“عرفت لأول مرة أن السينما تدرس ولها كليات، من خبر في جريدة الأهرام بتاريخ 24/10/1959 عن افتتاح المعهد العالي للسينما، فما كان مني إلا أن ذهبت إلى مقره في شارع الهرم لأعرف شروط الالتحاق، وأنا بعد لا أزال طالبًا في الثانوي “.. “في هذا العام ، تغيرت حياتي تمامًا لخلافات مع أهلي، وليس مع والدتي، قررت ترك المنزل، والاعتماد على نفسي . كان ذلك في أبريل 1964، كنت طالبًا بعد في كلية الآداب، ولم أوفق في الالتحاق بمعهد السينما، فقد طردني الأستاذ محمد كريم من اللجنة . شيء لا يصدقه عقل . أنا متفتح الذهن، أفكار خان والأفلام التي يحكي لي عنها أثرت كثيرًا على تفكيري، ومع ذلك أطرد من لجنة الامتحان”
“تقدمت لمعهد السينما للمرة الثالثة، ورفضت أوراقي لأن سني في أكتوبر من هذا العام 1966 ستكون قد تجاوزت الرابعة والعشرين، وهذا مخالف لنظام المعهد كما قيل لي وقتها، ولكن للأسف كان ما سمعته كذبًا . في 1967 ربما يكون خان قد أرسل لي خطابات تفوق في عددها أي سنة سابقة . فكان يكتب لي عن مشاهداته الفيلمية بالشرح والصور، خاصة بعد دخولي المعهد العالي للسينما، و لو أنه لم يكن يحبذ فكرة تضييع أربع سنوات من عمري فيه، لأني في العام السابق كنت قد بدأت أخطو في العمل السينمائي كمساعد تصوير، وبالطبع لم أوافقه على رأيه، فأنا كنت محتاج للجزء العلمي مما يخص دراسة المعامل السينمائية والفن التشكيلي، وخلافه . ولكنه بعد دخولي معهد السينما كتب لي قائلًا : نجاحك هو نجاحي”.
Videos by VICE
قبل أن يفتح الستار
سرحت في هذه العبارات على لسان المصور السينمائي القدير سعيد شيمي، من كتابه “خطابات محمد خان إلى سعيد شيمي” الذي ضم سردًا رقيقًا لعلاقته الممتدة بالمخرج الراحل محمد خان. كنت أجلس في الصف الثاني في تلك القاعة العامرة بالترقب، وأنفاس قلقة أتخيلها لقربي من المسرح قادمة من خلف الستار. فهناك تصطف دفعة جديدة من طلاب المعهد العالي للسينما الذي يحتفل بعامه الستين. دقائق وتظهر مشاريع تخرجهم الوشيك على جمهورهم الأول، الزملاء، والأهل، والأصدقاء وأيضًا لجنة التحكيم ووزيرة الثقافة.
قليلون هم من يعرفون أنه كان على المصور السينمائي الأشهر التقدم للدراسة بالمؤسسة الأكاديمية الأعرق في العالم العربي ثلاث مرات فاشلة حتى ينجح في الرابعة. لكن الكثيرين من طلاب المعهد وغيرهم المئات من المشتغلين بالسينما أو الذين دار في ذهنهم العمل بها يومًا يحملون ذكرى ما رهيبة تتعلق بمحاولة المرور من لجنة القبول. يبقى العدد المحدود من الطلاب الذي تسعه فصول الدراسة في المؤسسة الأكاديمية الحكومية الوحيدة لدراسة السينما في مصر إشكالية عصية على الحل منذ تأسيسه ليصبح التفكير في المرور من اللجنة كالإفلات من كابوس.
تذكرت عبارات سعيد شيمي بينما انتظر أن يفتح الستار لأتأمل عيون هؤلاء الذين على وشك الخروج إلى عالم صناعة السينما الواسع والمليء بمنغصات تتجاوز بمراحل قرارات وأمزجة أعضاء لجنة القبول. كم واحد من هؤلاء الطلاب في أقسام المعهد المختلفة سيصبح سعيد شيمي آخر. ذلك الذي صبر طويلًا على لجان القبول حتى حفر لنفسه رغم صعوبات الواقع علامة راسخة في تاريخ صناعة السينما العربية. كان أكثر ما يشغلني بينما يلتقطون الصور مع الوزيرة على المسرح كيف ينظرون للمستقبل القريب جدًا.
