من سائق أجرة في المنفى إلى كاتب يحتفى به

نشرت هذه المقالة في الأصل على موقع Vice.com

يعيش أسامة العمر، على أكثر من مستوى، الحلم الذي رافقه منذ سنوات المراهقة. في أبريل، صدر للمؤلّف المولود في سوريا مجموعته القصصية الثانية، “أسنان المشط” (قصص قصيرة جدّاً) نالت تقييماً نقدياً إيجابيّاً. بعد سبع سنوات من العمل كسائق أجرة بدوامٍ كامل في شيكاغو، يعيش العمر حاليّاً ككاتب مقيم في جمعية “مدينة اللجوء” غير الربحية في بيترسبرغ، وتهدف لـ “توفير ملاذٍ للكتّاب والأدباء المعرّضين للخطر” ليتمكّن من تكريس سنة كاملة من حياته للكتابة فقط. “أردت أن أبني اسمي ككاتبٍ هـنا في الولايات المتحدة” يعبر العمر عن رغبته بالانتقال إلى أميركا من سوريا ويضيف: “كنت أبحث عن الحرية، وبصراحة شعرت بالحرية بمجرد وصولي إلى هنا”. وعند سؤاله إذا ما زال يشعر بذلك، يضحك قائلا: “بعد ترامب، ليس فعلاً.”

Videos by VICE

جلسنا في مطعمٍ آسيوي في تشيلسي، بالقرب من حديقة هاي لاين. لم ألتق بالعمر أو أتواصل معه مسبقاً، لكن بصفتي كاتب آخر للقصص القصيرة، أعجبت بأعماله لسنوات وراجعت “أسنان المشط” لصحيفة “نيويورك تايمز.” ولـد العمر في دمشق في العام 1968، وهاجر إلى الولايات المتحدة في العام 2008، وبالتحديد إلى شيكاغو حيث يعيش مع بعض من أقاربه. خلال ساعات عمله الطويلة كسائق أجرة بدوامٍ كامل (بين 9 إلى 10 ساعات)، كان العمر يخربش القصص على دفترٍ في وقت الفراغ بين توصيلات الزبائن. لم تحكي القصص يوماً عن عمله اليوميّ. يقول العمر: “في السنوات السبع الأخيرة، لم أستطع كتابة كلمةٍ واحدةٍ عن تجربتي كسائق أجرة، لأنّني لم أحب هذا العمل إطلاقا. بالنسبة لي، لم يكن هناك أيّ نوعٍ من الإلهام في هذا العمل، لم يكن إلّا إذلالاً يوميّاً.”

تخلط قصص أسامة الغامضة والخاطفة بين الحكم المأثورة، والحكايات الرمزية ذات المغزى الأخلاقيّ، والحكايات الخيالية، وكثيراً ما تشخصن أغراضاً منزليةً وحيواناتٍ للتعليق على السياسة الحديثة وحال الناس. (نشرت أربعٌ من قصصه على موقع VICE.com في 2015) يمكن أن تكون القصّة قصيرةً لا تزيد عن جملةٍ أو اثنتين. هذه أحد القصص وتدعى “قوّة”:

أتمدّد على ضفّـة النهر مستمتعاً بالنسمات اللطيفة. على بعد بضعة أمتارٍ مني، ريشة، مدفوعة بعنفٍ في كلّ اتجاه، كانت تلعن العاصفة.

وهذه قصة أخرى تدعى “انتخابات حرّة”:

عندما أعاد العبيد انتخاب جلّادهم من تلقاء أنفسهم تماماً وبدون أيّ ضغطٍ من أيّ أحد، أدركت أنه ما زال من المبكّر جداً الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.

“لقد كانت لحظةً فارقةً في حياتي” يقول عن قراءته للكاتب اللبنانيّ الأمريكيّ الشهير جبران خليل جبران:”لقد غير نظرتي لبعض الأمور”. بعد قراءة جبران في سنّ الثالثة عشرة، أدرك أسامة بأنه يريد أن يصبح كاتبا، “حتى وإن صرت فقيراً جداً، لا أهتمّ بذلك. أريد أن أكون نفسي، بغضّ النظر عن المال” على حسب تعبيره.

الطريق من دمشق إلى مبنى تجمّع يادو، وهـو فنان زائر هناك، لم يكن سريعاً ولا سهلاً بالنسبة للعمر المغترب أصلاً. بالرغم من أنه حقّق النجاح وقام بنشر كتابه في الشرق الأوسط، إلّا أنه جاهد لسنواتٍ ليتمكّن من نشر أعماله في الولايات المتحدة، بالرغم من وجود وكيلٍ له (دينيس شانون، الذي يمثّـل ليديا ديفيس، كاتبة أخرى للأعمال القصيرة جداً والتي كانت بطلةً أولى لكتابات العمر) يقول: “ربما هـناك الكثير من المنافسة. هـناك الكثير من الكـتّاب. إنها دولة كبيرة جدّاً.”

بعدما ترجم كتابه الأوّل إلى الإنكليزية، نشـر كـتيّباً لصالح شركة النشر نيو دايركشنز بعنوان “عربيّ الدّم في عام 2014 ووجد أسامة أنه من الأسهل أن تـنشـر أعماله في المجلاّت، ذلك الكتاب، إلى جانب “أسنان المشط”، ترجمه سي جاي كولينز الذي يصفه أسامة بـ “أعزّ أصدقائه.”

