حان وقت التغيير. في يوم العمل العالمي للمناخ، تنشر VICE Media Group مقالات متخصصة عن أزمة المناخ الحالية.
الحديث على أن العالم يشهد أزمة بيئية لا ينبغي أن يشكل مفاجأة لمن يقرأ أو يستمع إلى الأخبار.. من انقراض أنواع من الحيوانات والأسماك، إلى تلوث الهواء والماء وتغير درجات الحرارة. مع إستثناءات قليلة، فإن معظم الخبراء يتفقون على أن نشاط الإنسان قد لعب دورًا أساسيًا في خلق مشاكلنا البيئية، ويحذرون من أن التقلبات الطبيعية في درجات الحرارة تتفاقم بفعل النشاط البشري.
Videos by VICE
وقد تسببت المجتمعات الصناعية “الغربية” في القرن العشرين بتدمير البيئة، من خلال استهلاك واستنزاف الموارد الطبيعية وحجم النفايات والتلوث البيئي الناتج عن هذا الاستهلاك الغير مسؤول من تلوث في الهواء والبحر والماء. على الرغم من الاختلافات الدينية والسياسية والعلمية على حجم المشاكل البيئية التي تواجه البشرية حاليًا، يتفق الجميع على أن هذه المشاكل قد وصلت إلى مرحلة الأزمة. هناك العديد من الحلول المقترحة لمشاكلنا البيئية، البعض يعتبر أن العلم والتكنولوجيا هما “أفضل أمل” للتعامل مع قضايا مثل التلوث ونقص الطاقة. بينما يدعو آخرون إلى أن إعادة هيكلة تعامل الإنسان مع الطبيعة بطريقة فلسفية وثقافية واجتماعية من خلال تغيير طريقة استهلاكنا وتعاملنا مع البيئة. البعض الآخر يرى أن الدين هو مصدر علاقة الانسان بالأرض ويجب إعادة تشكيل على هذا المفهوم.
قد يكون خلق مزيج من كل هذه الحلول ضروريًا لمعالجة الأزمة البيئية. ولكن لنأخذ جزئية الدين.
الدين، وإن كان يعتبر مفهومًا غير عصريًا في بعض الدوائر (من منطلق أن العلم والدين لا يلتقيان)، إلا أنه قد يبدو خيارًا مثيراً للدراسة وخاصة أن هناك بعض القادة المنظمات الدينية التي لا تزال تشكك في التغير المناخي. يقود هذا التوجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي اتهم علماء التغير المناخي بأن لديهم “أجندة سياسية” وقال إنه غير مقتنع بأن البشر مسؤولون عن ارتفاع درجات حرارة الأرض. وفي الوقت الذي تعد الولايات المتحدة ثاني مصدر للتلوث في العالم، بعد الصين، تظهر الأبحاث تظهر أن الإنجيليين البيض في الولايات المتحدة هم أكثر عرضة للتشكيك في المناخ مقارنة بالأشخاص من الانتماءات الدينية الأخرى. وبحسب تفسيرهم، فإن إدارة المناخ العالمي من شأنها أن تعرقل الاستغلال الحر للموارد الطبيعية، وتؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي وتدهور الرفاه البشري.
في المقابل بدأ عدد متزايد من القادة الدينيين والمنظمات الدينية بالحديث عن أهمية الحفاظ على البيئة، وذهب بعض رجال الدين الكاثوليكيين إلى إعتبار أن التسبب بالضرر البيئي خطيئة. ولكن هل هناك علاقة مباشرة بين ما بين الدين وتعامل الإنسان مع البيئة؟ وهل الدين جزء من المشكلة أم الحل؟ أو ليست إرادة الله أن يقوم الإنسان بإستغلال الطبيعة؟
أستاذ التاريخ في جامعة برينستون وستانفورد، لين وايت، أجاب على هذه الأسئلة في مقال بعنوان “الجذور التاريخية للأزمة البيئية” في عام 1967. في هذه المقالة، ألقى وايت اللوم على التراث الديني المسيحي – اليهودي الذي شجع الإنسان على الاستغلال الكامل للطبيعة. يرى وايت أن علاقة الإنسان بالطبيعة كانت مستمدة من المسيحية التي ورثت عن اليهودية فكرة سيادة الإنسان على الطبيعة ومخلوقاتها، كما ورد في قصة التكوين التوراتية التي اعتمدتها المسيحية، حيث قضت إرادة الله أن يستغل الإنسان الطبيعة لمنفعته لأنه مخلوق أسمى من المخلوقات الأخرى. أهم مصدر يستشهد به وايت لدعم حجته هو سفر التكوين 1: 27-28: “فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكراً وأنثى خلقهم. وباركهم الله قائلاً: وباركهم الله وقال لهم اثمروا وأكثروا واملأوا الارض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض.” تسببت مقالة وايت بالكثير من النقاش، البعض هاجمه على اعتبار أنه اعتمد على مقطع مختصر وارد في الكتاب المقدس، والبعض الآخر دعم وجه نظره من منطلق أن خَلْق الإنسان على شبه الرب، خَّول له استهلاك الأرض ومصادرها لبناء “مملكته على الأرض.”