سهى سمير.. عن تفاصيل الحياة اليومية التي يرفضها المنتجون
عندما ظهرت المخرجة سهى سمير إلى مقدمة القاعة بصحبة فريقها لمناقشة مشروعها المعروض للتو (أحمر ناري) كان من اللافت بالنسبة لي حرصها التعقيب على كل إجابة حتى عندما تكون الأسئلة موجهة لمهندس الديكور، أو مدير التصوير. لكن عندما التقيتها في استراحة العروض أدركت سر اللهفة. لا تكتفي سهى بكلمة “مبروك الفيلم” التي أقولها لها بوازع التحية فكأنها تقرأ ما يدور في ذهني “كنت مرعوبة” تقول فأشرح لها أن الرعب هو ما أبعد ما يمكن وصفها به خلال المناقشة. تضحك بينما توزع إشارات التحية على زملائها ردًا على مباركاتهم.
“كنا نتنقل مع والدي بين مدن القنال لعمله في هيئة قناة السويس، معزولين عن عالمنا الواسع في القاهرة. ولم يكن هناك مجال للترفيه لنا أنا وأخي سوى الأفلام. عشقت أفلام الأبيض والأسود وخاصة أفلام فطين عبد الوهاب، ربما هو السبب في حلمي بأن أكون مخرجة”. لكن كالعادة عندما يتحول الغرام إلى رغبة في الفعل يسمح الوالد لشقيقها الالتحاق بمعهد السينما دونها “رفض رغبتي فلم يكن أمامي سوى دراسة الأدب الإنجليزي بكلية الآداب”.
تحدثني سهى عن ابنتها التي تبلغ 16 عامًا “كل أبطال الفيلم من الأطفال هم أشقاء وأقارب لأصدقاء وصديقات ابنتي في المدرسة. فيلمي يحكي عن السرطان، لكن من زاوية التفاصيل الصغيرة التي لا ينتبه لها سوى الأطفال”. أستعيد حكاية الفيلم الحزينة عن طفل فقدت أمه شعرها الأحمر الناري بسبب السرطان؛ فقرر البحث عنه في كل النساء ليهديه إلى أمه. “عادة ما يحولون السرطان إلى حل درامي لاستعطاف الجمهور، لكنهم لا يلتفتون لتفاصيل الحياة اليومية. التفاصيل الإنسانية هو ما أحبه في السينما التي أريد أن أصنعها”.
تتحول وقفتنا على السلم إلى جلسة يشاركنا فيها العشرات هنا وهناك من الطلاب ورفاقهم ، بينما تبدو سهى مستعدة لتأمل شريط رحلتها حتى لو مع شخص تلقاه للمرة الأولى. كان فضولي كبيرًا لمعرفة كيف حافظت على الحلم كل هذه السنوات. “عندما بلغت ابنتي عمر الثانية عشرة شعرت بأنه آن أوان تحقيق الأحلام المحبوسة”، تقول بينما تنظر إلى اللا شيء رغم الزحام “تقدمت لمعهد السينما ولم أصدق أنني نجحت في المرور من أول مرة”. الاجتهاد والدأب كانا وراء حصولها على درجة الامتياز طوال سنوات الدراسة، مع ترتيب الأولى على الدفعة كما تقول بفخر. “إحنا الستات أقوياء جدًا نقع ونقوم تاني. كان همي أن أثبت لنفسي أن السينما ليست مجرد حلم قديم لفتاة مراهقة تحب الأفلام”.
