“لا أحب والدي ولا احترمه” هكذا كشف الإعلامي المصري محمود سعد عن مشاعره تجاه والده الراحل فتح باباً صعب الإغلاق، مسبباً عاصفة من الجدل حول معنى الأبوة والأذى النفسي الذي ينتج عن الشعور بالهجر.
في البداية، تجنبت الجدل المثار حول ما قاله سعد على السوشيال ميديا. هربت من كافة المنشورات التي تهاجمه وتنعته بالعقوق، حتى صادفني تعليق تسأل صاحبته سعد “أين حُرمة الميت؟ أنت تهتك عرضه وتؤذيه” حينها فقط قررت أن أرى ماذا قال سعد عن والده ليعتبره البعض أنه “أذى” بالرغم من معرفتي منذ سنوات عديدة بأنه نشأ دون أب، فهذه ليست المرة الأولى التي يتحدث عن ذلك.
Videos by VICE
عدت بذاكرتي لعام ٢٠٠٥، بينما كنت أجلس لعمل الواجب المدرسي، كانت أمي وجدتي تشاهدن إحدى حلقات برنامج محمود سعد. نادتني أمي وكان صوت بكائها طاغِ على كلماتها “تعالي يا ندى اسمعي علشان تعرفي انك مش لوحدك يا حبيبتي.” كانت من المرات القليلة التي وجدت أمي تبكي فيها، فقد عهدتها امرأة قوية. شاهدت سعد وهو يتحدث عن أمه ويقول أنها ربته بمفردها؛ بسبب غياب الأب الذي ترك الأسرة ولم يصرف عليهم بالرغم من كونه غنياً. كان عمري تسع سنوات وقتها وأسعدني كلامه للغاية، شعرت بأنني لست وحيدة، هناك أشخاص آخرين لديهم أم فقط، ولكني لم أفهم سبب بكاء أمي ومواساة جدتي لها في تلك اللحظة.. الآن آنا أفهمها بشدة.
كنت في السابعة من العمر عندما اعترفت أمي لي بأن أبي لم يكن في رحلة عمل طويلة، بل أنه قرر ألا يتواجد معنا وهذا شأنه هو حر. لم تستخدم أمي أي مفردات توحي بأي كراهية له. سألتني “ناقصك حاجة؟” أجبتها لا، وردت بـ “سأبذل كل جهدي حتى لا ينقصك شيء” وضمتني لها بقوة. أعتقد أنها قصدت بتلك الضمة أن تبث لي عدة رسائل، أولها بث قوة حقيقية داخلي حتى لا أشعر بأي نقص مرتبط بغيابه، ثانيها بث دعمها الأبدي لي، وثالثها أن القوة متبادلة أي أن وجودي أيضًا يُعينها على الحياة.
من المؤكد أن إدراك عُمر السبع أعوام مختلف عن إدراك الستة وعشرون عامًا، وإدراكي حاليًا يرد على سؤال أمي القديم. نعم ينقصني الكثير، وسُلب مني الكثير. لقد نشأت في الحياة مبتورة الأب، قطع أبي علاقته بي قبل أن تبدأ، لا أتذكر ملامحه، حتى لو أنه مر بجانبي في الشارع الآن لا يمكنني التعرف عليه. فقد تركنا بعد أن أتممت عامي الرابع.
أحيانًا كنت أتمنى أن يكون الغياب بسبب موته؛ كان لي أصدقاء فقدوا آبائهم ولكنهم يتحدثون عنهم بمنتهى الفخر والحنين وتلمع أعينهم من شدة الاشتياق. ولكنني في المرات المحدودة التي أتحدث فيها عن أبي تلمع عيناي من شدة الألم المتجدد وكأنها شظايا نيران لا هي مشتعلة ولا هي خامدة، فأنا أقرب لليُتم في ذمة أب على قيد الحياة، ولذلك كانت تقول عني إحدى السيدات من عُمر جدتي “هي مفارقة أصعب من اليتيمة.”
لماذا البكاء؟
بعد مشاهدة ما قاله سعد عن والده، وهو ما قاله في مرات سابقة عنه مع إضافة بعض التفاصيل، ولكن الغريب أنني بكيت هذه المرة، بكيت بحرقة ومرارة، وتلاشت مشاعر الطفلة التي سمعت الكلام ذاته قديمًا من نفس الشخص وفرحت به.