كتبت الكثير من المقالات بعد ذلك عن علاقة الدين باستغلال الطبيعة. قد نتفق أن الأديان الإبراهيمية بشكل خاص، كان لها دور كبير في تغير تعامل الإنسان مع الطبيعة، أو بكلمات الدكتور عز الدين عناية، فإن “تحول البشرية من التماهي مع الطبيعة إلى الأديان التوحيدية، شكّل كارثة مفهومية أحدثت ضرراً كبيراً على البيئة.” الدين أحدث شرخاً في ذلك العلاقة بين البشر والطبيعة، على مستوى روحي ومادي، فلم تعد علاقتنا مع الطبيعة تكاملية تصالحية، بل أصبحت علاقة طمع وجشع، كيف نقضي على المزيد من الغابات لبناء مزيد من العمارات والمولات والكنائس والمساجد؟ وكيف نصيد مزيد من الحيوانات كي نصنع منهم حقائباً وأحذية وعطور وبخور. وتؤكد دراسات أن ابتعاد الناس عن الأديان التقليدية الروحية كان له دور في تغير طريقة التعامل مع البيئة، ففي دراسة نشرت عام 2006 ذكرت منظمة Lion Guardians البيئية إن أفراد شعب الماساي (كينيا وتنزانيا) الذي تحولون من الديانة التقليدية إلى المسيحية الإنجيلية يميلون أكثر من غيرهم من أصحاب الديانات التقليدية إلى قتل الأسود مثلاً. بمعنى أن نظرتهم للحيوانات تغيرت، وأصبحت قتلاً لأجل القتل، وليس القتل لأجل النجاة.
إن كان “البشر قد تسببوا بخلق المشاكل البيئية “بتواطؤ من الدين،” فإنهم ربما لن يحلوا هذه المشاكل بدون الدين كذلك
من الصعب أن نختلف على أن الرأسمالية والليبرالية الاقتصادية والثقافة الاستهلاكية واستنزاف البيئة قد استفادت واستغلت الدين لمصلحتها، ونجحت في تجنيد الكثير من رجالات الدين لتأطير دورها المهيمن. وتعتبر دراسة ماركس فيبر عن الأخلاق البروتسـتانتية وروح الرأسمالية، من إحدى أهم الدراسات عن علاقة الدين في تطور الرأسمالية الحديثة، حيث أن النظام الرأسمالي الحديث الذي تطور خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا يعود في روحه الى الذهنية البروتستانتية التي أنتجت قيما ومعايير عقلانية جديدة “شجعت على العمل الحر والتنسك والادخار وخلقت مناخا فكريًا ساعد بدوره على تطور النظام الاقتصادي الحر.”
إذن هناك حجة لربط استنزاف البيئة وبالتالي تغير المناخ والاحتباس الحراري بالدين. ولكن هذه الشبهة حقيقية؟ نعم استخدم الدين لاستغلال البشر كالعبودية واستنزاف الطبيعة على حد سواء، ولكن بنفس الوقت، وعند النظر عن قرب لأثر المعتقدات والتصورات ذات الطابع الديني على التعامل مع الطبيعة، سنرى أن مختلف الأديان شددت كذلك على التكامل بين الإنسان وبيئته.