يرادوني هاجس، هل تشعر سهى بالثقة في القادم خارج النطاق الآمن للمعهد. لا تخفي قلقها الذي تحاول التغلب عليه بإبعاد خصلات شعرها عن عينيها، تعود من اللاشئ إلى وجهي وكأن سؤالي أيقظها من حلم “أعرف أن الطريق في الخارج مرعب. لكن مؤكد هناك وسيلة للوصول. مثلًا المخرج أبوبكر شوقي زميلنا في المعهد الذي تخرج قبل حوالي عشر سنوات اضطر للانتظار طوال هذه السنوات العشر ليتمكن من إنتاج فيلمه الروائي الطويل الأول (يوم الدين). لكن أنظري أين ذهب بفيلمه، إلى مهرجان كان في 2018، ثم ترشح ليمثل مصر في مسابقة الأوسكار. هناك وسيلة ما بالتأكيد”. تقولها بكثير من الأمل وبعض الشك البادي في عينيها “شوفي. أملي أن أصنع أفلامًا تصل إلى الناس بسهولة من دون تعقيدات.مثلًا أثر في نفسي حضن كبير من عاملة البوفيه وهي تقول لي مبروك يا أستاذة أنا بكيت. كانت أهم مبروك سمعتها”.
تعود سهى لابتسامتها المريحة قبل أن يقترب منا فريق فيلمها والزملاء لمواصلة الاحتفاء بيومهم الكبير “أعرف أن ما أريد التعبير عنه في الأفلام ربما لا يروق للمنتجين في السوق. لكن لو تمكنت من صناعة فيلم أو فيلمين من دون تنازلات ويحبهم الجمهور، أنا راضية”.
مي بركات.. كيف يحفر النساء مواقعهم في صناعة السينما
دخلت إلى الصالة الواسعة التي تفصلنا عن قاعة العروض. كانت حكاية سهى لا تزال تتردد في خاطري بينما ألمح أصدقاء لي مجتمعين في دائرة متسعة حول مجموعة من الخريجين. من السهل تمييزهم بسبب أرواب التخرج الداكنة ذات الأشرطة الذهبية التي يبدون بداخلها وكأنهم يرتفعون عن الأرض من البهجة رغم حرارة الجو في أمسيات القاهرة الصيفية. عرفت من بينهم محمد الطحاوي، الذي عرض مشروعه (كشري مصر) قبل الاستراحة. بادرت بسؤاله “لماذا اخترت مديرة تصوير لفيلمك؟”.
كانت مديرة التصوير هي مي بركات زميلته في قسم التصوير. كان يعنيني بالتأكيد كيف ترى خريجة قسم التصوير مستقبلها في واقع يندر أن توجد فيه مديرة تصوير امرأة رغم تاريخ السينما المصرية الطويل. لكن لدي فضول لمعرفة أي قدر من الشجاعة ينطوي عليه اختيار مخرج لمديرة تصوير. فهذا اللقب ظل لسنوات طويلة حكرًا على الرجال قبل أن تكسر القاعدة نانسي عبد الفتاح، أشهر مديرة تصوير في العالم العربي.
قررت نانسي ذات يوم التوقف عن العمل كمهندسة ديكور والانتصار لغرامها الكبير بالكاميرا التي حصدت من خلالها العديد من الجوائز في التصوير الفوتوغرافي، حتى تعلقت بكاميرا السينما. اتخذت قرارًا جريئًا بالالتحاق بقسم التصوير بمعهد السينما في وقت كان القسم يخلو فيه من أي فتاة منذ تأسيس المعهد. لكنها استطاعت بجسارة أن تتغلب على شكوك رئيس قسم التصور آنذاك المصور الراحل إبراهيم عادل الذي لم يكن يثق في جدية الفتيات في الالتحاق بقسمه. استعدت بكل ما أوتيت من سابق أعمال، ومن حماس وإصرار حتى تمكنت من أن تكون الطالبة الوحيدة في قسم التصوير بالمعهد. بعدها صارت أول مديرة تصوير في السينما المصرية. ثم تحولت إلى واحدة من أشهر مديرين التصوير بداية من فيلمها الأول “في شقة مصر الجديدة” عام 2007 للمخرج محمد خان، مرورًا بالعديد من أهم الأفلام والمسلسلات التي علقت في أذهان الجمهور أحدثها “زي الشمس”، وقبل ذلك “سجن النسا”، و”واحة الغروب”، و”أبو عمر المصري”، و”ذات”، و”خلطة فوزية”. وليس انتهاء بحصولها على جائزة أفضل مدير تصوير من مهرجان دبي عام 2009 عن فيلم “واحد صفر” للمخرجة كاملة أبو ذكري.
