“وأيه يعني .. عادي” جملة تختصر مشاعري تجاه ما يجري في العالم وعدم تعاطفي مع أزماته، فدموعي التي كانت تنهمر مع كل حادث أقرأه أو أشاهده، بدأت في النضوب. ومع سرعة انتشار السوشيال ميديا ووصول الخبر إلينا في لحظات، صار جلوسي أمام صفحة تويتر لمدة ١٠ دقائق ينحت وجه كائن بليد الحس مع كل تكرار لإحدى هذه الأزمات، فأقول لنفسي: وأيه يعني .. عادي!
لقد أصبحت منصات التواصل الاجتماعي، منذ العقد الماضي، نسخة مُحَدَّثة من نشرات الأخبار التليفزيونية والصحف في نقل الأخبار السلبية وصناعة شعور الاعتياد والألفة مع مشاهدة مناظر القتل والتفجير والدم، فصِرتُ مثل الزومبي الذي يقتات على الدماء دون شعور بألم أو لذة، وأصبحت أفلام الميلودراما تؤثر في نفسي وتدر الدموع مني أكثر من حرب دائرة لسنوات. بل أن هستيريا الضحك أصابتني، ذات مرة، لعدة دقائق عندما شاهدتُ أزمة معتادة في منطقتنا المحروسة، فربما سخر اللاوعي وقتها من حقيقة أننا مازلنا نبتكر للقتل مبرراً أخلاقيًا، وللحروب حُجة وطنية، وللفساد والقهر مخرجـًا دينيـًا. وكما يهتف الناس بحياة قيصر بعد بكائهم لموت آخر، دائمـًا ما تحل قضية مكان شقيقتها. فاليوم انفجار بيروت، وأمس جرائم العنف ضد المرأة، وقبلها خطط الضم في فلسطين وحصار غزة، والحروب في اليمن وسوريا والقائمة تطول.
Videos by VICE
في كل مرة أشارك الصور والقصص التي تتعلق بهذه الأزمات عبر وسائل التواصل، ويغمرني الاهتمام والإيمان بقيمة القضية وعدالتها وماتعنيه لي، دون اكتراث بمتابعين أو إعجاب، أشعر أن هذا الاهتمام يختفي خلال أيام، رغم تكرار محاولاتي للحفاظ على هذه الروح الثائرة، ويصيبني اليأس أو الإحباط، لأن قضايانا لا تنتهي، ولا يبدو أننا نمشي خطوة واحدة للإمام، مهما حاولنا. حتى الهلع الذي أصاب الكثيرين في بداية جائحة الكورونا، بعد أن كانت منشوراتهم تُغرق صفحتي يوميـًا، أصبح الآن الحديث عن الفيروس المستجد كاحتساء القهوة أثناء الاستماع إلى صوت السيدة فيروز في الصباح.
لا شك أن للهواتف الذكية دور كبير في فقد الإهتمام بسرعة. لدينا هذه الهواتف في أيدينا لمدة ٢٤ ساعة، أصبح اتصالنا بالعالم دون فواصل، على عكس حياة كثيرين في تسعينات القرن الماضي مثلًا، عندما كنا نشاهد نشرة أخبار لمرة واحدة، ثم ننفصل عن العالم حتى صباح اليوم التالي لنقرأ الصحف ونستمع للإذاعة.
خلق الفعل الافتراضي اعتيادًا أو تطبيعـًا، لكنه لم يصنع مجهودًا أو تغييرًا حقيقيـًا على الأرض، بل حقق انفصالًا عن العالم
يفسر الدكتور عمرو علي، الباحث في علم الاجتماع والمحُاضِر بالجامعة الأمريكية في القاهرة، هذه الظاهرة في إطار الاستنزاف الذي نتعرض له بعد المرور على صفحات السوشيال ميديا، فيظل كل منا يمر بعينيه على الأخبار إلى ما لانهاية فيما يسمى Doomscrolling وهو المرور أو التحرك (لأسفل أو أعلى) على صفحات الإنترنت أو التطبيقات بشكل لا نهائي لقراءة الأخبار السيئة التي لا يخلو منها عالمنا العربي. والمتابع للأخبار في منطقتنا الميمونة خلال الأعوام القليلة الماضية وتفاعل الجمهور على السوشيال ميديا، ربما يلاحظ نمطـًا أو نموذجـًا متكررًا، يتعلق بقضايا الشأن العام، يبدأ على الإنترنت بمنحنى ثوري جامح لمدة زمنية ما، ثم يعدو المنحنى في الهبوط حتى مستوى العادية والاعتيادية normalization.
متابعة كل ما يجري في العالم من مآسي وحروب وظلم وقتل وعنصرية.. قد ينتج عنه الإصابة بأحد الأعراض المرضية المعروف باسم Outrage Fatigue، أو الإعياء الناتج عن الشعور بالغضب المرتبط بإحساس الفرد بالضعف واليأس وعدم القدرة على مساعدة غيره ممن يعانون القهر والظلم، لا سيما مع كثرة الأخبار وكثافتها على منصات التواصل الاجتماعي.
