القدس، غزة، الضفة والداخل: كيف توحد الكل الفلسطيني في مواجهة الاستعمار والتهجير

DSC06122

مع نكبة عام 1948 وقيام إسرائيل، تم تهجير 750 ألف فلسطيني وفلسطينيّة من بيوتهم وأرضهم. في الوقت الذي هُجر أكثر من نصف السكان الفلسطينيين من وطنهم الأصلي، بقي النصف الآخر في فلسطين، وكل من بقي داخل حدود عام 1948 أصبحوا فلسطينيين يحملون الجنسية الإسرائيلية، ويطلق عليهم عمومًا اسم فلسطينييّ 48، ويختزلون استعماريًا بـ “عرب إسرائيل.”

بالنسبة للمجتمعات العالميّة الغربية، ربما بدا الأمر كما لو أن هذه المجتمعات الفلسطينية كانت “محظوظة” بما يكفي ليصبحوا مواطنين، إلا أن هذا الادعاء أبعد ما يكون عن الواقع. منح هذه الجنسيّة كان منوّط بحكم  عسكري إسرائيلي استمر من عام 1948 حتى نهاية عام 1966. هذه الفترة هدفت بشكل استراتيجي إلى تفكيك وتفتيت المجتمعات الفلسطينية التي بقيت في فلسطين. سيطرت إسرائيل بشكل متعمد على حركة السكان، ومنعت الاتصالات مع التجمعات الفلسطينية خارج حدود أراضي الـ 48، وقيّدت عمليّة تكوين الروابط بين المناطق الفلسطينية في الداخل المأهولة الثلاث وهي النقب في الجنوب، ومنطقة المثلث في الوسط، والجليل في الشمال.

Videos by VICE

استمر فلسطينيو 48 في مواجهة التهجير القسري، حيث طُرد العديد من منازلهم لصالح عائلات يهودية ستقيم في هذه البيوت الفلسطينية لاحقًا، وكان العنف والقمع الممنهج جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية. حوادث مثل مجزرة كفر قاسم عام 1956، حيث قُتل 49 فلسطينيًا وفلسطينيّة بالرصاص وهم في طريق عودتهم من العمل، والمصادرة الاستعمارية للأراضي في عام 1976 وقتل 6 متظاهرين في يوم الأرض الفلسطيني، وقوانين تمييزية أخرى.

لا يزال المجتمع الفلسطيني يواجه الآثار النفسية لبنية احتلال استيطانية تسعى إلى شيطنة الهوية الفلسطينية واختزالها مفاهيمياًّ إلى أقلية “عرب إسرائيل”

لا يزال المجتمع الفلسطيني يواجه الآثار النفسية لبنية احتلال استيطانية تسعى إلى شيطنة الهوية الفلسطينية واختزالها مفاهيمياًّ إلى أقلية “عرب إسرائيل” باستخدام المواطنة أو الجنسية الاستعمارية كأداة للإقصاء بدلاً من إدماجهم – مما يؤدي إلى تحريف شعور الفرد بالانتماء، وقبول الذات، داخل الجماعة الفلسطينية الأعم والأشمل.

لفترات مختلفة من تاريخ فلسطين الحديث، لم يتمكن فلسطينيو 48 من المشاركة بشكل جماعي متكامل في العمل الاجتماعي والسياسي والمناهض للاستعمار، بسبب الازدواجية البارزة لكونهم فلسطينيين تم تمييزهم استعماريًا عن الفلسطينيين الآخرين، وبسبب التهديدات المستمرة بنقل السكان الفلسطينيين للضفة الغربية، أي سلب حريّات اضافيّة منهم – وهو الاقتراح الذي دخل في مناقشات أوسع مؤخرًا في خطة الضم التي اقترحها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. لقد منع الخوف واليأس واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) العديد من فلسطينيّ 48، وخاصة الأجيال الأكبر سنًا، من الانخراط في التحركات التي حدثت في غزة والقدس والضفة الغربية، ولكن ما حدث خلال هذه الانتفاضة بالذات والتي انطلقت من حي الشيخ جراح في القدس المحتلة والعدوان الإسرائيلي على غزة والمظاهرات في الضفة المحتلة والداخل، تجلت الوحدة الفلسطينية بشكل مختلف.

