لا يمكننا تخيل حياتنا بدون الأفلام وما تمنحه لنا من رفاهية ومعلومات وتواصل، لكن ماذا لو كان لها وجهاً آخر يساهم في تدمير البيئة؟ تساهم صناعة الأفلام في إنتاج كم كبير من الغازات المسببة للاحتباس الحراري، إذ تتطلب عملية الإنتاج استهلاك كميات ضخمة من الموارد، والتنقل بالمركبات والطائرات، واستخدام الطاقة التي تسبب التلوث، وهدر الموارد في بناء مواقع التصوير.
ولكن لا تزال صناعة الأفلام لا تأخذ الاهتمام الكافي بمساهمتها في أزمة المناخ العالمية بإنتاج انبعاثات كربونية كبيرة، وازدادت المطالبات بمحاولة تطبيق إنتاج مستدام في الصناعة، أو تعويض البصمة الكربونية لها.
Videos by VICE
على سبيل المثال يصدر عن الفيلم الجماهيري ذو الميزانية الضخمة التي تتعدى 70 مليون دولار أمريكي نحو 2،840 طناً من مكافئ ثاني أكسيد الكربون وهذه الكمية تعادل ما يمتصه 3،709 فداناً من الغابات في السنة، وفقا لتقرير“سكرين نيو ديل” الذي أصدرته شركة ألبرت وهي شركة إنتاج إعلامي ومعهد الأفلام البريطانية BFI وشركة “ARUP” في عام 2020.
سلط التقرير الضوء على فرص تقليل الانبعاثات الكربونية وتحسين الاستدامة في خمسة مجالات رئيسية لإنتاج الأفلام، وهي “مواد الإنتاج” مثل الأزياء التي يتم إعادة تدويرها، وترشيد الاستهلاك في الطاقة والمياه والاعتماد على الطاقة المتجددة، والإدارة الذكية للمباني والمنشآت في مواقع التصوير، ووسائل التنقل، والتخطيط المستدام للإنتاج مثل استخدام المنصات الرقمية بدلاً من الأوراق.
تحتاج صناعة الأفلام إلى تغيير منهجي لتصبح مستدامة وتساعد ضمن خطة الوصول إلى صافي صفر من الانبعاثات الكربونية، كما يرى كيشان خمهيت، مسؤول التواصل في ألبرت، في مقابلة مع VICE عربية بالبريد الالكتروني، والذي قال إن “عدم توفر بيانات تفصيلية كافية عن حجم مساهمة صناعة الأفلام في أزمة المناخ يشير إلى ضآلة الاهتمام الذي تحظى به هذه المشكلة.”
وأشار خمهيت إلى دراسة أُجريت عام 2006 في جامعة كاليفورنيا، وجدت أن إنتاج الأفلام في لوس أنجلوس على سبيل المثال يتسبب في كمية من غازات الاحتباس الحراري أكبر من التي تنتجها الصناعات التحويلية أو الملابس أو الفنادق في هذه المدينة. وتابع: “يمكن القول بأن حجم البصمة الكربونية الناتجة عن التصوير اليومي للفيلم الجماهيري أكثر من البصمة السنوية لشخص واحد، ومتوسط ساعة التصوير يعادل البصمة الكربونية لرحلة العودة من لندن إلى نيويورك، لذا نحتاج لإجراء تغيير كامل في نظام الصناعة بأكمله. يمكن إجراء الكثير من التغييرات البسيطة مثل التبديل من الإضاءة المتوهجة إلى إضاءة موفرة، وتقليل السفر والاعتماد على الطعام النباتي.”
في العالم العربي بدأ الكثير من المخرجين وصناع السينما بأخذ العامل البيئي في صناعة أفلامهم. وفي لبنان، أنتجت شركة بيروت دي سي “دليل فيلم” وهو مصدر مفتوح يهدف إلى مساعدة صنّاع الأفلام العرب على إنتاج أفلام تلتزم بمعايير الحفاظ على البيئة، وينقسم إلى الدليل الأخضر وبه حلول بيئية لإنتاج الأفلام، ونصائح للاستهلاك الواعي وإدارة المخلفات وتوفير الطاقة، فيما يتضمن الدليل الأصفر نصائح حول التمويل للمنتجين والمخرجين، والأزرق يشمل قائمة بالمنظمات التي يمكن التحالف معها لإحداث تأثير اجتماعيّ وبيئيّ.
فيلم “كوستا برافا” أبرم اتفاقات مع مؤسسات ناشطة بمجال البيئة لزرع شجرة في لبنان مقابل كل تذكرة مشاهدة
فرح فايد، مديرة البرامج بالشركة وإحدى المسؤولين عن الدليل، قالت لـ VICE عربية في مقابلة بالبريد الالكتروني، إن الدليل يهدف إلى دعم صناع الأفلام المستقلين العرب من خلال تأمين مراجع عن فرص التمويل المتاحة لهم، وإرشادهم لتنفيذ إنتاج صديق للبيئة.
