عندما كان قائد ميلشيا في ذلك الوقت.
كما حكمت المحكمة في لاهاي عام 2017، بالسجن المؤبد مدى الحياة على الجنرال الصربي راتكو ملاديتش الملقب بـ “جزار البوسنة” على خلفية دوره في الجرائم التي حدثت بحق مسلمي البوسنة وبخاصة مذبحة “سريبرينيتسا” عام 1995. وتعتبر هذه القضية من أعقد المحاكمات القضائية في التاريخ الحديث، باعتبارها تتعلق بواحدة من أسوأ الجرائم المروعة في أوروبا، والتي استغرقت فيها عمليات المحاكمة بدءً من الاتهام وحتى صدور الحكم 22 عامًا.
وتتولى المحكمة الجنائية الدولية حاليًا التحقيق في عدة جرائم حرب دولية، وسيمثل أمامها قريبًا الرئيس السوداني المعزول عمر البشير -المعتقل في السجون السودانية- بعد صدور قرار توقيف من الجنائية بحقه ووزير دفاعه عبد الرحيم محمد حسين، ووزير داخليته أحمد هارون أمام الجنائية الدولية لمحاكمتهم بتهم ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في إقليم دارفور، بالإضافة إلى علي كوشيب أحد قادة ميليشيا “الجنجويد” السودانية والذي سلم نفسه للجنائية خلال العام الماضي 2020، وتجري محاكمته في لاهاي حالياً.
هل ستتم محاكمة قادة فلسطينين؟
قرار المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بالتحقيق مع طرفي الصراع، يطرح العديد من التساؤلات حول ما إذا كانت قادة التنظيمات الفلسطينية وتحديدًا من حركتا حماس والجهاد، سيتم تقديمهم للمحاكمة في لاهاي بحجة ارتكابهم “جرائم حرب” أو أي تهم أخرى فيما يتعلق بإطلاق صواريخ محلية الصنع على إسرائيل. حماس من جهتها رحبت بالقرار، وقال المتحدث باسم الحركة في غزة أن “مقاومتنا هي مقاومة مشروعة وتأتي في إطار الدفاع عن شعبنا، وهي مقاومة مشروعة كفلتها كل الشرائع والقوانين الدولية.”
وعن ذلك يقول جرادة: “قد يعتقد البعض بأن قرار الجنائية الدولية سيؤتي بأثر سلبي باتجاه فصائل المقاومة الفلسطينية، لكن نستطيع القول أن ما حدث في حرب 2014 خصوصًا وما بعدها، لا يشكل وفقًا لقواعد القانون الجنائي الدولي جريمة بمفهوم القانون الجنائي الدولي. حتى لو اعتبرت بعض الأفعال مثل إطلاق بعض الصواريخ على المدنيين وخلافه فهذا أمر مردود، حيث استُخدمت كوسيلة من وسائل الدفاع عن النفس المشروع.”