التلفاز يعمل على فيلم مصري كوميدي يُدعى “بنك الحظ”. ضحكاتي تتصاعد لتنتزع آلام ظهر ألمت بي منذ أيام وكان علاجها المورفين. حسنا عليّ أن أخبرك أنني مريض سرطان، وأي مريض ينتمي لفصيلة الأورام لا يراه أطباؤه سوى ورم كبير/ متوسط/ صغير. ربما اسمك هو درجة الورم. كل ما يلفك ويطرأ عليك لا يهم. أعدت مع زوجتي وأختي بعض جمل الفيلم المضحكة التي تؤكد لنا انطواء سهرة حلوة. تهيأت للنوم بفيلم ممل ليمضي الوقت. خيالات تمر وصوت منخفض، لتستقر العين لساعات. حين امتلأت المثانة، وكانت الرغبة في إفراغها، حاولت الهبوط من السرير، فوجدت أن قدمّي أصابهما الخدر. بعض هزات باليد على القدم، ربما قمت بالنوم بشكل خاطئ، أو أن آثار المورفين مع الضحك منحا الجسم السكينة. بعد محاولات فاشلة أيقنت أن ثمة خطأ ما يدور. مذعورًا صحت في زوجتي لكي تعينني الوقوف. الرعب يشل تفكيري. قررت الذهاب للمستشفى التي أتناول فيها علاجي منذ عامين. وهناك بدأت رحلة الخطوات العشر التي عرفت فيها أنني أصبحت عاجزًا عن الحركة.
1- كان الطبيب المناوب نائمًا، بالتأكيد بلا مشاهدة لفيلم يساعده، استقبلني بهدوء وبرود لا يناسبان الخوف البادي على وجهي. أخبرني أن ربما تراكم العلاج الكيماوي وزيادة جرعة المورفين سببا ما حدث. وأن عليّ تحاليل دم إمعانًا في الاطمئنان سوف تؤكد كلماته. لم أقتنع. عدت للمنزل وشعوري بالخدر يزداد. انتظرت الصباح الباكر ريثما يحضر أطباء آخرون. غادرت الطوارئ بالمناسبة دون أن يهتم أو يلحظ. صعدت سلم شقتي وأنا أتسند صاحبي الذي يحاول تكرار كلام الطبيب الذي من فرط نعاسه كان يسألني المعلومة نفسها ويحصل ويدوّن الإجابات نفسها. بظهور نور الصباح ذهبت مرة أخرى للمستشفى وتم وضعي على كرسي متحرّك وهنا أيقنت أن ما يحدث ليس عارضا. وهذه خطوتي الأولى في ألا تحملني قدمي، بل يفعل الناس.
Videos by VICE
2- آلام الظهر بات التعايش معها مستحيلاً. أطباء الآلام يحاولون أن يكون اسمهم على مسمى. كانت المباغتة الحقيقية وجود نفس الطبيب الذي قابلته منذ قليل. خامرني شعور أن لدّي معركة مع ظهري ومع الطبيب. طلبت منه أشعة أو ما يطمئن من إجراء طبي فكان رده “مستنّي الاستشاري”. قضيت ليلتي الأولى وعورتي بدأت في التكشّف على أخي لكي يحملني إلى الحمام. في أوقات الذهول لا يصيب الشلل القدم وحدها، تنساب في الدماغ اهتزازات تجعله يتوقف عن التفكير في أمور لم تعد عادية. بالطبع في الأيام القادمة أصبحت مباحًا للمساعدين لكي يحملوني وللتمريض لكي يداويني. والاستحمام بات من الأحلام المؤجلة يوميا. جاءت في اليوم الثاني طبيبة أخرى، ينشرح القلب لرؤياها. عاجلت بالاتصال بالاستشاري وبعد ثوان كنت أرقد في جهاز اسطواني يصدر أزيزا محاولا استيضاحي. بينما أرقد فجأة أصبح النصف الأسفل غير موجود. لو أمسكت بسكين وغرسته ربما فقط أعدل من وضع نظارتي. صرخت لكي يوقفوا الأمر ولم يسمعني أحد. يصبح كثير من الأشخاص العاملين في المجال الطبي لا يستطيعون حتى تقديم أزيز الآلة. خرجت الطبيبة بالنتيجة: ورم/ جسم غريب ضغط على الفقرتين الثامنة والتاسعة في العمود الفقري والنخاع الشوكي تسبب في الإحساس بالشلل، وسوف نبدأ فورا علاج إشعاعي لنوقف التمدد.