لم تفاجئني إجابة محمد الطحاوي “أنا ومي بنشتغل مع بعض من سنة أولى، نحن متفاهمتان في موقع التصوير وهي تتمتع بقدر كبير من المسؤولية حتى عندما يتطلب الأمر التصوير في الشارع لساعات طويلة بلا انقطاع مثلما كان الحال في مشروع تخرجي”. لكن كيف يتصور الطحاوي الصعوبات التي قد تواجهها زميلته كمديرة تصوير خارج أسوار المعهد. يبتسم الطحاوي بدهشة “مي أصلًا تعمل في العديد من المسلسلات من سنة أولى معهد”.
تدخلت مي في الحوار بينما تخلع عن رأسها قبعة التخرج، مسفرة عن تسريحة أنيقة لفتاة جميلة قادمة للتو من صالون تصفيف الشعر. أتخيلها وهي خلف الكاميرا في (أوردر) تصوير خارجي تحت شمس القاهرة اللافحة. “قررت أن أتدرب على التصوير في المسلسلات منذ السنة الأولى لي في المعهد لأستزيد خبرة. مع المسلسل الثالث صار المخرجون يسندون لي مهمة أمر تصوير كامل، وهكذا أصبحت مساعدة تصوير أتقاضى أجرًا كاملًا كأي مساعد تصوير محترف”. لا تفارق وجه مي ابتسامة مرحة تدعو للتفاؤل. تتشابه رحلة مي مع نانسي عبد الفتاح في الكثير من الأمور؛ فهي أيضًا كما أخبرتني تحب التصوير منذ طفولتها، وكانت الكاميرا أهم هداياها. لم تكن بعد الانتهاء من المرحلة الثانوية تعلم شيئًا عن عالم التصوير السينمائي فالتحقت بكلية الإعلام كأقرب ما ورد إلى وعيها الصغير. فنظم التعليم في عالمنا العربي لا تتيح للصغار فرصة معرفة المجالات التي تناسبهم في عالم الدراسة الواسع. يومًا ما خلال دراستها بالكلية التحقت بدورة تدريبية قصيرة في التصوير السينمائي، وهناك تعلقت بالعالم الجديد. “منذ تلك اللحظة شعرت أنني ضيعت سنوات طويلة من عمري وصار الالتحاق بقسم التصوير بمعهد السينما منتهى أحلامي”.
انشغل الجمع المحيط بنا في الحديث عن أمور أخرى واختفوا تدريجيًا وسط زحام الحضور، بينما انتحينا جانبًا لمواصلة الحديث. تحكي مي، فتشعر أن الحماس عضو مرتبط بجسدها تراه في حركات اليد التي لا تتوقف عن المساهمة في التعبير، والأهم في حرصها الدائم على النظر في عينيك خلال الحديث فتشعر أنها لا تدع مجالًا للشك أن يتسلل إلى أحلامها مهما بدت صعبة. أحاول الولوج إلى ما خلف الابتسامة المتفائلة فأسألها عن أكثر ما يؤرقها كمصورة في وسط لا يزال رغم زيادة أعداد النساء في تخصصاته المختلفة، ذكوريًا بامتياز خاصة في مجال تخصصها. تحاول التمسك بمزاج الواثق “أنا دائمًا قادرة على عكس الانطباعات الأولى لصالحي”.