في هذه الأحداث الأخيرة في فلسطين، ناقشت وسائل الإعلام العالميّة، وحتى حركات اليسار الغربي، الأحداث من خلال منظور two sides – إسرائيل وفلسطين، مع تحويل الحديث عن فلسطين حصريًا ليصبح محصوراً في الحديث عن حماس في غزة فقط، واحياناً حي الشيخ جراح في القدس المحتلة. ومع ذلك، فإن الشيء اللافت للنظر في هذه الانتفاضة الفلسطينية بالذات هو القوة الموحدة والمشتركة للفلسطينيين.

الأحداث الأخيرة كما أشرت بدأت تتشكل مع قضية حي الشيخ جراح، وهو حي يقع في القدس الشرقية المحتلة يواجه التهجير القسري منذ سنوات مثل العديد من القرى والمدن والتجمعات الفلسطينية الأخرى. 12 عائلة، إلى جانب عائلة الكرد في القدس (التي كان أفرادها يغطون الأحداث بشكل مستقل في وسائل الإعلام). كانت مجتمعات الشيخ جراح تتظاهر بشكل سلمي أمام منزلهم الذي انتزع منهم بالقوة، وهو منزل تسكنه الآن عائلة أمريكية من المستوطنين تدّعي ملكيتها للأرض.

تم تنظيم الاحتجاجات يوميًا، ولا تزال مستمرة منذ أشهر، نظرًا للحقيقة أن 4 عائلات لا تزال تنتظر أمرًا من المحكمة العليا الإسرائيلية الذي سيقرر مصيرهم بالتهجير القسري. وبالطبع، غالبًا ما يتم اختراق، مهاجمة وتفكيك كل هذه الاحتجاجات من خلال عنف الشرطة الموجه ضد الفلسطينيين المقيمين في القدس.

وحّدت الحراكات الكويريّة والنسوية، وحركات الشباب، والكشافة -الفلسطينيون ككل- قواهم للاحتجاج على التهجير القسري غير العادل

بالتوازي، واجهت المجتمعات الفلسطينية في يافا موجة أخرى من سياسات لاستطباق وتبديل السكان  الاستيطانية، التي نفذتها شركة عميدار العقارية المملوكة للدولة. ما واجهته يافا على مر السنين، إلى جانب أنه مؤلم وصعب، فهي لا تزال تحمل عظمة وجمال ما كانت ذات يوم مدينة عربية حضرية عالمية ساحلية شامية، ومع ذلك فهي شبه خالية من سكانها الأصليين. شركة عميدار هي مثال على سياسات التهجير ووواحدة من عوارض  الاستعمار الاستيطاني. وبطريقة مماثلة تقريبًا، يواجه فلسطينيو 48 في يافا واقعًا مشابهًا لواقع المقدسيّات والمقدسيين في الشيخ جراح.

DSC05271-2.jpg

العديد من العائلات في يافا كانت تنتظر تهجيرهم القسري في مايو أيضًا، وتعمل بلا كلل على إيجاد طرق لمنع حدوث ذلك. تم تنظيم العديد من الاحتجاجات السلمية في جميع أنحاء فلسطين للتضامن مع إخواننا وأخواتنا المقدسيين واليافاويّات يوم الأحد، 9 مايو، خرجنا إلى الشوارع في حيفا، عكا، يافا، الناصرة واللد، مع العديد من المجتمعات الأخرى من فلسطينيّ 48 الذين انضموا إلى الحراك الوطني. وحّدت الحراكات الكويريّة والنسوية، وحركات الشباب، والكشافة – أو ببساطة- الفلسطينيون، قواها للاحتجاج على التهجير القسري غير العادل لمجتمعاتنا المختلفة والاستيطان المستمر لأراضينا وأرواحنا.