أعتقد السبب أن سعد صب كحول على جرح يتعمق عبر الزمن. في الطفولة، كان الهجر مجرد خدش فلم أشعر به، ولكن الجرح الآن غائر وألمه متجدد. هذه المرة كنت أنا من ناديت أمي حتى تشاهد كلام سعد، وقلت لها أيضًا أنا مش لوحدي. ولكن اكتشاف عدم التفرد هذه المرة لم ينبع من كوني لست الوحيدة مبتورة الأب، ولكن من كوني ليست الوحيدة التي تشعر بتلك الغصة وأن نسيان الأذى والهجر صعب.
بكيت لأن طريقة سعد مختلفة في السرد عن 2005، حينها كان يغلب عليه التباهي بوالدته وبقدرتها غير المحدودة على العطاء، ولكن سرده في 2022 بعدما قارب بلوغ السبعين يغلب عليه القهر من هجر والده له، وعجزه عن التخطي طوال هذا العمر بالرغم من تحقيقه العديد من النجاحات والانتصارات. بكيت لأنني كان مازال لدي أمل في التجاوز لم أحدد له توقيت ولكن كان الأمل موجود، ولكن تم محوه عندما شاهدت سعد يتحدث بكل هذا القدر من الغضب المكتوم، فعرفت أن غصة قلبي تجاه أبي ستبقى ما حييت.
الأذى لا يسقط بالتقادم
من واقع تجربتي ومن تجارب آخرين قطع آبائهم علاقتهم بهم، أستطيع القول بأن الأذى يتجدد بالتقادم وليس العكس. مع زيادة الوعي، ومع إدراك مفهوم الأبوة، يطل السؤال الذي لا إجابة له مجدداً “لماذا تركني؟” إذا كانت أمي غير مناسبة له أو حتى صعبة المعشر -وإن كانت هي ست الدنيا في نظري- فلماذا تركني أنا؟ من أين جاء بهذه القسوة ليُبريني حتى من سؤاله عني؟
ضمن هذا السياق وتعقيداته، لم أتفهم الهجمة الشرسة ضد سعد، أي أذى تحدثت عنه صاحبة التعليق المهاجم له ولماذا انتبهت لحرمة الميت ولم تنتبه لحرمة الأحياء؟ لقلوبنا ومشاعرنا حُرمة، على الناس عدم هتكها، واحترامها بالسماع والتفهم والمؤازرة، أنت ليس أنا حتى تحدد درجة الأذى أو تنفيها من الأساس، أنت لم تعش تجربة تخلي وهجر الأب عنك وأنت طفل، أنت لم ترى والدتك وهي تعمل ساعات إضافية لتوفر مصاريف المدرسة الخاصة أو الذهاب مشياً للعمل حتى تتمكن من شراء الحليب لطفلتها.
أنت لم تجرب أن تحتاج الأب في ورقة رسمية ضرورية مصيرية وتظل تبحث عنه بالشهور وحياتك متوقفة عليها، كما حدث معي في المرحلة الثانوية التي ما كنت أدخلها لولا إرفاق صورة بطاقة الرقم القومي له في ملفي. أنت لم تُختبر في مواجهة نفسك بسؤالها لماذا تجرد أبي من أبوته نحوي؟ لا تفرض وصاية على تعبير شخص عما يشعر به من تجربة شخصية، ولا ترهبني بفكرة البر والعقوق ولا بقدسية حرمة الميت.
البر هو آلة مستديرة من العطاء يعمل الأب والأم على تشغيلها بتزويدها بالحب والرعاية والاهتمام والتفهم والدعم غير المشروط. وكلما كبر الابن تدور الدائرة لتصل إلى الوالدين وينالوا مما زودوا به تلك الآلة، وكذلك العقوق يمر بالعملية ذاتها، ولكن تتبدل المقادير بالقسوة والعنف والجحود واللامبالاة. في حالتي أوقف الأب سير الآلة من البداية، خلع تروسها، حتى أصبحت خُردة لا استطيع التخلص منها لدرجة أنها تزاحم أشياء ثمينة وقيمة بداخلي.