تتحدث مي عن اضطرارها لبذل جهد مضاعف لتقضى على انطباع المحيطين بها من المخرجين، ومساعدي التصوير من الرجال أنها “بنوتة” أي غير قادرة على تحمل المسئولية. أسمعها وذهني في حكاية نانسي عبد الفتاح التي اخترقت حواجز قسم التصوير بالمعهد بنفس الطريقة. “بعضهم يجد صعوبة في البداية في الثقة في امرأة خلف الكاميرا، فهو عمل شاق. لكنني أثبت أنني أكثر مسئولية حتى من زملائي الرجال” أسألها كيف؟. فتقول وقد تبدلت الابتسامة اللطيفة إلى نظرة جادة “أعمل لساعات طويلة دون توقف، أتنازل عن الاستراحات، أحمل المعدات عندما يتكاسل المساعدين، فيشعرون بالخجل من أنفسهم ويدفعهم ذلك إلى العمل معي بندية “. تشعرين أن التحامل على النفس ثمن عليك دائمًا دفعه للبقاء،والاستمرار، أسألها فتجيب بحسم “هدفي أن أكون مديرة تصوير مثل نانسي عبد الفتاح. يجب أن أثبت نفسي”. أسألها عن مدى واقعية ما تقول في ظل تراجع الإنتاج في مجال السينما والتلفزيون ومحدودية الفرص فلا تتردد في الإجابة “الدنيا هاتتحسن” . نبرة صوتها تدفعك على التصديق. نفترق، لتذوب هي وسط الجموع بينما أتلمس طريقي نحو القاعة في انتظار دفعة أخرى من عروض المشاريع.
وائل أرباب.. حلم تطوير السينما السودانية
في طريقي إلى هناك ألمح وائل أرباب، شاب سوداني نحيل هادئ الصوت، لكنه يمتلك دأبًا كبيرًا جعله معروفًا خارج أسوار المعهد قبل أن يحصل على شهادة التخرج من قسم المونتاج. عرفت وائل قبل هذا اليوم من خلال مشاركة أفلام تحمل توقيعه في المونتاج بمهرجانات مهمة. أخرها فيلم (شيكولاته داكنة) للمخرج عمرو موسى الذي حصل على جائزة لجنة التحكيم بمسابقة سينما الغد بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي 2018. وقبلها فيلم (يؤخذ عن طريق الفم) للمخرج إبراهيم عمر طالب المعهد، والذي حصد برونزية أفضل فيلم تسجيلي بمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في 2018 . لم يكن غريبًا أن اقرأ اسم وائل على ثلاثة من مشاريع التخرج المعروضة إما في خانة المونتاج أو في خانة الشكر الخاص.
اقتربت منه بينما يتلقى ملاحظات أحد أساتذة المعهد قبيل استئناف العروض. كان لدي فضول كبير لأعرف كيف يشعر في هذه اللحظة التي سعى إليها بجهد ونجاح طوال 4 سنوات. سألته إن كان لا يزال متأملًا في العودة إلى السودان لتحقيق حلمه الذي طالما حكى لي عنه بأن يكون جزء من تغيير وجه السينما في بلاده، “ربما. لا أعرف. اختلفت الأمور هناك في وقت قصير جدًا”.
تمتد رحلة وائل وصولًا إلى معهد السينما بالقاهرة ما بين مصر والسودان والإمارات وسلطنة عمان؛ فعندما أنهى دراسته الثانوية بالقاهرة كانت عيناه على دراسة الديكور بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وأمام رفض الوالد اضطر لدراسة الخدمة الاجتماعية. قرر بعدها الحصول على دبلومة في علم النفس من السودان، وهناك تعرف على عالم تصميم الجرافيك الذي انغمس في تعلمه. غادر بعدها إلى حيث تعيش الأسرة في الإمارات للعمل كمصمم جرافيك، قبل أن يقرر إنشاء شركته الخاصة بسلطنة عمان في العام 2012. بعد عامين من النجاح أصيب بحادث أقعده في الفراش طوال عام لتنتهي مغامرة الشركة ويضطر للتفكير في مجال آخر. عندما علم بفتح باب الالتحاق بالعام الدراسي الجديد بالمعهد العالي للسينما بالقاهرة، كان خياره دراسة المونتاج لأنه رأى أنه الأقرب إلى مجاله وهكذا عاد للقاهرة في العام 2015 ليبدأ من جديد.
