ينص الدستور التونسي على أن “تضمن الدولة الحق في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ.” لكن رغم ذلك لا يتخذ السؤال البيئي أولوية لدى الفاعلين السياسيين في تونس، في الوقت الذي أصبح من الضروري إيجاد حلول لمعضلات بيئية باتت متفاقمة.
لا يبدو أن الشباب في تونس على ثقة بسياسة الدولة المرسومة من أجل مواجهة مشاكل البيئة التي اتضحت مخاطرها بقوة خاصة في السنوات الأخيرة. ويبدو أن هناك قناعة شعبية باتت سائدة مفادها أن هناك قطيعة كبيرة بين ما تمليه القوانين وما يظهر في أفعال وخطط رجال السياسة، الأمر الذي أسهم في بروز مبادرات شبابية فردية، تحل محل الدولة الغائبة على مستوى حماية البيئة.
Videos by VICE
Les bouchons d’amours أو “أغطية الحب” هي مبادرة بسيطة أطلقها مجموعة من الشباب منذ قرابة السنة في تونس دعوا خلالها لجمع أغطية القناني البلاستيكية من أجل بيعها لتجميع ثمن كرسي متحرك لأحد ذوي الاحتياجات الخاصة. حظيت المبادرة بتفاعل واسع وتم توفير عدد من الكراسي المتحركة، وعليه قررت المجموعة استخدام هذا الدعم للحفاظ على البيئة وبنفس الوقت تقديم المساعدة للمحتاجين. خلال العام، تم تشكيل فرق من المتطوعين في مختلف المدن في تونس، مهمتهم جمع هذه الأغطية البلاستيكية التي يتم رميها في الشوارع، وبيعها للشركات واستخدام العائدات في الخدمات الاجتماعية والبيئية.
“النشاط مرهق وممتع في آن واحد، فهو يجعلنا نحظى بمحبة وثقة الناس من جهة، ويمكننا من القيام بدورنا كشباب لحماية البيئة، الكميات التي نجمعها في كل مرة مهولة ومشكلة البلاستيك خطيرة جدًا،” تقول بسمة أم الزين، أحد الناشطات في هذه المبادرة وتضيف: “لقد استطعنا إحداث فرق حقيقي، فقد تمكنا من الحيلولة دون رمي هذه الكميات الكبيرة على الشواطئ والغابات وغيرها من المساحات، لا سيما وأن تحلل مادة أغطية القوارير البلاستيكية يحتاج مدة طويلة.” تشير بسمة إلى أن الاهتمام بالبيئة يجب أن يبدأ من سن صغير، ولهذا قامت المبادرة بحملات توعية في الروضات والمدارس حول مخاطر البلاستيك على البيئة. “لقد حفزت هذه المبادرة أعدادًا كبيرة من الناس على ترك عادة رميها القوارير وأغطيتها عشوائيًا في أي مكان والعمل على تجميع الأغطية في المنازل، حيث يتولى المتطوعون التابعون لـ “أغطية الحب” استلامها وبيعها للجهات التي تقوم بإعادة تدويرها. أستطيع القول أننا ساعدنا على التخفيف من حجم التلوث البيئي الذي يسببه البلاستيك، وساهمنا بتعريف الناس على ثقافة إعادة التدوير. على الأقل عملنا فرق، حتى لو كان بسيطاً.”
وتحتل تونس المرتبة 27 عالمًيا في نسب التلوث البيئي على مستوى العالم بنسبة تلوث تقدر بـ75٪، كما صنفت الثالثة في إفريقيا بعد مصر والجزائر علمًا أنها كانت خارج التصنيف الأفريقي سابًقا. وتعد تونس رابع أكبر مستهلك للمنتجات البلاستيكية على المستوى الفردي في شمال افريقيا. وتفيد الإحصائيات بأن تونس تستخدم سنويًا ما يفوق مليون كيس بلاستيكي، وهي غير قابلة للتحلل العضوي. في عام 2018، أنتجت تونس 0.5 مليون طن من النفايات البلاستيكية منها 12٪ تم جمعها فيما لم تجر معالجة البقية ووقع إرسالها إلى مصبات النفايات أو رميها في الطبيعة. وبالتالي تم إلقاء 9.5 آلاف طن من النفايات البلاستيكية في البحر المتوسط عام 2018. وحذر تقرير الصندوق العالمي للطبيعة أن التلوث البلاستيكي يكلف الدولة التونسية خسائر بما يقارب نصف الموازنة، بما قدره 60 مليون دينار خاصة في مجالات النقل البحري والصيد البحري والسياحة.
