عن عبقرية عبلة كامل، وتلقائية التمثيل الذي لم يعد موجوداً

إذا شاهد شخص الدراما العربية ليتعرّف علينا أكثر، سيظّننا شعوب لا نتفوه بالشتائم مطلقاً

بدون فلاتر أو جلسات تصوير تفوق تكلفتها رواتب كُثر في جيلنا، لا يعجبها شيء وتختصر حركاتها جميع حالاتنا المزاجية. تتصور بالجلابية المصرية التي قد تلبسها الكثير من الخالات والأمهات، وإلى جانبها قد يظهر كوب شاي أو تتكئ على كنبة عادية في مشهد يذكرنّا بمنازل جدّاتنا، بينما تحضن ما يخيل لي أنه أحد أحفادها. أذكر أمي وهي تنتظر بترقّب الحلقة الجديدة من “لن أعيش في جلباب أبي” ومع نفوري لكل ما في المسلسل من قيم ذكورية تتمثل بخوف الجميع من الأب المُسيطر، وخاصة الإناث اللاتي تريّن في الأخ أمل العائلة الوحيد، إلا أن أداء الأم عبلة كامل كان قادراً على أن يشدّني بطبيعيته وتلقائيته منذ ذلك الوقت.

عبلة ذات المظهر الطبيعي، لم تمر ببساطة في الدراما والسينما المصرية، وإنما وضعت مدرسة خاصة بها، لتجد جمهورها يتسعّ ليشمل الجميع تقريباً، يصعب أن تجد أحداً لا يحب عبلة أو لا يفرحه وجودها في مشهد ما. وفيما تعودّت السينما العربية على النجمات الفاتنات، ذوات الصوت المرهف والنعومة الزائدة، استطاعت عبلة كامل بموهبتها أن تأخذ أدوار بطولة وتضيف عليها من شخصيتها الخاصة. فبمجرد أن تلعب عبلة دور، لا تستطيع أن تتخيله بأداء سواها.

هي جذّابة بطريقته الخاصة، أسلوبها الحقيقي وغير المتكلّف يجعلها ممثلة للطبقة الوسطى وللأمهات من جيل كامل، وإذا كنت تعتقد أن هذا أمراً عادياً، ففكر مرة أخرى بمدى صعوبة أن يختصر شخص واحد فئة تشمل الملايين. بالرغم من بعدها عن اللقاءات الإعلامية إلا أن أصالتها واضحة وتفرض ذاتها فهي دائماً ما كانت عبلة التي يحبها الجميع، حتى الأجيال التي لا تشاهد التلفاز كثيراً، يستخدمون تعابيرها في صور ميم أو جيف.

 بالصدفة، وجدت حساب عبلة كامل على إنستغرام ليفاجئني ويشدنّي مرة أخرى بمدى بعده عن حالة التصنّع الموجودة عموماً لدى “النجمات والنجوم” العرب على السوشال ميديا. وكأنها تمثّل جيلاً كاملاً من النساء في منطقتنا، ممن وُجدن بسببها من يشبههن على الشاشات. لم أكن من المتابعين الشغوفين للدراما العربية بشكل جدّي يوماً ما، وسأذكر هنا ثلاثة أمور أعتقد بأنها ساهمت بإبعادي أنا وكُثر من جيلي عنها إلى حد ما، لنجد لنا في الدراما المُقدمّة باللغة الإنجليزية ملجأ بديلاً.

رؤية محدودة
الدراما العربية في السنوات الأخيرة بدأت تبتعد عنّا، وهنا لا أعني جيل الألفية أو زد فقط، بل حتى جيل آبائنا وأمهاتنا. فمثلاً طالما كان مظهر الممثلات المُنمّق بشكل غير منطقي عند الاستيقاظ من النوم أو في مشهد يُظهر البطلة وهي تطبخ مثلاً أمراً باعثاً على السخرية في الجلسات العائلية العربية. وقد يرجع جزء من سبب ذلك لرؤية كثير من صانعي الدراما في منطقتنا للمُمثلة الأنثى على أنها: عامل جذب بمظهرها لزيادة المشاهدات وجلب التمويل، بما يفوق رؤيتهم لقدراتها التمثيلية، وربما لسيطرة الرجال على صناعة الدراما، وبالطبع هذا الأمر ليس حصراً على الدراما العربية، لكنه ملاحظ بشكل أكبر بكثير فيها.

وهنا نرجع لعبلة كامل، التي مثلّت استثناء حتى في مظهرها الجميل بطبيعته العاديّة. وليس مسلسل “ستيليو” والكثير من فيديوهات “تيك توك” الكثيرة التي تتناوله إلا مؤشراً على استمرار هذه النقطة حتى يومنا هذا. فنادراً ما نرى المرأة عاديّة المظهر، بينما نرى الرجل البدين وذو البشرة المُجعدّة أو الشعر الأبيض في أدوار كثير، بينما قد يقتصر دور المرأة التي لديها هذه الصفات على “الطابع الكوميدي” الذي بالغالب ليس كوميدياً.

