muzik1
Franz Hermann, Hans Gemminger, Valentin Mueller، 1654
موسيقى

أغاني الحب بين الأديان في الإمبراطورية العثمانية

لماذا لا توجد أغنية حب كتبها رجل مسيحي لإمرأة مسلمة؟

لطالما كانت قصص الحب المحرمة جزءًا من اللاوعي الجماعي البشري، من قيس وليلى، لـ أناركالي وسليم، كليوباترا ومارك انطوني إلى روميو وجولييت. يمكن العثور على العديد من القصص الأخرى حول العالم التي تروي قصة عشيقين لا يمكن أن يكونا معًا، وعادة ما تنتهي القصة بالبؤس والمصاعب. الأمر لا يختلف في بالإمبراطورية العثمانية، هناك الكثير من الأغاني الشعبية الفولكلورية التي ظهرت في فترة الإمبراطورية العثمانية وداخل جغرافيتها التي تروي قصص حب محرمة بين شخصين من خلفيات دينية مختلفة، سواء كان ذلك رجل مسلم مع امرأة مسيحية أو العكس.

إعلان

الأغاني الفولكلورية بحكم تعريفها، مؤلفوها مجهولون ولا يمكننا أن نعرف بالضبط العام الذي ظهرت فيه، لكن يمكننا الحصول على فكرة أين ومتى بدأ تداولها. يساعدنا تحليل مثل هذه الموسيقى على فهم العلاقات بين شعوب مختلف الأديان التي عاشت في الإمبراطورية العثمانية. وما هي أفضل طريقة للتعرف على الماضي الثقافي والاجتماعي لجغرافية معينة من الموسيقى الشعبية الفولكلورية؟ وما هي أفضل طريقة لفهم علاقات الثقافات المختلفة مع بعضها البعض ضمن تلك الجغرافيا أفضل من أغاني الحب الشعبية الفولكلورية؟

فكرت في كتابة هذا المقال في البداية، لأنني كـموسيقي وشخص شغوف للغاية بموسيقى الشرق الأوسط التاريخية، لاحظت أن الأغاني الشعبية خلال حكم الإمبراطورية العثمانية تتحدث عن حب ممنوع بين مسيحي ومسلم. لكل واحدة من هذه الأغاني لحن غني جدًا، يجبر المستمع  للبحث في عمق وجوهر هذه الألحان والقصة وراء كل منها. وهذا ما قررت القيام به، في هذا المقال.

يارديلي
هناك خلاف حول مكان وقوع القصة والوقت الذي ظهرت فيه الأغنية، ويقول بعض العلماء إنها نشأت في ماردين بجنوب تركيا ثم انتقلت لنينوى لتصل إلى مدينة الموصل. ويقول آخرون إن قصتها حدثت في القامشلي في سوريا، وظهرت فيما بعد في الموصل قبل نينوى ونُشرت في العالم. ومع ذلك، ينسب معظم العلماء ظهور الاغنية إلى أواخر القرن التاسع عشر.

توجد ثلاث نظريات مختلفة حول اسم الأغنية. الأولى هي "يار" أي المحبوب في اللغة التركية والكردية و"الدّل" هو القلب. إذن يارديلي تعني حبيب القلب. الثانية أيضًا لها أصول تركية تعني الفتاة المدللة. النظرية الثالثة أقل شيوعًا ووفقًا لها، فإن يارديلي هو اسم الفتاة.

إعلان

الأغنية تدور حول راعي مسلم فقير من القامشلي كان يعمل أيضًا في منزل عائلة "أحو أغا" المسيحية السريانية حسب الاعلامي محمد البياتي. وقع هذا الراعي في حب ابنة صاحب المنزل، ولكن بالطبع لم يقبل الوالد بهذا الراعي الفقير أن يتزوج ابنته فهدده، وقال الراعي العاشق "أبوك يا اسمر حلو ماسك على ايديي، انتي على دينكِ وأنا على ديني." وبعد التشاور مع كاهن القرية وشيوخها ولكن دون جدوى، قرر التخلي عن حبيبته. من المهم أن نذكر أن نسخة الموصل تختلف عن نسخة القامشلي من حيث الأب لم يهدد العاشق، فيقول له الراعي "ابوكي يا اسمر حلو ماجا على ديني" بدلاً من "مسك على ايديي."

يوجد العديد من الطرق لأداء هذه القطعة  بإيقاعات مختلفة، وعادة ما يتم استعمال الإيقاع العراقي "جورجينا" 10/8 ولكن هناك طريقة يستخدم فيها ايقاع "الوحدة الشامية" التي تعرف أيضًا بإيقاع "اللف" الذي يتميز بتوقيع زمني قدره 2/4 والذي يغير شعور الأغنية وروحها، ويتم اداء الاغنية دائمًا على مقام البياتي، والذي يحتوي على ربع نغمة في الدرجة الثانية من المقام. بالتالي النسخ المختلفة من الأغنية.