3- مريض السرطان تحيطه دائما الهواجس. الحياة تصبح سلسلة من صراع مع ورم. انتظار لجرعات. آثار غير منطقية للكيماوي تحدث تراقبها. تتناول السم بكل طواعية لعل ما يحتويه جسمك يبلعه كطعم، لكن الحقيقة أن الورم يحولّك كليًا لطعم يقلبك ذات اليمين وذات الشمال بوجع واكتئاب وأيام لا تمر. الإكليشيهات المحفوظة الخاصة بالأوقات تتحقق. تجول هذه الأفكار برأسي وأنا جالس في المستشفى لا أنتظر جلسة الكيماوي. لأول مرة أتمنى أن تكون غرفتي – كالعادة – مكانا للكيماوي. أبتسم رغم عني وأنا أرى كيف تزيح المصائب بعضها من عروشها. لكل إنسان مصيبة تحاوطه كالملكين على الكتفين. عليك فقط الحرص على المصيبة كالحرص على أفعالك المدونة. النوم مازال سلطان يمكنك الحصول عليه ببعض المحاليل التي تسري في الأوردة. أنام وأنا أستعيد كلمات الطبيبة بأن علاج إشعاعي سوف يستمر لعشرة جلسات لكي يتم السيطرة على تمدد الجسم المهاجم لظهري، مع بدء في علاج طبيعي يحاول أن يعيد للقدم حركة فقدتها.
4- حين كان الألم يشتد بي أثناء جلسات العلاج الكيماوي، كانت جملة المؤازرة من صديقي: “المهم إنّك لسه واقف على رجلك وبتعافر”. أتذكره وأكره الجملة. أشعر بها ألما مكتسبا جديدا. أتناول جلسة إشعاع. قسم الإشعاع يدير الموسيقى للمرضى وأحيانا يحضر طبيب “فلاش ميموري” عليه أغان لفيروز. يحاولون إصلاح المرضى على مساوئ العالم. في ذلك اليوم تم نقلي من غرفتي على سرير. حملني شخصين بملاءة وألقوني داخل جهاز الإشعاع. تشعر بمقدار ضآلتك في اللحظة التي تقذف بها من الملاءة إلى سرير الأشعة. مجرد خطأ بشري وارد سوف يطرحك كالقمامة أرضا. الحقيقة أنني كنت كتلك القمامة. في مساء يوم اشتدت رغبتي في إخراج البراز. سأل أبي إحضار العامل ليحملني على الكرسي للحمام لكنه كان يساعد آخر، والبديل لا يستطيعون العثور عليه. حاول أبي مساعدتي بنفسه فطرحت أرضا مكوما على نفسي. كانت هذه هي المرة الأولى التي أبكي فيها منذ دخولي المستشفى.
5- كنت أحب غرفتي في منزل الطفولة. مكان الاحتواء والأحلام العبثية. أصبحت فكرة غرفة الإقامة بالنسبة لي منذ الصغر هي حيز وجودي. أصبح حيزي الآن الطاولة التي تجاورني والتي تتكوّن محتوياتها من: كتاب، مناديل، مناديل مبللة، زجاجة مياه، أدوية دورية، وعاء البول، جهاز التحكم في التلفاز، طبق الطعام. طاولة مثالية تحتويني الآن. أحب ترتيب محتوياتها بطريقة معينة تشبه ما يفعله لاعب التنس الإسباني رافائيل نادال حين يثبت زجاجتي المياه خاصته بمحاذاة واحدة ويستغرق في ذلك وقتا مهما بلغ صعوبة موقف المباراة التي يلعبها. أفعل الأمر نفسه مساء كل ليلة لكن في أوعية البول. أضحك وأنا أقول لنادال: مرحى. أخيرا وجدت شيئا يجعلني أحبك.
6- أنا شخص يميل للانعزال. غير محب للتواصل. يلومني خالي أنني لا أجيب رسائله عبر “واتس آب”. أحاول إقناعه أنني لا أرد على والد زوجتي ويهاتف والدي زوجتي مباشرة أحيانا لمعرفته طبعي. حين استجد الحدث عليّ، انعزلت الناس كليا. أتابع ما يحدث عن بعد. أعرف كل شيء. أشاهد التلفاز وأحمد الله أن هناك اختراع يُدعى كرة القدم. وسائل التواصل الاجتماعي أزورها بنفس المعدل، لكن تملكتني رغبة في عدم رؤية أي شخص مهما بلغت درجة غلاوته في قلبي أو سماعه. صديق قريب عاد من الحج وهاتفني يوميا. أنظر لاسمه وأقول: “سنتحدث يوما ما يا صديقي. لكن لا أعرف متى”. أصدقائي الذين يساعدون الأهل في أمور الإقامة والأوراق وإحضار أكياس الدم، لا يصعدون حتى لغرفتي. لا أريد لأحد أن يراني عاجزا. هذه هي القناعة التي تملكتني ولا أستطيع تغييرها. أحمد الله أن يتفهّم الأصدقاء ذلك ويحرصون على مساعدتك. ربما لذلك لم تعد الصداقة كأشياء كثيرة متوفرة في عالمنا.