يعدّد أسامة قائمةً منتقاةً ممن تأثّـر بهم، مع أنه لا يستغرب أنّ كثيرٍ منهم مـؤلّفون فضّلوا الشكل القصير-الخيال الخاطف، الحكمة المأثورة، الخـرافة. فرانز كافكا، إيرنست هيمنغواي، إيسوب، أرثر ريمباود. كونه ابن لبروفيسور في الفلسفة، تأثر أسامة كذلك بجان جاك روسو، سان سيمون، فريدريك نيتشه، وآرثر شوبنهاور الذي يعزى له الفضل في “أسلوبه الشعريّ.” اهتمام أسامة بالحكايات الرمزية ذات المغزى الأخلاقيّ كان جمالياً وعملياً: “أحبّ هذا النمط لأنّ هناك الكثير من الخيال” يقول فيما نسير على الممرّ السريع المطلّ على شوارع نيويورك الصاخبة الفوضوية، “حيوانات، أغراض، حشرات، جميعها إسقاطات دائمة على البشر. تنال غالباً أكثر من تفسير واحد.”

هذا الاسلوب المجازيٍّ ساعده في تجنب الرقابة، أو ما هو أسوأ من الحكومة السورية. أكثر أعماله نشرت في لبنان لأنّ الاستخبارات السورية “تتحكّم بالثقافة والفنّ وكلّ شيء”، بحسب تعبيره. “اثنان من أصدقائي كانوا كـتّاباً. كانوا أكثر جرأة ًمني. ولاحقاً اختفوا. وعلمت لاحقاً بأنهم اعتقلوا من قبل الاستخبارات السورية، وتمّ تعذيبهم. لا أعلم مكانهم اليوم. لا أعلم إن كانوا على قيد الحياة أم لا. حصل ذلك قبل الثورة، قبل الحرب،” يقول العمر أنه لا يريد قول المزيد عنهم بما أنه لم يكن متأكداً ما إذا كانوا أحياء أم لا.

في العام 2011، بضعة أعوامٍ بعد وصول العمر إلى الولايات المتحدة، بدأت الحرب الأهلية السورية. في العام 2014، دمّرت الشقة التي احتفظ بها في دمشق لأنه أراد أن يتنقل بين هـنا وهناك، وخسـر كلّ مـقتنياته ومخطوطاته في الحطام، وعن ذلك يقول: “لقد خسرت كلّ شيء، خسرت روايةً لم تنشر وكانت جاهزةً للنشر”. (يعمل حالياً على روايةٍ أخرى، هذه المرة عن الحرب السورية). ربما ليس من المفاجئ أنّ هناك ظلاميّة في العديد من قصص أسامة التي تعكس الأوضاع في وطنه. يقول إنّ الناس سيـخبرونه بأنّ أعماله قد أصبحت أكثر كآبةً منذ الحرب. في قصصه تـداس حقوق الإنسان فيما يسير الديكتاتور من دون عوائق، كما في “منديلٍ من الحرية”:

عطـس الديكتاتور، سحـب الحرية من جيب بنطاله ونـفخ أنفه، ثمّ رماها بعيداً في سلة المهملات.

يقول العمر: “أثّـرت الحرب في سوريا على العالم برمّته. اللاجئون السوريون في كـلّ مكان. ربما في الفضاء أيضاً. لست قلقاً على نفسي، وعلى المسلمين، والمهاجرين من الشرق الأوسط وحسب. أنا قلق على العالم بأكمله. يبدو أن العالم أجمع في طريقه للكارثة. يقول البعض أنّي مـتشائم، لكنّي أعتقد أنني واقعيّ. الكراهية أكثر بكثيرٍ من قبل. وهي في جميع أنحاء العالم.”

يـلحظ أسامة ثغرةً مـتّسعةً على ما يبدو بين الشرق والغرب، وكيف أنّ هـناك القليل جداً من الاهتمام في رأب هذا الصدع: “لدينا تقنية ماديّـة عالية جداً، لكن في الوقت ذاته، ليس لدينا تقنية روحانية على نفس الدرجة. هذه هي مشكلتـنا في العالم المعاصر.” مع ذلك، فإنّ أعمال أسامة زاخرة بالفكاهة: في “النازل” يسخر مصعد من مصعدٍ آخر قائلاً: يا نازل، وسرعان ما يـجد أنّ الأدوار انعكست وكذلك الأسماء. في “لا تستسلم في قتال” يشجّع حصان برّي خرطوم ماءٍ يرشّ المزارع، سلوك هذه الحيوانات وحتى الجماد مشابه للبشر بشكل مضحك بقدر ما هو ثاقب.

ينهي العمر حديثه بالقول: “يمكن للفـكاهة أن تعطينا حصانةً نفسيةً في وجه كـلّ هذه الكراهية. أن تضحك، ذلك يعني أنّ لديك حصانةً ضدّ الكره. هذه هي مسؤوليتي بصفتي كاتب، أن أواصل الكتابة عن الحب، حقوق الإنسان، والكرامة الإنسانية. بالرغم من كلّ الكراهية في عالمنا، بالرغم من التشاؤم، مثل الكثيرين أعتقد أنّ الحبّ هو الغاية، برغم كل شيء.”