شعوب مهذبة.. جداً
بعيداً عن موضوع المظاهر غير الواقعية، هناك أيضاً الحوارات والنقاشات المُهذبة بطريقة مبالغ بها في المشاهد المُختلفة، مهما كان النقاش حاداً. لدرجة إنه إذا شاهد شخص ما الدراما العربية ليتعرّف علينا أكثر، سيظّننا شعوب لا نتفوه بالشتائم مطلقاً، وما عليك سوى أن تمشي في أي شارع عربي لترى مدى بُعد ذلك عن الصحة، حيث نتفنن بالشتائم من المحيط إلى الخليج، بل حتى نجحنا بتوريد بعضها لشعوب أخرى.

لا ألوم بالطبع صانعي الدراما المخصصة للبث على التلفزيونات على هذا الأمر، فقد ترفض الرقابة أعمالهم إذا تحلّوا ببعض الواقعية، أو قد يخشون الحساسية الزائدة لدى المشاهد العربي الذي يتقبّل كل شيء ما دام يقدم له بلغة أخرى. وما الهجوم الذي طال مسلسل “بنات الروابي” الذي انتجته “نتفليكس” إلا دليلاً على هذه الحساسية. لكن بالمقابل فإن النجاح الذي حققه المسلسل لدى فئة كبيرة من الشباب هو دليل على وجود طرق للتطور دائماً، مهما بدت البيئة العامة مُحبذّة للنفاق.

التهذيب لا يتمثل بخلو الحوارات من الشتائم فقط، لكن المواضيع التي يُتطرق لها غالباً تتسم بكونها Fluffy أو ناعمة بشكل مبالغ به، وحتى إذا تم التطرق للأمور الأكثر “ظلمة” إن صح التعبير (المخدرات، الجنس، الفساد المالي، الخيانة..) فهي تتم بطريقة سطحية، تخلق مسافة أمان تختبئ خلفها، فمثلاً غالباً ما تجد الشخصيات إما جيدة بصورة ملائكية فهي لا ترتكب أي رذائل إلا ما ندر وبصورة مبررة، أو تكون الشخصيات شريرة بالمطلق. بينما في الحياة لا وجود لهذا التصنيف، فكلنا نحمل صفات تتداخل بين الأثنين دائماً.

فئات مهمشة وصور نمطية مُبالغ بها
الشخصيات ذات الجانب الواحد ليست السمة الوحيدة في الدراما العربية، فغالباً ما يتم إما تجاهل فئات بأكملها، أو إبرازها ضمن صورة نمطية واحدة، وقد يكون أبرز هذه الفئات: المثليين ومجتمع الميم أو اللادينيين أو حتى اللا إنجابيين، ولكنهم ليسوا الوحيدين، فمن النادر أن ترى في الدراما العربية أصحاب الحيوانات الأليفة أو محبي موسيقى الميتال أو النباتيين.. وإن وجدتهم، تكون شخصياتهم سطحية بصورة مقززة، كأنك تقرأ رواية ركيكة.

مثلاً، الفتاة المتمردة على المجتمع، دائماً ما تلبس اللون الأسود وتقص شعرها قصيراً وهي بالطبع ترتاد الملاهي الليلية، التي تظهر كأماكن غريبة كأنها صورة مستمدة من خيال شخص لم يخرج من بيته. وكأنه لا توجد فتاة “متمردة” على مجتمعها بشعر طويل وملابس أنثوية. بينما اللاديني، الذي طلّ فقط عبر الدراما السورية، هو إما يشرب الكحول بشكل مستمر، أو متجهّم من الحياة دائماً، وكأن جميع هذه الشخصيات فصلّت عند نفس الخياط. وبغض النظر عن الحبكات الدرامية، فإن بناء الشخصيات هو أبرز ما يميز أي عمل درامي عن سواه، وهو ما يعطيه العمق.

هناك الكثير لنذكره بعد، مثل التمثيل غير المنطقي للبيوت المنمقة، ولحياة الأغنياء والقصور والسيارات الفارهة الخاصة بهم، الذين لا يمثلون إلا فئة قليلة بالمجتمعات العربية، وكأس الكحول الذي يصبح شاربه يتلكأ في الكلام ويترنّح بعد شفتين منه فقط. لكن لا مجال لذكر التفاصيل كلها هنا.

أخيراً، أن ترى ما يمثلك أو يشبهك على الشاشة ناطقاً بلغتك، ليس أمراً هامشياً أبداً، بل مسألة جوهرية لها تأثيرها في تكوين هويتك، وتقبلها ضمن بيئتك وثقافتك، ورؤيتها بعين المشاهد قد يكون له دوراً في المساهمة بالشعور بالانتماء وتقبل الاختلاف في مجتمعاتنا، والابتعاد عن مفهوم الطيف الواحد. وحتى يحدث ذلك، يبقى حساب عبلة كامل يشعرني بالحنين لواقع تكون فيه الدراما العربية تشبهنا باختلاف أجيالنا وأطيافنا.

*لا يُقصد التعميم على كل الأعمال بالدراما العربية كونها تفتقد للعُمق وتميل للسطحية، فلا ينفي وجود استثناءات فيها.