“طالما شعرت أن عملي في مجال المونتاج في القاهرة بعد التخرج مهمة صعبة في ظل محدودية الفرص في السوق وحجم المنافسة. إنما في السودان يمكنني استغلال كل ما تعلمته هنا للمساهمة في خلق واقع مختلف أكثر احترافية عما هو الحال عليه الآن”، يقول وائل بينما احتللنا مقاعدنا في انتظار العروض. “لعل مشروعي تأجل قليلًا حتى تتضح الرؤية”. أسأله عن أسوأ مخاوفه يقول “أخشى أن أتحول إلى ترس في آلة السوق لكسب العيش. السينما المستقلة التي أحب حيث أشعر بحريتي في الاختيار لا تجد الموارد الكافية وبالتالي إنتاجها محدود، أظن أنني سأتحول بالفعل إلى ذلك الترس الذي أخشاه”. لكن يبدو في الوقت نفسه أن لديه إجابة ما “ربما لو تفهمت حكوماتنا في مصر والسودان وكل العالم العربي أهمية دعم السينما ودعم أحلام صناعها لتغير الحال. ألا يدركون أن هذا الفن على أقل تقدير سيعود عليهم بالربح”.
أفكر في السؤال بينما يجول بخاطري مجددًا كتاب “رسائل محمد خان إلى سعيد شيمي”، الحالمان اللذان صعدا على سلم أحلامهما ليصنعا ورفاقهم تيارًا سينمائيًا جديدًا غير وجه السينما المصرية لسنوات. تظلم القاعة لتضئ الشاشة الكبيرة في الخلفية إيذانًا بمشروع جديد لحالم آخر من طلاب المعهد.
يامن عبد النور.. الأمل هناك خارج الحدود
“لست هنا” كان الأول على قائمة العروض بعد الاستراحة، وهو فيلم عن شاب سوري موزع الفؤاد ما بين أهله هناك في بلاده، وما بين مصيره الحالي بعيدًا عنهم. كان فيلمًا روائيًا كباقي ال14 عشر مشروع المعروضة، لكن لا يمكنك وأنت تشاهده سوى الجزم بأنه نابع من أعماق واقع شخص ما ليس سوى صانعه. سيتحدث إليك يامن عبد النور، الشاب السوري مخرج الفيلم بود كبير وحميمية من تعرفه لسنوات. لكنه سيحدثك على عجل، فخريج قسم الإخراج بمعهد السينما الذي قدم إلى القاهرة في العام 2012 بعد علاقة طويلة بالمسرح غارق حتى أذنيه في دوامة يومية من العمل. وهو على عكس الكثيرين ممن قابلتهم من طلاب المعهد اختار العمل في مجال التعليق الصوتي لساعات طويلة لا تترك له سوى فسحة من الوقت لمتابعة دروسه ومشاريع المعهد.
في الدقائق القليلة التي أتيحت ليامن الدردشة معي قبل أن ينطلق خارجًا، حدثني عن صعوبة الانغماس في المتاح “لا أطيق العمل في السينما التجارية، ولا سبيل للمزاحمة في المجال البديل المحدود هنا” يتحدث يامن بجدية تظهر على ملامحه رغم إبقائه على الانطباع الودود؛ فهو لا يجد في البقاء هنا أو العودة لسوريا مجالًا لتحقيق أحلامه “ربما أسافر إلى أوروبا” يقول بينما تشير نبرة صوته إلى أن ذلك خياره الأكيد. لكن كيف يعرف أن الطريق في أوروبا أيسر في الوصول أسأله بينما أحاول فحص الإجابة في عينيه قبل أن ينطق بها “لدي أصدقاء كثيرين هناك. لا شيء سهل لكن المحاولة هناك قد تكون أكثر جدوى”. لا يبدو يامن متعلقًا بضمانات لكنه على الأقل مقتنع بأن البلاد البعيدة خارج الحدود العربية تقدر الفنانين بشكل مختلف “هناك يفهمون معنى دعم السينما ودعم السينمائيين” يقول بينما عيناه تتطلع للبعيد وكأنه يحاول اختراق المجال للنظر إلى الحال هناك بينما نستند إلى جدار قرب البوابة الخارجية للقاعة.