فاقد الشيء لا يعطيه لأنه لا يعرفه من الأساس
“لما والدي توفى متأثرتش ومحستش بحاجة ومكنتش عايز اعمل عزا لولا أمي” كلمات سعد عن موقفه عندما توفى والده بدت للبعض قاسية ولكنها حقيقية تماماً. يحزن الأبناء عندما يموت والدهم حبًا في أيامهم وذكرياتهم معه وألمًا على صعوبة تقبل فكرة غيابه، ولكن إذا كان الغياب ليس بجديد والفقد ليس مستحدث ولا يوجد ما يجمعك بهذا الأب، فكيف يمكن أن تشعر بالحزن عليه؟
أعلم أن والدي ما زال على قيد الحياة، ولكنني حقًا لا أعرف موقفي إذا توفى، قد يكون أقرب إلى موقف سعد، حالة من اللامبالاة، وقد أحزن ولكن ليس عليه، أحزن من تذكر قسوته وأنني كنت ابنته على الورق فقط. يقول سعد عن والده “مبحبهوش ولا بحترمه ولكن بدعيله في كل صلاة.” أنا كمان ما بحبوش، في الواقع أنا أكره والدي، كانت مشاعري نحوه مضطربة في صغري، ولكن مع تقدم العمر تحول الهجر إلى مشاعر حادة تعرف طريقها نحو الكراهية، وهو شيء عادل بالنسبة لي، ليس لدي مشاعر حب تجاهه أو حتى مشاعر محايدة، لأنه تعامل معي بالحدة نفسها حين تملص من أبوته.
ولكن دعنا من الموت، أنا حتى لا أستطيع أن استشف رد فعلي إذا قابلته الآن، ولكن في كل الأحوال لا أتمنى ذلك، لأنه بالتأكيد لن يركع على ركبتيه راجيًا مني السماح -وإن فعلها لن أسامح- فقد يتسبب لي في مشاعر أكثر أذى مما مضى، ولذلك من الأفضل ألا تتقاطع طرقنا ابدًا.
ذات مرة حكيت لي صديقة أن طفلتها تشكو لها أباها بأنه كلما جلس معها غير قناة التلفزيون من الكرتون إلى الرياضة دون أن يسألها “تحبي تتفرجي معايا يا لولي؟” وأنه لا يشاركها الفُرجة على برامج الكرتون. تضحك صديقتي التي كبرت دون أب أيضًا في ظروف مشابهة لظروفي بعض الشيء وتُعلق “بنت مدلعة يعني الواحد كبر في بيت الأب مش موجود اساسًا وعايش حياته من غير ما يعرف هي بنته عايشة ولا ميتة، والمفعوصة زعلانة علشان ابوها مش بيتفرج معاها على الكرتون.”
فقدان الشيء وعدم الاعتياد عليه يجعلك تشعر بالاضطراب في تقييمه عند الاصطدام به، افتقدت صديقتي شعورها بالأب في الصغر فحينما صارت أم تعرضت لعلاقة جديدة لا تعرفها تجمع بين ابنتها وزوجها وهي الأبوة، ونتيجة للجهل بملامح وتفاصيل تلك العلاقة بالغت في تقييمها، ونعتت ابنتها التي تعبر عن احتياج ما بأنه “دلع.” في الحقيقة أنا أيضًا عاجزة عن تقييم هذه المشاعر، لا أميز بين كونه احتياجاً أو دلعاً، الأمر ذاته تحدث عنه سعد بشكل آخر، وهو أن حرمانه من والده جعله يجهل دور الأب، حينما صار أب لم يستطع الإجابة على سؤال “هو أنا كده أب كويس ولا لأ؟” وحتى الآن هو غير قادر على تقييم دوره في تربية ابنته.
انسى النسيان
الكلمة السحرية التي توجه لكل من بتر أبيه علاقته به بيده “انسى.” وكأنه قدم له حلاً سحرياً وأن النسيان لم يخطر ببال هذا الشخص أبداً. ولكن النسيان في حالات الفقد مرتبط بفقدان الذاكرة، والحل هو التعايش وتذكير النفس بأن ما حدث له كل العلاقة بالأب والتوقف عن لوم نفسي على ما حدث.
علينا كذلك أن نفتخر بذواتنا وبأمهاتنا، حتى وإن كان الجرح غائر، فلا بأس بتطيبه من حين لآخر وأن نستمد الدعم والمداواة من كلام الأخرين عن تجاربهم التي تشبهنا، وهو ما يتطلب أن نعبر دائمًا عن مشاعرنا وعن تجاربنا وألا نسمح لأي شخص بأن يسلبنا هذا الحق دفاعًا عن مقدسات وهمية.
والأهم من كل ذلك ألا تعول ابدًا على النسيان، صدقني لا مجال للنسيان، الكلام عن ألم هجران الأب باختياره الحر وتجدده كلما كبرنا لا ينتهي، وهنا أتذكر قول عبد الرحمن الأبنودي في جوابات حراجي القط مراسلًا زوجته “الورقة خلصت يا أم عزيزة وقلبي لسه مليان.”