ماردين - النسخة التركية

الموصل -النسخة العراقية

القامشلي- النسخة الكردية/السورية

ساري جيلين
"ساري جيلين" هي أغنية شعبية لسكان جنوب القوقاز، مثل الأرمن والأذربيجانيين والإيرانيين والأكراد والأتراك. الرائع في هذه المقطوعة هو أنه عادة عندما يتم مشاركة اللحن بين ثقافات أو مناطق مختلفة ويأخذ كل منهم بعين الاعتبار اللحن كتراثهم الخاص، بمعنى أن محتوى الكلام أو الموضوع متغير لكن يبقى اللحن نفسه. في هذه الأغنية، اللحن والموضوع وكلمات الأغاني متشابهة للغاية في اللغات الأرمنية الأذربيجانية والتركية. قصة الأغنية متشابهة وهي مسلم تركي يقع في حالة حب مع فتاة أرمنية مسيحية كوبتشاك، لا يمكن أن يكون معها، ولهذا يتمنى وفاة والدتها أو جدتها باعتبارهم سبب عدم تمكنهم من البقاء معًا.

إعلان

"ساري" صفة تركية تعني "أصفر" ويمكن أن تعني أيضًا "البشرة الفاتحة" أو "الأشقر." وتعني كلمة "جيلين" من يأتي إلى العائلة (العروس) وجذورها من الكلمة التركية "جل" (وتعني "تعال"). وهي تستخدم بشكل رئيسي باللغتين التركية الأذربيجانية. باللغة الأرمينية، تُعرف الأغنية أيضًا باسم ساري أغجيك والتي تعني "فتاة الجبل." يجب الذكر ان النسخة الكردية والإيرانية لهما كلمات مختلفة، ولكن اللحن نفسه. لا توجد العديد من الاختلافات الموسيقية مع هذه المقطوعة، يتم عزفها عادة على مقام البياتي، ويستعمل اجمالا، أما ايقاع "أصول سنكين سماعي"  6/4

كما يمكن أن نجد إصدارات تركية لهذا اللحن تستخدم إيقاع 5/4 (ترك اقصاغي) المعروف أيضًا باسم اعرج تركي.


سمراء من قوم عيسى
اشتهرت هذه القطعة بعد أن غناها ناظم الغزالي في منتصف القرن العشرين. ويقال أن جنديًا مسلمًا في العهد العثماني وقع في حب فتاة مسيحية. وكان الراهب الذي يخدم في الكنيسة التي تقصدها الفتاة غالبًا يكلفها بقرع الجرس الأحد المبكر، وكان يحاول الجندي مقابلتها خلال هذا الوقت لكن دون نفع. فقصد هذا الجندي الكنيسة الأحد باكراً وغنى لها هذه الأبيات الشهيرة بينما كان الناس يتجهون إلى القداس، على أمل أن تصل كلماته إليها. ولكن بدأت الحرب وذهب الحبيب إلى الجيش وانفصل عن الحبيبة التي كانت تشكو حبها إلى الراهب. أصيبت الفتاة بمرض أودى بحياة الكثير من الناس وقتها وقتلها، قبل عودة الحبيب من الحرب.

يتم تأدية القطعة بشكل موال، وهو نوع تقليدي من الموسيقى الصوتية يتم تقديمه عادة قبل بدء الأغنية الفعلية (في هذه الحالة قبل "طالعة من بيت أبوها"). يرتبط هذا النوع بأشكال تاريخية من الشعر والموسيقى العربية، ويظهر المغني مهارته في ارتجال اللحن غير المتناوب على النص السردي الشعري واللحن. بما أنها موال، فإن القطعة ليس لها بنية إيقاعية، والفنان الذي يؤديها لديه الخيار الفني لتفسيرها كما يشاء. كما يتم غنائها على مقام العجم، وهو "الماجور" في الموسيقى الغربية.

إعلان

سوزان سوزي
في تركيا بالتحديد، توجد العديد من الأغاني الشعبية المختلفة التي تنتمي إلى النوع "türkü-توركو" (الذي يطلق على الفولكلور التركي الناشئ عن التقاليد الموسيقية داخل تركيا) والذي تروي قصص الحب المستحيلة بين مسلم تركي وامرأة مسيحية سريانية أرمنية أو يونانية، من مناطق جغرافية مختلفة (ديار بكر-إيلازيغ - ﺳﯾدﻏﺎزي). جميع هذه الأغاني سوزان سوزي، اهجيك، كارادير كاشلارين فيرمان يازديرير، على مقام البياتي، والمعروف أيضًا باسم مقام العشاق في تركيا، والايقاع غالبًا ما يكون 10/8 او 8/8.

سوزان سوزي (Suzan Suzi)


اهجيك (Ahçik)

كارادير كاشلارين فيرمان يازديرير (Karadır kaşların ferman yazdırır)

طالما أشكو غرامي
لحن هذه المقطوعة هو بالتأكيد الأكثر إثارة للاهتمام. نستطيع أن نسمع هذا اللحن من المغرب إلى بنغلاديش مروراً بكل المناطق بينهما وحتى وصولاً إلى الصين و اليابان. كل نسخة من هذه الأغنية لها موضوع مختلف، ومعظم الدول التي تستخدم هذا اللحن تصر على أن اللحن فولكلور خاص بها.

