mincho-kavaldzhiev-ZbtGaut4Ijs-unsplash
Photo by Mincho Kavaldzhiev on Unsplash
مقال رأي

عن رفاهية/عبثية الشعور بالملل

مل الناس من الكرة الأرضية فاخترعوا الأقمار الصناعية

هل يمكن لشعور إنساني يقع على هامش الحياة البشرية أو هكذا يظنه كثيرون أن يكون محركًا للتاريخ، يقيم حروبًا ويؤجج ثورات ويدفع باختراعات واكتشافات تغير وجه العالم؟

في روايته "الملل" يجيب الروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا على التساؤل السابق بنعم، فوفق رؤية مورافيا دفع شعور الملل الله ـ بعدما أقام السموات والأرض ـ إلى خلق آدم، وحرض الملل آدم أن يطلب من الله خلق حواء، ثم دفع الملل بعدها آدم وحواء إلى ارتكاب  الخطيئة الأولى، ومل أحد أبنائهما من الحياة على الأرض فقتل أخيه، ومَل نوح فاخترع النبيذ.

إعلان

ومن الملل من أوروبا اكتشف الأسبان أمريكا، ودفع الملل من الإقطاعيين الشعب الفرنسي إلى الثورة، وقامت الثورة الروسية بعدما مل الناس من فساد القيصرية، ومل الناس من الكرة الأرضية فاخترعوا الأقمار الصناعية. 

وللملل أنواع عرفنا عليها البروفيسور الكندي بيتر توهي، منها "الملل الوجودي" الذي يتسلط على حياة المرء حين يختفي المعنى من حياته، وهو ملل دائم وعميق. وهنك الملل الظرفي الذي قسمه توهي إلى: ملل بسيط يرتبط بمواقف وأحداث معينة وينتهي بانتهائها، والملل المزمن ويرتبط بأحداث الحياة اليومية للفرد، وأحيانًا ما يكون بسبب مشكلات بيولوجية، كـالنقص في مستقبلات الدوبامين.

هذا النقص يدفع أصحابه إلى البحث عن مصادر للمتعة، ليتورطوا أحياناً فيما هو ممنوع أو محرم، وقد يصل الأمر إلى حد إيذاء النفس والآخرين وارتكاب الجرائم، كل ذلك من أجل رفع معدلات الدوبامين في الدم.  

يرتبط نقص الدوبامين كذلك بمشكلات نفسية مثل الاكتئاب، الإدمان، نوبات الهلع، قلة الإنتاجية في العمل، العدائية، وفي بعض الحالات قد يتعرض المرء إلى الهلوسة في محاولة لتجاوز الشعور بالملل أو نقص الدوبامين، وحول هذه المشكلة رأي عالم النفس نورمان دويدج أنه "لا شيء يسرع في ضمور الدماغ أكثر من بقائه مشلولاً في نفس المحيط، الرتابة تُقوض الدوبامين، التنوع هو النقطة الحاسمة لضمان مرونة أنظمة الانتباه داخل أدمغتنا."

لهذا كانت الرغبة في التخلص من الملل سعيًا وراء الإثارة ـ بحسب طرح للفيسلوف البريطاني برتراند راسل ـ أمر ذو جذور عميقة في البشر، وإن كان التخلص من إحساس الملل أسهل كثيراً في الأزمان القديمة، تحديداً في عصر الصيد، حيث المطاردات كانت مثيرة، والحروب كذلك. تلى ذلك عصر الزراعة، لتجنح الحياة نحو الاستقرار وتميل إلى الرتابة وتخفت الإثارة ويتم وضع الحدود- باستثناء الأرستقراطيين طبعاً الذين استمرت حياتهم على ذات الوتيرة، كأنهم لم يبرحوا عصر الصيد.   

