“أنا حاسَة بك .. يمكن معرفتش أعَبر عن ده ازَاي .. فعملت المشروع ده.” بمجرد أن تدلف قدماك من بوابة مركز الصورة المعاصرة بوسط القاهرة الذي يستضيف معرض “خرج والمفروض يعد.. عن هجرة المصريين للخليج” تستقبلك هذه العبارة المنسوخة على الجدار مصحوبة بصورة فرح حلابة وهي طفلة رضيعة يُقبلِها والدها. ربما تُثير في البداية الصورة النوستالجيا لدى جيل الثمانينات والتسعينات، فهي تُشبه تلك الموجودة في ألبوماتنا الشخصية ولكن مع الانتهاء من التجوال في المعرض سيُولد لديك شعور أكبر وأعمق من الحنين حول تجربة السفر للعمل في الخليج، وأثرها على الأسر التي سافر أصحابها، عن تلك الهجرة المؤقّتة نظرياً إلى حين توفير مستوى معيشي أفضل للعائلة والأبناء، ولكن المؤقتة تصبح دائمة والعودة غير مضمونة وربما تدفن في الخليج للأبد.
“خرج والمفروض يعد” هو مشروع بحثي تشاركي من تنظيم “أنثروبولوجي بالعربي” يطرح بشكل إبداعي العديد من التساؤلات حول هجرة المصريين إلى الخليج، والتي لاتزال غير مدروسة أو معروضة بشكل كافٍ إلى الآن. ويهدف المشروع إلى إنتاج معرفي أنثروبولوجي بصري حول تجربة الهجرة المؤقتة من خلال مخرجاته الثلاثة؛ معرض فني، برنامج للفعاليات المصاحبة ومطبوعة تشاركية.
Videos by VICE
يضم المعرض أعمالًا فنية لخمسة عشر فنانًا متنوعة بين الفوتوغرافيا، الفيديو آرت، الأفلام القصيرة، الصوت والتركيب. تطرح علاقتهم الشخصية بالحياة في الخليج، حيث تلعب الذاكرة دورًا كبيرًا في طرحهم لأعمالهم حول فكرة “الحياة المؤقتة.” ونجحت فريدة يوسف كيوراتور المعرض في تصميم ساهم في خلق ذلك الانطباع لدى الزائرين الذين يستقبلهم، بلافتة مكتوب عليها: “وجودك هنا مؤقت” ويُودِعهُم بطاولة تسجيل الانطباعات، الذكريات و المشاعر من خلال دفتر ورقي و Walkman وشرائط على طريقة مراسلات زمان.
قابلنا فرح حلابة، مُؤسِسة مشروع “أنثروبولوجي بالعربي” الجهة المنظّمة للمعرض، وتحدثنا معها حول مشروعها البحثي التشاركي عن هجرة المصريين الى الخليج. حلابة حاصلة على ماجستير الأنثروبولوجيا الاجتماعية والبصرية من “جامعة كينت” بانجلترا دشنت مبادرة “أنثروبولوجي بالعربي” عام 2019 من خلال بث محاضرات عبر حلقات على اليوتيوب لتبسيط “علم الأنثروبولوجيا لإثراء المحتوى العربي على الإنترنت.”
VICE عربية: كيف انطلقت فكرة هذا المشروع؟
فرح حلابة: كان يشغلني تساؤلات في “أنثروبولوجي بالعربي” عن واقع تجربة هجرة المصريين للخليج، خاصة أن أبي مازال يعيش في الخليج حتى الآن، وكنت افُكر دائمًا أنه من المفروض أن يعيش هناك لمدة مؤقتة، هذا ما خلق لدي شعور مُركب تجاه أبي تشاركته مع آخرين تجاه آبائهم الذين مازالوا يعيشون في الخليج. لهذا فكرت، لماذا لا نتساءل بشكل جماعي عن تجربة الهجرة من خلال ورشة عمل، ولكن بشكل أنثروبولوجي. (علم الإنسان أو الأنثروبولوجيا يدرس تصرفات البشر المعاصرين).
انطلقت ورشة العمل في فبراير الماضي وبدأت من حزمة تساؤلات حول الذاكرة، الطموح، ديناميكيات الأسرة، الأبوة، الطبقة الاجتماعية، البيوت، الموت، الانتماء واللغة. واجهنا تحديات بالطبع، لم نعثر على مراجع أو كتب ترصد تجربة هجرة المصريين للخليج سوى رواية ذاتية، بحثين وعدد قليل من الأفلام والمسلسلات تناولت هذه الحقبة. كانت هذه الكتابات تُركز فقط على الطبقة العاملة وليس الطبقة المتوسطة، ولم تحلل التجربة نفسها وأثرها على الأفراد. ومن هنا قررنا أن نتفاعل من خلال دردشتنا في الورشة مع تساؤلاتنا وتجربتنا.