الإعياء الذي أصاب عددًا كبيرًا منا بعد أن كان نشطـًا/ غاضبـًا/ متحفزًا، نتج عن وصولنا لـ ceiling effect، أثر الوصول للسقف، فالنشاط الذي قد يتمثل في الغضب ضد الظلم والفساد يصل لسقف معين، ولن يؤثر فيه أي عوامل أخرى بعد ذلك. في تلك اللحظة نقع فريسة للإعياء وعدم الرغبة في التفاعل والمشاركة على السوشيال ميديا، فنختفي لساعات وربما لأيام أو أسابيع. قد نجد لهذا الفعل الإنساني تفسيرًا في نظريات علم النفس والإعلان والإعلام التي تحدثت عن التكرار وأثره على تغيير السلوك والنفس البشرية، وكيف أن تكرار صورة أو كلمة ما لعدد من المرات يحولها لواقع، وهذا الواقع يصبح بمرور الوقت مألوفـًا وعاديـًا بالنسبة للشخص -حتى أن الحديث عن بعض القضايا مثل العنف والعنصرية والتمييز باعتبارها جريمة، تصير مع الإعلام التقليدي ومن ثم السوشيال ميديا مجالًا عاديـًا للتبرير.
القضية الأخرى هو أن التعبير الفردي عن المشاعر، على منصة إلكترونية، قد يتسبب في تفتيت المجهود الجماعي الذي يمكن تكريسه من أجل قضية ما، ويصبح مثل العاصفة التي لا طائل منها أو ما يسمى Shitstorm كما وصفها المفكر الكوري الألماني بيونج تشولهان والذي يرى أن البشر الرقميين أو Homo digitalis رغم قدرتهم على التحرك في العالم الافتراضي، لكنهم لا يستطيعون تكوين حركة فاعلة على الأرض.
“في عصر السوشيال ميديا أصبح من الصعب الفصل بين الأشياء، فصار مثلًا العمل من المنزل لا ينفصل عن المكتب، كذلك المشاركة الجماعية للمنشورات على السوشيال ميديا أصبحت نوعـًا من النشاط الاجتماعي أو السياسي activism، فخلق هذا الفعل الافتراضي اعتيادًا أو تطبيعـًا، لكنه لم يصنع مجهودًا أو تغييرًا حقيقيـًا على الأرض، بل حقق انفصالًا عن العالم؛ لأننا على الشاشة لا نتعامل مع أشخاص أو قضايا حقيقية بل مجرد تمثيلات representations،” يضيف الدكتور علي.
من المهم كذلك أخذ استراحة من كل هذا العالم الافتراضي لاستعادة أنفسنا
ربما واحدة من التحديات الأساسية التي تواجه بعض المستخدمين على السوشيال ميديا يتجلى في سرعة فقدناهم للجمهور الذي تأسس بعد قضية مهمة. يرى الدكتور علي أن المهتمين بالعمل الحقوقي والسياسي عليهم أن يعوا “موسمية القضايا المجتمعية” وأنه من الصعب لقضية ما أن تبقى أو تسيطر كما الحال مع الصحافة التقليدية. فمع وقوع حادثة كبرى ينصرف الناس إليها، وتصبح قضية الأمس في الهامش حتى لو كانت قضية خطيرة يجب حلها فورًا. فالبشر من الصعب أن يبقى تركيزهم منصبـًا على قضية واحدة فقط طول الوقت.
فلسطين تشكلت في المخيلة الشعبية والمرجعيات الأخلاقية كمثال عن التطهير العرقي والاستعمار في أسوأ أشكاله، الحرب في اليمن وسوريا، هي وجه لبشاعة الأنظمة القاتلة، انفجار المرفأ في لبنان هو مظهر للتعبير عن فساد النخب والمؤسسات في الدولة، وجريمة الفيرمونت هي تمثيل لحجم انتشار العنف ضد المرأة. هذه القضايا من ظلم وتهجير وفساد ولجوء مستمرة منذ سنوات وسنوات، بحيث أصبح الحديث عنها قالبًا جاهزًا، يخلو في كثير من الأحيان من أي مشاعر أو رغبة حقيقية في التغيير.
في ظل تكرر الحوادث والمآسي في العالم العربي، يعتقد الدكتور علي أنه فمن المهم “تقليل الاعتماد على شخصية الشرير الواحد” حيث نشير لشخص ما أنه الشيطان، وبمجرد أن نصل للجاني ينتهي الأمر؛ لأن الهدف المباشر تحقق، مما يضعف القضية. يضيف: “يجب أن نضع القضية في سياق أكبر، مثلاً أن تكون عن العنف الجسدي والجنسي مثلًا، أو أن تكون قضية ذات بعد إنساني وأخلاقي، هكذا تصبح الفكرة في المقدمة وليس الأشخاص.”
يشير الدكتور علي على أهمية الإبقاء الأمل على الرغم من كل شيء، لأن عدالة القضية وإنسانيتها يساعد في نجاحها وتحقيق أهدافها: “الاستمرارية والمرونة عناصر أساسي لأي حركة كي تبقى مؤثرة، وليبقى الإهتمام حقيقياً وهادفاً.” ولكن من المهم كذلك أخذ استراحة من كل هذا العالم الافتراضي لاستعادة أنفسنا: “علينا أن نحصل على استراحة من وسائل التواصل بين فترة وأخرى. علينا الابتعاد كي نستطيع استعادة طاقتنا للعمل من جديد.”