وأضافت: “التخطيط هو النصيحة الأهم لكل صناع الأفلام، ويساعد الفريق على تنفيذ الإنتاج بتكلفة اقتصادية وبيئية أقل، والانتقال من مرحلة التفكير إلى الفعل الحقيقي والعمل ببروتوكولات خضراء. كما يدعو الدليل صناع الأفلام إلى توظيف مدير بيئي يتولّى إدارة إنتاج صديق للبيئة ويضع السّياسات البيئيّة المناسبة للمشروع، ولكن إذا كانت الميزانية محدودة يمكن منح هذا الدور لأحد أعضاء الفريق.”
بسام الأسعد، ٣٨ عاماً، من الأردن الذي يعمل كمنتج أفلام، قرر في عام 2014 قرر إنشاء شركة “جرينر سكرين” لتدريب صناع الأفلام على الإنتاج الصديق للبيئة، وفي عام 2021 أعدت الشركة عن الدليل الأخضر، وخاضت برفقة عدد من صناع الأفلام التجربة الأولى لتطبيقه في فيلم “كوستا برافا.”
وعن ذلك يقول: “الأساس هو الحوار مع صناع الفيلم لإيجاد حلول بيئية عملية لا تؤثر على المحتوى الإبداعي وتلتزم بالميزانية، التخطيط هو المرحلة الأهم وفيه نقسم الفيلم إلى ثلاثة أجزاء “طاقة ومواد وتنقلات” وبالتالي نستطيع توفير المال أيضاً.”
وقالت مخرجة “كوستا برافا” منية عقل لرويترز إنها تعاونت مع عدة مؤسسات وجمعيات أهلية بمجال الحفاظ على البيئة في لبنان لإنتاجه على أدق وأكمل وجه وجرى تصوير المشاهد بالكامل في منطقة الشوف “دون أن نضر بالبيئة أو نقترب من شجرة واحدة، لأن هدف الفيلم بالأساس الحفاظ على البيئة.” وأشارت إلى أن الفيلم أبرم اتفاقات مع مؤسسات ناشطة بمجال البيئة لزرع شجرة في لبنان مقابل كل تذكرة مشاهدة.
ويتابع الأسعد أنه لتقليل البصمة الكربونية للأفلام، يتم استبدال العناصر الأكثر تسببًا في التلوث خيارات أخرى مثل محولات الديزل والسيارات الكهربائية، أو تقليل الأكل من مصادر حيوانية وإكثار الخيارات النباتية، أو إلغاء البلاستيك ذو الاستخدام الواحد. ويضيف: “ترشيد الاستهلاك عمومًا يقلل من تكلفة إنتاج الفيلم أو المسلسل أو البرنامج حسب نوعه، على سبيل المثال برنامج Love Island البريطاني في أحد أجزائه وفر تقريبًا ٢٠ ألف باوند بعد إلغاء طلبات المياه في عبوات البلاستيك ذات الاستعمال الواحد.”
**حتى الأفلام البيئية ضارة بالبيئة
**على الرغم من أن الغرض الرئيسي من الأفلام البيئية هو تسليط الضوء على أضرار السلوكيات البشرية الخاطئة على كوكبنا، إلا أن صناعة الأفلام تساهم بشكل كبير في تلوث الهواء وإنتاج الغازات المسببة للاحتباس الحراري على جميع المستويات بداية من الإنتاج وحتى مهرجانات الأفلام التي يسافر إليها مئات الممثلين مستخدمين الطائرات واليخوت التي تنتج ثاني أكسيد الكربون.
لهذا التفكير في البصمة الكربونية للأفلام التي تتحدث عن البيئة مهم في هذا الإطار “ولكن رسالة الفيلم نفسه أحياناً أهم،” بحسب أحمد آل رماد، 28 عاماً، الذي بدأ عمله كصانع أفلام مصري منذ تسعة سنوات. أنتج أحمد عدة أفلام بيئية قصيرة، وبالنسبة له كان استهلاك بعض الوقود والكهرباء تكلفة ملائمة إذا تم وضعها في مقارنة مع قيمة الرسائل التوعية التي تقوم الأفلام البيئية بنشرها.
ويشرح: “في الغالب لا نفكر كيف يمكننا حساب التكلفة البيئية للعمل السينمائي الذي ننتجه، في النهاية نحن نستخدم جزء صغير من التكنولوجيا التي تم تصنيعها بالفعل، والحديث عن تحقيق فارق يتطلب إجراء تغييرات قوية وجذرية في كل قطاعات السينما، وليس فقط على مستوى الصناع الصغار وأفلامهم ذات الميزانية المحدودة.”