بخصوص الأفلام والمسلسلات التي تناولت هجرة المصريين إلى الخليج، إلى أى مدى قدمت معالجات قريبة من واقع التجربة؟
معظم المُعالجات الفنية بَدَت نمطية ومتكررة مثل حصر دور الأب في الدراما بأنه الغائب البعيد، ولكن لم نُشاهد علاقات أخرى تمت معالجتها وطرحها حول الأبوة في هذه الأفلام. ثانيًا هناك ربط الهجرة للخليج بالخلل والانحراف الذي يعصف بالأسرة التي غاب عنها الأب، فنجد أبناء جاحدين يتعاملوا مع الأب باعتباره ATM فقط، زوجته مُستغله ماديًا، خيانات، إدمان الأبناء وانحرافهم. تم تصوير هذا الخلل في الأفلام بأسلوب مبُالغ فيه. لم نُشاهدا كاميرا حملها المُخرِج للتصوير في الخليج، دائمًا الخليج أداة في الحدوتة أكثر من معالجته كمكان فيه ذكريات وحكايات وتجارب. وككفريق عمل المشروع لم نعثر على أي فيلم يشبهنا أو يقترب من حياتنا في الواقع.
ماذا عن النساء، فقد كن يَحظيَن بإعارة أيضًا للخليج كمُعلمات وطبيبات. كيف تم تصويرهن في السينما؟
لم نعثر إلا على فيلم وحيد اسمه “الضائعة” بطولة نادية الجندي ناقش تجربة سفر المرأة للخليج وتم معالجة الفكرة بهستيريا حيث عادت البطلة لتجد زوجها تزوج عليها وسرق مُدخراتها مما دفعها للإدمان ثم قتل الزوج. ورغم أنه كان هناك نساء كثيرات يتم إعارتهن للخليج للمدارس والمستشفيات بمفردهن، الا أن الدراما والسينما ركزت على سفر رب العائلة “الأب – راجل البيت.” وظهر غياب الأب على الشاشة نمطيًا، فهو لم يكن غيابًا بقدر ما كان له حضور ثقيل، ولم يكن فراغ في العدم ولكن غياب له حضور وتوابع. مثًلا في مسلسل “ذات” بطولة نيللي كريم، نجد أم البطلة تُوبخها لعودتها متأخرة للبيت وتلومها على تغيير لون شعرها وذهابها للسينما وتردد الأم طيلة الحوار عبارات من نوعية “احترمي حُرمة غياب جوزك – ميصحش ترجعي متأخرة – الناس تقول عليكي ايه” وهي عبارات تعكس غياب الأب ظاهريًا ولكن ظِله يُحاصِر الأسرة في أداءات وسلوكيات معينة مطلوب تنفيذها احترامًا لغيابه عن مصر.
“الخليج ليس خليج ولكنه فجوة” كُتبت هذه العبارة على أحد جدران المعرض. هل نحن أمام تشريح للزمن؟
الزمن هو نقطة الانطلاق لهذا المشروع، قررنا النظر لتجاربنا في السفر للخليج والزمن أمامنا. أظن أن قسوة أو ثقل تجربة السفر ووزنها نابع من “الارتباك” الذي يحدث لنا في إحساسنا بالزمن، بمعنى أن الفكرة تبدأ بشخص يُسافر للخليج من أجل المستقبل ولكن لا يصل إليه. نسافر للخليج لفترة مؤقتة، ولكن المؤقت يصبح Forever. هذه “الربَكة” ناجمة أن من يهاجر للخليج يعيش حياتين بزمنين، حياة مؤقتة في الخليج وأخرى مؤجلة في مصر، ولكن تختفي الفواصل والحياة المؤقتة تمتد، ونجد أن معظم حياتنا عشناها في الحياة المؤقتة ولم نصل للمستقبل ولم ننعم بالحياة المؤجلة أيضًا.
تُبدو فكرة الحياتين جلية في installation الصالون المُذهب والبيوت المليئة بالكراتين.
حاولنا في الورشة توثيق شكل البيوت في الخليج وعلاقة المصريين المسافرين ببيوتهم في مصر وتلك المؤقتة بالخليج، قادت هذا العمل الباحثة لينا الشامي ووصنعنا “أرشيف لبيوت المصريين في الخليج.” للأسف لم يكن هناك مرجع أو مصدر نعود له، حتى الأفلام والدراما كما ذكرت لم تذهب بكاميرا للتصوير في الخليج ومنازله. بحثنا من خلال الأرشيف الشخصي وبعض الصور للمشاركين/ ات بالورشة عن شكل البيوت وطبيعة الأثاث والمفروشات التي كان يستخدمها المصريين بالخليج.