الكون وفقًا للهندوسية هو من خَلق الآله، ويجب إحترامه في جميع أجزائه. الحيوانات والنباتات والجبال والأنهار، كلها تشكل جزءًا من الأرض، ويجب الحفاظ عليها. مفهوم أهمسا (اللاعنف واحترام الحياة) يمنع الهندوس من التسبب في ضرر أو أذية أي مخلوق. وكذلك، تتضمن البوذية مبادئ وقيم ونظرات ذات دلالة إيكولوجية. فيرى البوذيون أن الوعي بالطبيعة الكونية للألم يولد الشفقة تجاه جميع أشكال الحياة ولهذا فهم يوسعون مشاعر الحب إلى ما أبعد من البشر والحيوانات كي تشمل النباتات والأرض أيضًا.
في الإسلام، عبّر القرآن الكريم في مواضع عدة عن العلاقة بين الإنسان والبيئة. وفي حين يفسر البعض أن النظرة الإسلامية القرآنية إلى الإنسان باعتباره “أشرف المخلوقات” تعالٍ على المخلوقات الأخرى وبالتالي لديه سلطة مطلقة على الطبيعة، يرى البعض الآخر أن هذا المفهوم يحمل المُسلم في الواقع التزامات أخلاقية نحو البيئة التي يعيش فيها. وتشير الباحثة س. نومانول هاغ في بحثها بعنوان “الإسلام والايكولوجيا: نحو إحياء وإعادة بناء” أن سموّ الإنسان في الإسلام لا يكمن في “تمتعه بأية سلطة أو قدرة بين المخلوقات، بل في حقيقة أنه مسؤول أمام الله على خلاف المخلوقات الأخرى.”
الأمر ينطبق على اليهودية كذلك، حيث يشير سفر اللاويين (السفر الثالث من أسفار العهد القديم) إصحاح 25، بأن الرب قد أمر اليهود بأن يريحوا الأرض من الزراعة لمدة سنة كل سبع سنوات، وتكون السـنة السـابعة كيوم السبت فيها تحرث الأرض مرة واحدة ثم تترك لتستريح بقية السنة. “وكلم الرب موسى في جبل سيناء قائلاً. كلم بني اسرائيل وقل لهم، متى أتيتم إلى الأرض التي أنا أعطيكم تسبت الأرض سبتًا للرب. ست سنين تزرع حقلك وست سنين تقضب كرمك وتجمع غلتهما. وأما السنة السابعة ففيها يكون للأرض سبت عطلة سبتًا للرب.”
وفي العهد الجديد يشير يسوع المسيح لأهمية احترام الطبيعة فيقول: “تأملوا الزنابق كيف تنمو، لا تتعب ولا تغزل، ولكن أقول لكم أنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها.” (لوقا 12:27-28). وقد استهل البابا فرنسيس مراسم تنصيبه كحبر أعظم في 2013 بمناشدة قادة العالم وشعوبهم بالدفاع عن الفقراء والضعفاء وحماية البيئة. ودعا البابا “كل من لديه منصب مسؤول في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلى حماية الكون، مضيفًا إنه بدون رعاية للبيئة والإنسان، “سيكون السبيل إلى الدمار وقساوة القلب.”
قد يكون هناك ضرورة لتطهير الدين من “خطيئته” المفترضة تجاه الطبيعة، فهو غير بريء تماماً. ولكن هناك ضرورة كذلك لاستخدام جميع الأدوات، ومنها الدين والأخلاق، لإعادة تشكيل علاقتنا بالبيئة، وإيجاد حلول لتداعيات تغير المناخ على هذا الكوكب، والتي كما دوماً ستؤثر على الشعوب والدول الأكثر فقراً.
في العصور القديمة كان الحياة محكومة بعدد من المحرمات الصارمة فيما يتعلق الأمر بالطبيعة. البشر في الماضي لم يملكوا الأرض بل انتموا إليها، واعتمدوا عليها للبقاء. الآن، لم يعد الإنسان يرى نفسه جزًءا من الطبيعة ولكن سَيدها ومالكها، و”غدت الطبيعة مجرد شاهد على الخلق لا محلاً للألوهية أو القدسية، وتم إفراغ الكون من قواه السحرية،” لأعيد اقتباس الدكتور عناية. دمار الطبيعة سيعني تدمير البشرية لنفسها، وإذا كان “البشر قد تسببوا بخلق المشاكل البيئية بتواطؤ من الدين،” كما يقول لين وايت، فربما لن يتم حل هذه المشاكل بدون الدين كذلك.