ولا يوجد أي مبادرات هامة على مستوى الدولة للحد من استخدام البلاستيك، ومن الطرائف التي يرددها التونسيون كيف أعلن منذ سنوات أنه لن يتم استخدام البلاستيك في السوبرماركت والمحلات الكبرى مجددًا، ولكن ما حدث أنه لم يعد كيس البلاستيك مجانًا بل بمقابل مادي هذه المرة. ولأن سعر البلاستيك أقل من الأكياس الأخرى التي تم توفيرها، فإن المواطنين واصلوا الإقبال عليه. ومن المؤشرات الأخرى التي تؤكد عدم انخراط الناس في الحد من استخدام البلاستيك، قرار وزيري الصناعة والتجارة مؤخرًا السماح باستعمال الأكياس البلاستيكية لتعبئة الإسمنت عوضًا عن استعمال الأكياس الورقية فقط موجهين ضربة موجعة للجهود المحدودة المبذولة من أجل حماية البيئة، ومازال القرار يثير جدلًا كبيًرا في تونس.
وكانت وزارة البيئة قد استحدثت في 2013 عن برنامج استعجالي لمكافحة تفاقم التلوث بتونس عبر تجميع النفايات البلاستيكية من الطرقات، لكنه لم يكلل بالنجاح وفي سنة تم إحداث سلك الشرطة البيئة بهدف تطبيق التشريعات والقوانين المتعلقة بالبيئة لكن دون جدوى بسبب ضعف الإمكانيات اللوجستية ونقص الموارد المالية المرصودة في الغرض.
البلاستيك ليس المشكلة الوحيدة التي تهدد البيئة في تونس. فالخردة هي الأخرى تشكل تهديدًا كبيًرا عليها في ظل انتشارها الكبير في البلاد دون وجود إرادة رسمية تتجه نحو تخليص البلاد من هذه المعادن التي انقضى زمن الانتفاع بها وأصبحت مصدراً خطراً على البيئة بما يتسرب منها افرازات مضرة إلى الأرض والماء. ولعل هذا ما حفز بعض الشباب على التفكير في بعض الطرق التي تسمح بالاستفادة من هذه الخردة بدل انتشارها عشوائيًا على غرار ما قام به يامن العبدلي.
قرر يامن العبدلي، شاب من محافظة القصرين (وسط غربي) استخدام مواهبه كرسام ومستشار تدريس بالتكوين المهني في مشروع بيئي جميل، حيث قام باستخدام الخردة (بقايا مواد معدنية وحديدية مستعملة) وتحويلها لأعمال فنية. وعادة ما يتم رمي الخردة اعتباطيًا في المساحات الخضراء والشوارع دون الالتزام بضوابط كفيلة بحماية البيئة حتى أنه لا تتوفر أرقام رسمية عن عدد المصبات العشوائية الموزعة على كامل مناطق البلاد والموجودة بالقرب من التجمعات السكنية وفي المحيط البيئي عمومًا.
يقول يامن: “منذ سنوات بدأ اهتمامي بفكرة تحويل الخردة لأعمال فنية ومقاعد وأشياء أخرى مستفيدًا من نشاطي كرسام ومن عملي كمختص في التركيب المعدني، ومن رغبتي في تطويع هذا الحديد الصلب المرمى عشوائيًا في كل مكان وخلق أشياء جميلة ومفيدة. نجحت في التأسيس لمشروع يستجيب لميولي الفنية ويساعد في الحد من انتشار الخردة ولو على نطاق محافظتي.”