فكرة “الصالون المُذهب” تركز على وجود قطع أثاث غالية الثمن ولكنها مُغطاة بملاءات تنتظر في البيت المؤجل عودة أهله من الخليج، مع تلك الكراتين المُعبأة بأحدث الأجهزة الكهربائية، في المقابل، نجد الكنب العادي والموكيت والكراسي البلاستيكية خفيفة الوزن والجدران الخالية من الصور في بيوت المصريين بالخليج. هنا تظهر البيوت المؤجلة المتكرتنة (نسبه للكراتين boxes) في مقابل البيوت المؤقتة بالخليج على أمل الإستمتاع بالحياة المؤجلة في بيوت مصر بعد الانتهاء من فترة السفر وبناء المستقبل للأسرة وضمان استقرارها المادي بصفتها حياة مؤقتة. الحزين أن معظم المغتربين يقضون حياتهم في البيوت المؤقتة وليس البيوت المؤجلة.
ما هي أكثر تجربة من حكايات الفنانين/ات بالمشروع تأثرت بها شخصيًا؟
تأثرت بهم جميعهم. ولكن “بقي هناك” للفنانة سالي أبو باشا كان أكثر عمل شهد بكاءً من قبل الزائرين للمعرض، تيمة الموت من التيمات الأساسية التي ناقشناها فى الورشة، معنى عودة المهاجر ودفنه في بلده، وماذا يعني أن يُدفن بشكل مؤبد في مكان هو المفترض أن يكون مؤقتاً. العمل مؤثر، تناقش فيه أبو باشا فكرة موت المُهاجر ودفنه في الخليج، وكيف يخلق ذلك علاقة مركبة جدًا بين الأسرة والمكان المدفون به الأب أو الشخص المهاجر. تقدم سالي قراءة فنية بصرية للمنزل الذي بناه والدها الدكتور محمود أبو باشا في مصر، على أمل العودة والاستقرار فيه، من خلال مخطط معماري يظهر على الحائط في المعرض، ولكن يتوفى والدها في الكويت ويظل المنزل في مصر فارغًا.
ماذا عن عنوان المعرض هل خفت من الالتباس مع اسم الفيلم المصري ” خرج ولم يعد”؟
أحب ربط الأفكار بالأفلام، هذا يخلق تفاعلاً أكبر مع الجمهور. كان الاسم في البداية للمعرض “مُستلف أو مُستعار- borrowed being” ولكن تم استبعاده لاحقاً. اخترت فيلم “خرج ولم يعد” هو فيلم مُفضل وجماهيري وأردت أن يقرأ الزائرين الاسم في البداية ثم يفكروا في معناه.
هل الحل في “العودة”؟
العودة لم تكن حًلا على الإطلاق، وأحد مقالات المطبوعة يُناقش هذه الزاوية، ويُفند رؤية أن هذه الدراما والمآسي من تجربة الهجرة ليس بالضرورة أن تنتهي بعودة الشخص لبلده، بل على العكس. البعض لم يستطيعوا التأقلم في مصر نظرًا لتلك الفجوة التي خلقتها سنوات الهجرة. والبعض الآخر انخفض أو توقف عائده المادي، ووجد نفسه في علاقة مركبة مع فكرة العودة وتساؤلات عن أين مضت السنوات وأين عائدها المُجزي ماديًا، “فين الفلوس اللى عملتها بعد كل سنين الغُربة” وشعور عارم بالاحباط بعدم القدرة على التنعم بعوائد الغربة بعد العودة.
هذا يُحِيلنا للعمل الفني ” كيف تغادر الخليج” لمريم ضيف الله؟
نعم، أثناء الورشة وحديث المشاركين/ات، تبين أن هناك من كان يحب المعيشة والبقاء في الخليج لأنها تُقدم لهم حياة مرفهة وأسهل أكثر من العودة لمصر، وهناك أشخاص حدث لهم أشبه بانشطار في الهوية، فهم يُعاملون كمصريين في السعودية مثًلا وسعوديين في مصر. وهناك من لا يشعر بالتأقلم لا في مصر أو الخليج. دليل “مريم” الفني بالمعرض ليس تعبيرًا عن نوستالجيا وحنين للعودة للخليج، ولكنه تعليق ساخر بأن خيار الرجوع ليس سهلاً، وليس خياراً أصلاً في كثير من الأحيان.
بعد خروج المشروع للنور، كيف ترك أثره عليكِ؟
المشروع عن علاقتي بأبي في ضوء تجربة السفر للخليج، وليس تجربتي الشخصية لأن الـ 18 عامًا التي عشتها بالسعودية لا أتذكر منها الكثير، وهذا عامل مشترك مع الكثير من المغتربين. من خلال هذا المعرض، تمكنت من رؤية تجربتي بأنها جزء من شيء أكبر، من تجربة مشتركة. تلك التدوينات المكتوبة أو التسجيلات عبر الـ Walkman التي عبر فيها الزائرين عن تجربتهم هي عمل فني في حد ذاته. تأكدت إن جَميعُنا كنا بحاجة ماسة لهذا المشروع، والدعوة للحديث والتفكير لأول مرة عن تجارب وحكايات مر عليها سنين، ولكنها لازالت عالقة في الأذهان والوجدان وآثارها واضحة علينا حتى اليوم. المشروع كان فرصة للتعبير عن مشاعرنا حول تجربة الغربة بشكل صادق.