رفعت شعارات التضامن مع كولومبيا والجزائر عالياً، وترددت صدى هتافات التحرير والوحدة بين المنازل وفي الشوراع، ولكن الشرطة ردت بالعنف. في حيفا تم تطويقنا من جانب قوات الجيش الإسرائيلي لمنعنا من التحرك أو السير، وتم الاعتداء على عدد من الشباب، وضربهم بشكل مبرح، وتوسع العنف والاعتقالات، بينما وجدت الرصاصات الفولاذية المغلفة بالمطاط طريقها لإيذاء عيون وأطراف بعض المتظاهرين. ثم ادركنا: نحن نتعرض للهجوم.

تم اعتقال الكثير من الشباب في الداخل دون أي دليل قانوني يشرح سبب هذه الاعتقالات، ونُقل آخرون إلى المستشفيات. بسبب الغضب والتصميم على مواصلة الحشد، قمنا بتنظيم مظاهرة سلميّة أخرى لمقاومة العنف. 11 مايو، بعد يومين من المظاهرة الأولى، نزل مئات الفلسطينيين والفلسطينيّات إلى الشوارع في كل قرية ومدينة فلسطينية تقريبًا لاستئناف معركتنا، وكانت مجموعات من المسلحين الإسرائيليين الذين تحميهم قوات الشرطة الإسرائيلية بانتظارنا. هوجمنا بالقنابل الصوتية، والرصاص المطاطي، وتعرضنا للضرب المبرح، وتم رشنا بالغاز المسيل للدموع والمياه العادمة. وجد الفلسطينيون أنفسهم محاصرين في شوارع مكشوفة أثناء تعرضهم للهجوم.

أصبحت الشوارع منطقة حرب، حيث بدأ الجيش الإسرائيلي والشرطة والمدنيين المسلحين بتنفيذ اعتداءات على المارة وإطلاق النار على فلسطينيين كانوا يحضرون الصلاة واقتحام منازل للاعتداء على عائلات بأكملها، وقام مستوطنون بمهاجمة منزل لعائلة فلسطينية في حي العجمي بيافا بزجاجات حارقة مما أدى لإصابة طفلين بحروق. وكانت هناك خطط للاعتداء على 7 منازل إضافية. وتم وضع علامات على شقق فلسطينية في أحياء مختلطة لتمييزها عن تلك اليهودية استعدادًا لاعتداءات مستقبلية.

في المقابل، خذلت وسائل الإعلام والحكومات الدولية جميعًا الفلسطينيين في تغطية الأحداث وإدانتها وتقديمها، بينما فشل العديد ممن فعلوا في استدعاء الوضع ووصف الموقف على ما هو عليه. في الواقع، عبّرت الحكومات الغربية مثل فرنسا وألمانيا والنمسا عن دعمها لإسرائيل في هذه الأوقات الحرجة للفلسطينيين، رافضة تمامًا أي دعم لنا، وأظهرت صراحةً أنه لن يتم تحرير فلسطين مع “حسن نيّة” موافقتهم.

نهج وسائل الإعلام الإسرائيلية في تأطير الأحداث، والذي لم يكن مفاجأة للفلسطينيين، هو تحريف الحقائق بالكامل، تغطية صفرية للاعتداءات على الفلسطينيين. المرة الوحيدة التي ظهر فيها فلسطيني على الشاشة كانت في البث المباشر للقناة 11 الإسرائيلية، حيث كان إسرائيليون يقتلون فلسطينيًا لا حول له ولا قوة في بات يام (جنوب يافا) بعد أن تم جره من سيارته دون تدخل من أي فرد على الرغم من وجود المراسلين وشرطة الاحتلال الإسرائيلي.