إعلان

حديثًا وفي ظل سيادة نمط الاستهلاك أصبحنا نعيش في روتين يومي وشعور قاتل بالملل، كل يوم يشبه اليوم الآخر، مآسينا متشابهة وأفراحنا كذلك. تسبب الرأسمالية التي تصر على وضع العمل كاستحقاق للعيش في عدم إتاحة الفرصة لتوظيف كامل قدرات الفرد ومواهبه ووقتة الخاص، ومقارنته الدائمة لظروفه القائمة بأخرى كان يفترض أن تكون. الشعور بالملل أيضاً رفاهية -نحن الذين تحتم علينا العمل لكسب قوت يومهم، فالحصة الوحيدة التي قد ننالها للشعور بالضجر قد يكون أثناء العمل.

 مع ارتقائنا السلم الاجتماعي، تصبح محاولاتنا في السعي لنيل الإثارة أكثر عنفًا وكثافة، والأمثلة كثيرة. ربما تكون قد قرأت عن العائلة الأمريكية الثرية التي استأجرت كنيسة "سيتينا" أكبر كنائس القصر الباباوي في الفاتيكان، الصيف قبل الماضي، بمبلغ ضخم من أجل مشاهدة لوحات مايكل أنجلو دونما إزعاج من الزوار الآخرين. وهناك الطفل الإماراتي الذي امتلك ــ ولم يتعد الـ16 ـ حديقة حيوانات خاصة تضم 500 حيوانًا، وإيلون ماسك الملياردير الشهير ومؤسس تسلا الذي اشترى سيارة غواصة استخدمت في أحد أفلام سلسلة جيمس بوند بمبلغ كبير؛ لأنها أثارت دهشته حين شاهدها صغيرًا بالعمل السينمائي.

مع ذلك فالالتجاء إلى الإثارة فراراً من الضجر قد يؤدي إلى خلل على جانب آخر، فحين يمسي المرء مدمنًا عليها يصبح في حاجة دائمة إلى جرعات أعلى مثلما هو الحال مع أي نوع من أنواع الإدمان، ويفضي الانغماس في الإثارة على هذا النحو إلى شعور الفرد بالاستنزاف كما يؤثر بالسلب على الصحة العامة.    

ربما كان شوبنهاور صادقًا في تبريره لمعضلة الملل أنها دليل على عبثية الحياة، وأنها لو كانت تحمل معنى لما كان الملل، لهذا رأى الحياة "تتأرجح مثل البندول بين الألم والملل" باعتبارهما المكونان الأساسيان للوجود.

وإلى الأشخاص "الذين يدورون حول الأحاسيس بأن العالم ليس فيه شيء مهم ليعلموه" يوجه الفيلسوف راسل نصيحة لمن لا يريد الوقوع في براثن "الملل الذي سيلتهم طاقاتهم وحيويتهم، ثم يلفظهم أرواحًا خاوية لا نفع فيها ويقول: "دعوا محاولة الكتابة وبدلاً من ذلك حاولوا ألا تكتبوا، اذهبوا إلى االعالم، لتصبحوا قراصنة، أو ملوكًا في بورينو، أو عمالاً في روسيا، وامنحو أنفسكم وجودًا يستحوذ فيه إشباع رغباتكم الجسدية الأولية على طاقاتكم."

قد لا نستطيع مسايرة راسل في نصيحته، فطبيعة الحياة اليوم أشد قسوة، وقيودها أحكم وثاقًا، وهذا يجعلها ـ رغم تسارع الوتيرة ـ تنتظم في العادة هادئة رتيبة، لا يخلخل رتابتها تكنولوجيا يجري توظيفها في مواجهة الملل، فلا تفضي التكنولوجيا ـ في أغلب الأحيان ـ إلى أكثر من "قتل الوقت."

لكن هناك نصيحة أخيرة من مورافيا قد تكون ذا نفع في مواجهة الشعور بالضجر: لنحب‏. لنجدد صلاتنا بالعالم الخارجي‏.‏ لنحس أن هناك صلة‏، وأن كل شيء في متناولنا، وأن كل ما في الدنيا هو عبارة عن يد ممدودة تصافحنا‏، ‏وأن كل ما في الدنيا شفاه في انتظار تقبيلنا لها‏، ‏فالفرار من الملل هو أن نفكر جديًا في الملل‏.‏