لن أتحدث بعمق عن ذلك، فقد تم إنتاج فيلم وثائقي مذهل حول هذا الموضوع في عام 2003 من قبل عالمة الموسيقى العرقية  أديلا بيفا "لمن هذه الأغنية" التي فاز بالعديد من الجوائز. في الفيلم، يوضح الملحن المقدوني إيليا بيوفسكي أن اللحن قد يكون في الأصل يهوديًا بسبب بروز إيقاع "الكليزمير" به والذي يعد إيقاعًا شائعًا ومستخدمًا داخل المجتمعات اليهودية. يغني هذا اللحن "اللادينو اليهود" (اليهود الرسبان) الذين تم طردهم من إسبانيا خلال فترة "الريكونسيستا" في القرنين الخامس عشر والسادس عشر واستقروا في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية، لذلك من المنطقي أن يكون لهم يد في نشر هذه القطعة. كما أن لدينا دلائل اخرى على ألحان لادينو أصبحت فيما بعد أغانٍ تركية شعبية.

إعلان

النسخة البوسنية للأغنية المعروفة باسم "Pogledaj me Anadolko budi moja ti" والتي تعني "يا فتاة الأناضول، كوني لي." وهي أيضًا أغنية حب ممنوعة بين رجل بوسني وامرأة من الأناضول ذات شعر أشقر بعيون سوداء. على الرغم من أن كلمات الأغاني ليس لها ارتباط مباشر بين مسلم ومسيحي، إلا أن بعض التفسيرات للقطعة تشمل أن الفتاة الأناضولية هي في الواقع مسيحية.

في تركيا، هذه الأغنية معروفة بـ Kâtibim أو Üsküdar ' a Gider İken

وتوجد لها إصدارات مختلفة في العالم العربي منها:

يا بنات اسكندرية

طالما اشكو غرامي

غزالي غزالي

ما نلاحظه في جميع قصص الأغاني المذكورة هو أن الرجل دائمًا مسلم والمرأة دائمًا مسيحية، إما سريانية أو أرمنية أو يونانية. وهذا لا يعني طبعاً أن الحب من طرف واحد، وأن الرجل المسلم هو فقط شعر بهذه الطريقة تجاه المرأة المسيحية، ولكن عدم وجود نساء ملحنات في ذلك الوقت جعل من الصعب للنساء التعبير عن حبهن للرجل مسلم أو غيره. وهذا هو الحال أيضًا للأسف في الموسيقى الغربية، مع وجود عدد قليل جدًا من الملحنات المعروفات قبل كلارا شومان في القرن التاسع عشر.

ولكن لماذا لا توجد أغنية حب كتبها رجل مسيحي لإمرأة مسلمة؟ هناك عدد من النظريات والفرضيات.

أولاً، تاريخ المسيحيين في الإمبراطورية العثمانية هو في الأساس تاريخ من الاضطهاد إلى حد ما، تمامًا مثل تاريخ العديد من الأقليات الأخرى التي عاشت داخل الإمبراطورية. لذلك قد يكون من المنطقي الاعتقاد بأنه من غير المرجح أن يقع المظلوم في حب الظالم، ولكن الظالم، بما أنه في موقع قوة، قد يقع في حب المظلوم لأنه قد يعتبر أنه لا يوجد شيء خارج نطاقه.

ثانيًا، بموجب الشريعة الإسلامية، وبغض النظر عن المدرسة الفكرية، لا يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج بغير المسلم، سواء أكان كتابياً، أم كان مشركاً، أم كان ملحداً لا دين له، مستدلا بالآية القرآنية: "ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم." بينما يجوز للرجل المسلم أن يتزوج من غير المسلمات اللواتي يستوفين تعريف "أهل الكتاب" والتي تشير عادةً إلى أتباع المسيحية واليهودية.

نلاحظ أيضًا أن 5 قطع من أصل 8 في المقال تستخدم مقام البياتي، حيث يمكن استخدام هذا المقام للتعبير عن العديد من المشاعر، وخاصة الحب. كما ذكرنا سابقًا، يُعرف البياتي أيضًا باسم Uşşâk، والتي تُترجم إلى "عشاق" باللغة العربية، تستخدم العديد من أغاني الحب هذا المقام لإيصال الولع والحنان والدفء.

عندما كنت أفكر في كتابة هذا المقال، لم أكن أتوقع أن أجد كل هذه التشابهات بين المقطوعات، كنت ببساطة أفكر في أنه يجب وضع قائمة بهذه الأغاني من أجل توثيقها. من يدري، ربما لا تزال هناك العديد من القطع المماثلة الأخرى، والتي تجتمع على فكرة الحب المستحيل.