7- “لماذا أنا يارب؟” بالتأكيد هتفت بهذه الجملة مرارا. جلست للتفكير حتى في إن كنت أؤخذ بمعصية ارتكبتها. أضحك من ضحالة ما تقودني إليه هواجسي بفعل الحوادث التي تقع لي. مررت بمشاعر كثيرة مع الخالق. الغضب كان الشعور الأول، والوصول إلى التدبير واختبار الله كان الشعور الأخير. هذا هو قدر الله. نحن نفر من قدر الله إلى قدر الله. كنت أرفض في البداية فكرة أن ثمة ابتلاء أصابك فاصبر. ساعات الليل والأقدام الساكنة رسخا كيف يكون الله رحيما بي رغم كل شيء. شذرات عابرة تحدث تؤكد أن عين الله تراك، تحرسك رغم كل ما يصيبك. هل هي دائرة تصوّف تسحبني بسبب المرض؟. ما أؤمن به أن دعائي المحبب “اللهم دبّر لي فإنّي لا أحسن التدبير” أصبح عنوانا لحياتي التي بدأت علاجا طبيعيا يسير ببطء، لكن الطبيب يقول إن الإرادة تصنع أي شيء بمرور الوقت. تأكدت أن كلامه علميا في حالتي وليس تنمية بشرية. أصبحت الرحلة فلكها الوقت.
8- أضحيت أكثر عصبية. طباعي الهادئة والمثيرة لاستفزاز زوجتي أحيانا تبدلّت رغم عنّي. صرخت في زوجتي بشكل غبي لم أفعله من قبل لقيامها بفعلة عادية. الحدة تغلبني كأن الطباع تحاول أن تتحرّك مطرح القدمين. صحيح نسيت أن أخبركم عن فرد جديد ينضم لغرفتي: مرتبة جديدة موصلة بموتور تحتضن جسدي وتدغدغه بعد أن أصابته “قروح الفراش”. لا لن أخبرك بنوبة غضب جديدة أصابتني. إنها مجرّد قرحة. لا تنس نظرية مقارنة المصائب يا عزيزي.
9- كلما يهبط أحد أفراد أسرتي إلى الخزنة لوضع رزمة جديدة تجعل الطاولة حيزا مستمرا لحياتي أشفق على الأهل وألوم عدم مقدرتي على الاستعداد لمواقف كهذه. يقول الأهل إن النقود لا قيمة لها، ويتم جنيها أصلا لمواقف كهذه. أحمد الله على عائلتي الصغيرة وعائلتي الكبيرة التي ظهرت في هذا الموقف بما لم يفاجئني وفاجئني في الوقت نفسه. أنت تتوقع الدعم العائلي النفسي والمادي طوال الوقت، لكن رؤية الحدث على الطبيعة هو ما يفعّل الإدراك. أفكّر في أنني شخص غير اجتماعي. لم أكن أتواصل حتى مع المعظم. يقول عمي إن العائلة مثال عملي لنظرية الأواني المستطرقة كل يصب في أنبوب الآخر.
10- بعد انطواء شهر من تكرار لما يحدث، وظهور آلام ومشكلات طبية جديدة أحسست بالحياة كلها تقف. لا جديد. لا عمل. عاطل سريري، سوف تلتهمني الدوامة وأدخل حيز النسيان الذي يبتلع الغالي والرخيص. لكن بما أن لكل أباه الروحي الذي يسمعه في الأوقات الحالكة. لجأت إليه راغبًا ربما في انتشالي لأنني أسمع إلى كلماته بقلبي وعقلي وليس بأذنيّ خصوصًا وأنا أعرف كيف يعتبرني ابنه بالفعل. في جلسة استمرت ساعة خرجت بها من العزلة للمرة الأولى كان قد وصل لدرجة كبيرة من إقناعي بأن المسار الذي أحياه الآن هو الأفضل، حين رسم أمامي سيناريوهات أخرى لم أكن لأحبها. فكرّني كيف كانت الحياة تمضي قبل عامين، وهل تتوقّف؟. ذكرّني بأزمة ألمت بي منذ عام وكان صوتي قد انقطع وكنت أتواصل بالإشارة لردح من الوقت. سألني عن شعوري لضحكة ابني. حدثني عن أن مهنتي هي الكتابة. أخبرته أن الكتابة الآن سوف تكون عن التجربة وأنا سأمت الكتابة عن التجربة. سألني: “ألا يحتمل أن الاختبار لك أنت بالذات لأن غيرك لا يجيد الكتابة؟”. أخبرته: سيكرهني الناس. أجابني: يحب الناس التجارب الملهمة. أضحك وأخبره: أين الإلهام في شخص عاجز؟. يجيبني: هذا الشخص لم تصب يديه العجز لسبب ما، ومثلما تكتب اليديان المأساة تكتب عن الحب والأحلام والأطفال والحرية. تستطيع الكتابة أن تبصر ما تعمى عنه العين ولا يدركه القلب. أقرر أن الخدر لم يصب اليدين فعلا لسبب، وربما عملهما يدفع بالأطراف إلى الحركة. هل ثمة خيار آخر؟