الذي ينظر للأعمال التي قام بها يامن لن يدرك أن هذه الأعمال الفنية كانت مجرد خردة، فقد قام بتصميم منحوتات ومجسمات ومقاعد. ولا يقوم يامن بتحويل الخردة اعتباطيًا بل يحاول في كل مرة اختيار مواضيع تكون محور مجسماته ومنحوتاته على غرار الموسيقى والمسرح وثقافة العمل وصور المدينة الجديدة التي يتطلع إليها كشاب والبطالة والتهميش وغيرها من القضايا اليومية. كما التفت إلى المساحات العامة والمدارس والروضات في مدينته، حيث قام بجمع الأثاث القديم والمتلف في بعض المدارس وأعاد تشكيله في حلة جديدة وأعاد تهيئة بعض الحدائق بمدينته ببعض المقاعد والحاويات.
وساهم مشروع يامن الذي يحاول توسعته بإمكانيات مادية ذاتية محدودة في التقليص من الانتشار الكبير للخردة، كما يقول: “لقد نجحت في تنظيف الكثير من المساحات من هذه المواد الخطيرة على محيطنا والجميل أن هذا النشاط حفز الكثيرين على تجميع بقايا الخردة وتقديمها لي أو الاتصال بي لأخذها بدل رميها عشوائيًا.”
فاروق عيشاوي، كذلك قرر تحويل إطارات السيارات والدراجات المهملة والغير قابلة للاستعمال، إلى تحف وأثاث موجه للمنازل والمقاهي للتخلص من هذه الإطارات القديمة المنتشرة بكثرة وبطريقة غير منظمة. ويؤدي حرق الإطارات المطاطية إلى انبعاث غازات خطرة لها تأثير مباشر وغير مباشر على الماء والتربة والهواء والإنسان وتتسبب بأمراض الربو والسرطان والحساسية الالتهابات الرئوية وضيق النفس. كما يؤدي تحللها حراريًا إلى إنتاج مركبات سائلة سامة تتسرب إلى المياه الجوفية وتتسبب في تلوثها بمواد حمضية تلحق ضررًا بالحياة البرية النباتية والحيوانية. كما أن التخلص من الإطارات عن طريق الدفن يعد كارثة بيئية حيث يحتاج المطاط لمدة طويلة قد تصل إلى 1000 سنة حتى يتحلل نظرًا لاحتوائه على الكبريت الذي يعطيه تماسكًا ويقلل من قابليته للتحلل.
يقول فاروق: “حاولت وضع لمسة خاصة على هذه الإطارات، وقمت بتزويق الأثاث والتحف التي أعدها بمادة الحلفاء (نبتة تستخدم لصناعة الورق وأشياء تقليدية) والمرقوم التونسي التقليدي (مزيج من فن النسيج التقليدي والرسم على الصوف) الذي بدأ يختفي من الأسواق رغم جماليته.”
قام فاروق بأخذ قرض من أحد البنوك لتحقيق هذا المشروع والذي بات لا يلبي فقط تطلعات فاروق في إنجاز فكرة سعى إليها بكل ما في وسعه بل كان له وقع اجتماعي وبيئي، إذ وفر فرص عمل لبعض الشباب الذين باتوا يتولون تجميع هذه الإطارات ونقلها إلى المكان المخصص لها بمقابل مادي. أما بيئًيا، فقد نجح فاروق في تغيير أساليب التعاطي مع الإطارات المستعملة فبعد أن كانت ترمى هنا وهناك دون الاكتراث لمخاطرها البيئية الكبيرة، أصبح أصحاب هذه المواد يقومون بتجميعها والتواصل مع المشروع لنقلها، الأمر الذي ساعد تقليص أعداد الإطارات المنتشرة في كل مكان وحصرها في فضاء معين.
“أسعدني أن مشروعي يساهم بشكل هام في حماية البيئة من مخاطر هذه الإطارات التي لا تتحلل بسهولة، الكثير من المناطق التي كانت مليئة بهذه الإطارات عادت نظيفة وخالية من الأضرار البيئة، وأنا سعيد بذلك جداً.”
ويطمح فاروق لأن يعرف بمشروعه وفكرته خارج تونس لا سيما في ظل وجود تفاعل أجنبي مع ما يقدم من مواد خاصة من فرنسا وتحديدا من مجموعات تريد اقتناء بعض أعماله.