وجد فلسطينيو ٤٨ أنفسهم فجأة كأهداف رئيسية لجماعات متطرفة وقوات الشرطة الإسرائيلية، مما يؤكد مرة أخرى طبيعة حالتهم “كمواطنين” مُستَعمرين. أُدخل فلسطينيون غير مسلحين ومتظاهرين سلميًا إلى السجن لأسباب لا أساس لها من الناحية القانونية، بينما لم يتم توجيه الاتهام حتى إلى مدني إسرائيلي أو ضابط شرطة واحد، أو حتى التحقيق معه.

DSC06061.jpg

غالبًا ما تكون المجتمعات الغربية مهووسة بمناقشة النضال الفلسطيني من أجل إنهاء الاستعمار في إطار ازدواجية حماس ضد إسرائيل. لكن أسئلتنا هي، لماذا تناقش هذه الوسائل الإعلامية والحكومات الأمور الفلسطينية فقط عندما يتم قصف غزة المحاصرة؟ لماذا تعتبر ازدواجية القوة هذه منطقية في حين أن إسرائيل هي القوة العسكرية التي تمولها الولايات المتحدة والتي تحتل مجتمعًا المُهجر والمشتّت؟

لماذا يتم اختيار سردية حماس ضد إسرائيل في حين أن فلسطين لا تقتصر على غزة، وفي حين أن فلسطينييّ 48 يواجهون باستمرار الاضطهاد الاستعماري نفسه؟ ولماذا يخاف المجتمع الدولي من التعبير عن انتقادهم لإسرائيل، في حين أن العديد من الجاليات اليهودية في جميع أنحاء العالم تعلن بوضوح أن الصهيونية لا تعكس القيم اليهودية؟

إن ما يحدث اليوم في فلسطين هو وحدة جماعية ملهمة، حيث وحد كل فلسطيني قواه لضمان سلامة وأمن شعبنا. الأطباء والمحامون والفنانون والسائقون والمعلمون نساءً ورجالاً ومنظمات الأنشطة الاجتماعية اتخذوا جميعًا أوضاع نشطة ومستقلة لمحاربة القمع سلميًا، بدون قيادة، فقط الشعب. هذه الوحدة الجماعية، فضلاً عن العنف الذي واجهته، لم يسبق لها مثيل في فلسطين، ومع ذلك يشعر الكثير منا أن هذا هو في النهاية علامة فارقة في عملية إنهاء الاحتلال المستمر لشعبنا.

فلسطينيو 48 كانوا يمرون بعمليات فردية وجماعية لقبول الذات والتمكين الذاتي، ليعيدوا التأكيد بصوت عالٍ على أنهم لم يعودوا يقبلون التسمية الاستعماريّة بـ “عرب إسرائيل” وإنهم ينحازون تمامًا إلى النضال الفلسطيني الأعم والأشمل من أجل إنهاء الاحتلال.

إن مشاهدة الفلسطينيين وغير الفلسطينيين على حد سواء وهم يثورون في جميع أنحاء العالم لإدانة إسرائيل، فضلاً عن إظهار التضامن مع الفلسطينيين والفلسطينيّات في وطننا، قد رفع كل الهمم والمعنويات وأشعلها بأمل هائل في التغيير. أخذ النشطاء والحلفاء الفلسطينيون على عاتقهم توثيق وجمع وكتابة الروايات المهملة على نطاق واسع التي غالبًا ما يتم التلاعب بها وذلك من أجل تسليط الضوء على أصوات المضطهدين وتعظيمها. بدأ الخطاب العالم حول فلسطين في التحول، ولم يعد ينظر للفلسطينيين دوليًا على أنهم مجموعة عرقية محاصرة فيما يسمى بالأراضي الفلسطينية.

لأول مرة منذ فترة طويلة، يُنظر إلينا على أننا عناصر فاعلة في تشكيل رواياتنا، كمجتمع وطني أصلاني موحد يسعى للتحرر.