أسأله عن سبب اختياره لحكاية فيلمه (لست هنا) ليكون مشروع تخرجه، كيف اختار لفيلمه عنوانًا ينفي وجوده في المكان، بينما تبدو كل لقطة وكأنها تعبير عن وجوده الطاغي داخل الفيلم الذي اختار أن يلعب فيه دور البطولة. “لم أتخيل أن يكون مشروع تخرجي فيلمًا آخر. إنه حكايتي، وحكاية المئات من السوريين. حكاية البعد القسري والقهري والمستقبل الذي ترتبط فيه صحة التوقيع على أحلامك بالفقد. تفقد من تحبهم فلا تعرف كيف تحب ما تحب القيام به لأنك تدفع أغلى ثمن في الوجود”. أترك يامن في عجلته ليصافح المهنئين، ويستقبل الملاحظات الجانبية على فيلمه قبل أن ينطلق إلى نوبته الليلية.
مينا سعيد.. الفن في مواجهة الخوف
الخوف! الخوف من الفقد، من ضياع الأحلام، ومن الأحلام ذاتها، الخوف على البقاء ومن البقاء. هل يجردنا الخوف من إنسانيتنا أم هو جزء منها. هل هو الغريزة الأساسية التي تجمع الإنسان بكائنات ضعيفة كالحشرات.
لا أدري إن كان ذلك الافتراض الأخير هو ما دار في ذهن مينا سعيد، بينما يصنع فيلمه (فن الحشرات) لكنه استطاع باحترافية أن يضعنا جميعًا في قاعة العرض أمام صورة مكثفة من مخاوفنا. يعترف مينا أن فيلمه تجربة ذاتية لاستكشاف الخوف وهي مفتوحة على التأويل. فيلم بلا بداية ولا نهاية يغمرك حتى دون أن تدرك في المشاهدة الأولى كل تفاصيله. يقول لي مينا “الفن هو السبيل الوحيد لمواجهة الخوف، خوفي أنا على الأقل”.
لا يعتمد أسلوب مينا في صناعة الأفلام على مخاطبة المشاعر لكنه يكثف التفاصيل ويقذف بها إلى جوف عقلك ثم تنساب على مهل إلى أحاسيسك دون إقحام، تمامًا مثل أسلوبه في الكلام. يحكي لي عن كيف كان الخوف وراء رضوخه لرغبة الوالد في عدم التقدم لمعهد السينما “لأن الفن مابيأكلش عيش”، واضطراره لدراسة الحقوق التي لا تستهويه. وعن كيف تقدم للمعهد لاحقًا ثلاث مرات فاشلة قبل أن ينجح في الرابعة في المرور من لجنة القبول.
أتذكر حكاية سعيد شيمي وأجدها فرصة لأسأله عن السبب في تكرار المحاولة رغم أن المجال صار مفتوحًا على خيارات أخرى لدراسة السينما والعمل بها. ربما دارت في ذهني نصائح محمد خان لصديقه عندما قال له “لقد صرت مصورًا بالفعل فلماذا تضيع أربع سنوات من عمرك في الدراسة من جديد”. وربما كان علي أن اسأل السؤال نفسه للأستاذ سعيد. لكن مينا يجيب ببساطة “إنه الخوف. خفت من الفشل”.
مع ذلك بدا مينا الذي يحترف أيضًا كتابة الروايات جريئًا في التجريب والمغامرة في فيلمه عن الخوف؛ إذ اختار شكلًا وأسلوبًا للسرد مغايرًا لجميع أفلام دفعته. ففي حين بدت العناية بالصورة والإضاءة واحدة من سمات مشاريع التخرج الأخرى، اختار هو لفيلمه تطبيقًا إلكترونيًا يحول الصور إلى خطوط بالأبيض والأسود. وبديلًا عن استخدام أحدث الكاميرات اختار كاميرا الموبايل لتصوير فيلمه. ولم يتردد في الدفاع عن تجربته لدى القائمين على المعهد ليحظى في النهاية بفرصته كاملة في التجريب بدون ضغوط، وهي العبارة التي استخدمها نقلًا عن عميد الكلية الدكتور محسن التوني.