فتحية السيسي، 29 عاماً، صانعة أفلام مصرية منها أفلام بيئية، لجأت مع رفاقها لبعض الحلول البسيطة لتقليل الاستهلاك وتقول “الوعي البيئي بالبصمة الكربونية التي تنتجها الأفلام ليس منتشراً، خاصة أن أغلب الأفلام تحتاج إلى استهلاك الوقود للسفر والطاقة.”
وتضيف: “نحن نحاول تغيير ذلك من خلال بعض الممارسات البسيطة مثل استخدام ضوء الشمس والمواقع الخارجية للتصوير، وتقليل أيام التصوير لتجنب هدر الكهرباء والمعدات، وأيضًا توفير الطعام بالاعتماد على الطعام الطبيعي والفواكه، واستخدام زجاجة كبيرة لتوزيع المياه لتجنب استهلاك الكثير من العبوات البلاستيكية الصغيرة.”
في السياق ذاته، في عام 2018 قرر المنتج علاء الأسعد، ٣٣ عاماً، إنتاج فيلم “سلام” بشكل صديق للبيئة في الأردن وتم عرضه بمهرجان البندقية وحاز على جائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان الجونة. في البداية واجه تحدي في شرح فكرة الإنتاج لطاقم العمل، وبعد ذلك قرر إنتاج كل أفلامه بالطريقة ذاتها.
قبل فيلم “سلام” كان لدى الأسعد تجارب بسيطة بالعمل بإنتاج مستدام، “لكن في هذا الفيلم تم التخطيط بشكل أوسع من البداية لاستخدام أدوات الطعام والأكواب، وتقليل الطباعة والاستعانة بأدوات رقمية، ووضع مواقع التصوير بأماكن حقيقية قريبة من بعضها لتقليل التنقل وهو ما كان له أثر إيجابي على الميزانية،” كما يقول.
تقليل استخدام الورق المكتبي وطباعة النصوص على الوجهين، يمكن أن يوفر الإنتاج حوالي ١٨ ألف دولار
وفقًا لدليل الإنتاج الأخضر الصادر عن Producers Guild of America، فإن استبدال زجاجات المياه البلاستيكية بخزانات المياه القابلة لإعادة التعبئة والأكواب القابلة للتحلل من شأنه أن يوفر 5،000 دولار (فريق عمل من مئة شخص) لكل 60 يوم عمل.
كما من الممكن توفير الكثير من خلال تقليص مئات الآلاف من الورق المستخدم للنصوص والمراجعات والأنشطة المكتبية. فمن خلال تقليل استخدام الورق المكتبي بنسبة 20 بالمئة وطباعة النصوص على الوجهين، يمكن أن يوفر الإنتاج حوالي ١٨ ألف دولار.
وأضاف علاء الأسعد: “كان هناك تركيز على عدم استخدام مولد طاقة يعمل على الديزل حيث تم الاعتماد على ضوء الشمس وتقليل حركة السيارات، واستئجار أغلب الديكورات أو إعادة استخدام أخشاب قديمة. وأنصح صناع الأفلام المهتمين بالإنتاج بشكل صديق للبيئة، بالتواصل مع شركاء بيئيين أولا لتسهيل عملهم، كم أن التحول المستدام في الإنتاج يساعد على تخفيض التكاليف.”
وبدأت مهرجانات الأفلام العالمية في اتخاذ عدّة إجراءات لمراعاة التكلفة البيئية، فقام مهرجان كان بتقليص حجم السجادة الحمراء إلى النصف، وتصنيعها من مواد قابلة لإعادة التدوير، وتقليل مطبوعاته الورقية إلى النصف أيضاً وإتاحة المعلومات عبر الإنترنت، ومنع العبوات البلاستيكية، واستخدام السيارات الكهربائية.
بالرغم من أن هذه المبادرات الإيجابية ساعدت على تطبيق معايير الاستدامة في صناعة الأفلام بنجاح في نطاقات صغيرة، فيبدو أن الطريق لا يزال طويلاً أمام صناعة الأفلام لتفكر في التكلفة البيئية كأحد أولوياتها، خاصة في ظل الأزمات المالية التي تواجهها وضعف إمكانياتها وميزانيتها المحدودة، ومع أن مهرجانات الأفلام العربية تهتم في جزء منها بالأفلام البيئية ومناقشتها لمستقبل كوكبنا فلا زالت مراعاة معايير الاستدامة حتى الآن مجرد رفاهية للأغلبية.