“أساتذة المعهد فنانين كبار، لكن الوظيفة أحيانًا ما تطغى على روح الفنان فتتحول لوائح الكلية إلى قيود تقف في وجه المحاولة والتجريب”، يحكي مينا بينما كانت عروض المشاريع قد انتهت وتشكل الجمهور الواسع خارج القاعة في حلقات لتبادل الأحاديث والتقاط الصور مع الزملاء والأصدقاء والأستاذة. “اقتنعت المشرفة على مشروعي الدكتورة مها المشري رئيسة قسم الإخراج بفكرتي ودعمتها لكن كان لزامًا علينا الحصول على تصريح عميد الكلية الدكتور محسن التوني الذي قال لي في آخر الأمر ستصنع فيلمك دون ضغوط”. ترددت كلمة ضغوط في أذني مرات وأنا أفكر في مساحات الحركة عندما تضيق في غير موضعها. يعيدني مينا إلى اللحظة الحالية “استغرقني الفيلم ذو العشرين دقيقة عامًا كامل من الكتابة والتحضير قبل أن أصل لشكل يرضيني إلى حد كبير”. فكرت أن أحد ميزات الخوف القليلة، الخوف من الفشل، هو التأني في الخطى. ربما يكون الفن مخرجًا آمنًا من الخوف كما يقول مينا، بيد أن خوفًا حميدًا قد يقرب العمل الفني من الكمال الذي يسعى اليه صانعه.
اسأل مينا عن كيف يرى المستقبل العامر بالضغوط. يصمت قليلًا قبل أن يرمي عبارة على بساطة أسلوبه في التعبير عنها بدت لي في حينها مرعبة “خايف أخسر نفسي”. يشعر مينا أن اللحظة التي سيجد نفسه فيها مضطرًا لإخراج أفلام لا تشبهه حسب تعبيره، هي الخسارة الكبرى. لكنه على الأقل يبدو متمسكًا بأمل في أن يسلك طريقًا بديلًا في مواجهة مخاوفه في عالم صناعة السينما بعد التخرج “بالتأكيد هناك أمل في أن نصنع أفلامًا بميزانيات محدودة، وأفكار وحكايات كبيرة. فالأفلام العظيمة ليست دائمًا تلك التي تعتمد على ميزانيات عظيمة. يكفي أن تعتمد الصدق وأن تكون شبه الناس، شبهنا”. اليس ذلك هو الطريق نفسه الذي سلكه قبل ستين عامًا سعيد شيمي وصديق عمره محمد خان.
طريق ثالث ممكن!
أغادر المكان، بينما يعتمل في نفسي مزيج من الأفكار والمشاعر. فالجميع هنا، في قاعة العروض، وفي الساحة الخارجية التي تفصلنا عن بوابة الخروج، وعلى السلم القصير الذي يفترشه الخريجين الجدد ورفاقهم في أوقات الراحة، الجميع يفكرون أنه خارج العالم الآمن للمعهد عالمين متوازيين. أحدهما متوحش يخشون أن يبتلع أحلامهم القديمة ويحولهم إلى كائنات مختلفة عن تلك التي وقفت يومًا بترقب أمام لجنة القبول بالمعهد. وعالم آخر أكثر تحررًا وبراحًا وسعة للاختيار لكنه عالم فقير محدود يصارع من أجل البقاء. أفكر في مدى صلابة الحدود بين العالمين، بل هل هي موجودة أصلاً. ألا يوجد مجال لطريق ثالث يرعى الأحلام دون أن يبتلعها، ويوفر لكل هؤلاء الحالمين مناخًا يمكنهم من العمل بحرية دون خوف من المستقبل.