مقال رأي

من النفي إلى تيك توك: المطربة عتاب والصوت الذي نسي القواعد

رقصة عتاب على إيقاع أغنية "جاني الأسمر" عام ١٩٨٥ غيرت حياة هذه المطربة السعودية للأبد
أحمد ندا
إعداد أحمد ندا
Gani Al Asmar 2

كل شيء بدأ بتحدٍ على "تيك توك." انتشر هاشتاغ رقصة_عتاب على الموقع، برقصة، تصاحبها موسيقى لأغنية قديمة. كان من اللافت أن ينتشر ذلك التحدي، وهذه الفيديوهات، لا بأغنية حديثة أو بتطويع واحدة من التحديات الأمريكية كما يحدث في العادة، بل بأغنية قديمة عمرها يزيد عن ثلاثة عقود: الأغنية هي "جاني الأسمر" والمطربة السعودية هي "عتاب."

شهدت الأغنية/الفيديو نوعين من الانتشار، الأول هو التحدي والثاني هو تركيب الفيديو القديم لعتاب بأغنيها على أغان مختلفة، الأكثر لفتًا للانتباه أن تفاعل الجيل الجديد مع "عملية الإحياء" هذه أتت بكثير من الحفاوة ورد الاعتبار للمطربة الراحلة، التي ماتت عام ٢٠٠٧، لكن صوتها غاب عن الساحة لسنوات أطول. على الرغم من أن الجيل الجديد في معظمه لم يعش ليشهد ذروتها الفنية، لكن عتاب - في كل الأحوال- عادت. 

إعلان

على مسرح بالقاهرة
في عام ١٩٨٥، وقفت عتاب على خشبة أحد مسارح القاهرة، لتغني للمرة الأولى أغنيها الأشهر "جاني الأسمر" كان حدثا "عاديًا" تمامًا، مطربة من بلد عربي تحاول أن تبدأ مسيرتها الفنية حيث "الاعتراف" هو الطموح الأكبر لكل مطرب عربي وقتها، كما حدث سالفًا مع طلال مداح في العام ١٩٧٣ بأغنية "مقادير" ومع محمد عبده في عام ١٩٧٨.

غنت عتاب من كلمات "ثريا قابل" وألحان فوزي محسون أغنيتها "جاني الأسمر جاني." ما أن بدأت الفرقة الموسيقية في عزف المقسوم الخليجي، حتى تخلت عتاب تمامًا عن حذرها وهيبة المسرح التي حاصرت عديدين من قبلها. ما أن بدأت الموسيقى حتى انطلقت عتاب في الرقص على إيقاع الأغنية تقودها خفة الاستمتاع، الشيء الذي لم يتبد على هذه المسارح بهذه الأريحية التي قدمتها عتاب.

قامت عتاب بشيء ربما لم يروه من قبل، ذا نسق، لكنه ارتجالي، خطواته مدروسة، لكنه منطلق. وهو الشيء الذي لم يكن معتادًا إلا بتحفظ شديد على المسارح العربية، حيث تمايل صباح مع أغانيها الجبلية، أو دبكات نصري شمس الدين ووديع الصافي -أيضا بحذر- خارج العروض المسرحية. وكانت مسارح الغناء المصرية بالكاد تتقبل -على مضض- حرية حركة عبد الحليم حافظ وتصفيره مع الجمهور. كانت الصورة التي يحبها المسرح الغنائي هو ثبات أم كلثوم بمنديلها، وتخشب فيروز كتمثال من الشمع.

كانت رقصة عتاب هذه في وقتها لحظة أيقونية بامتياز، المطربة الآتية من عالم "غامض" نوعًا ما على الجمهور العربي، حيث السعودية هي البلد المنغلق على ذاته، المتحفظ حتى مع مطربيه الذكور. لم يبد أن عتاب تعاملت مع هذه اللحظة بكل حمولتها الاجتماعية الثقيلة، بل استسلمت تماما للمتعة، وهو ما جعل حياتها تتحول إلى الأبد.

إعلان

تاريخ سابق على الرقصة
في عام ١٩٦١، أسس الموسيقار طارق عبد الحكيم فرقة موسيقى للإذاعة السعودية، التي تعتبر تأسيسًا فنيًا مهمًا للأغنية السعودية. كان عبد الحكيم من الجيل الأول الواعي بأهمية التأسيس الفني وقولبة الأغنية السعودية، نتج عنه خروج أسماء كبيرة في عالم الغناء استطاعت أن تنقل هذه الأغنية السعودية من حدود المملكة إلى جمهور أوسع خارجها على أيدي الكبيرين طلال مداح ومحمد عبده. 

مرحلة التأسيس كانت تبشر بنهضة موسيقية كبيرة في المملكة، شهدت ظهور أصوات نسائية -وإن لم يظهرن في الحفلات العامة- مثل توحة وابتسام لطفي، خاصة في الستينيات والسبعينيات. هذه السمات بشرت بصعود سريع وجماهيري للأغنية، والأهم للمساهمة في تغيير الصورة النمطية عن المجتمع السعودي. 

عتاب.. كانت واحدة من هذه التجارب التي أعادتها مواقع التواصل من تحت أنقاض الصحوة. عادت في الفترة التي تتغير فيها السعودية وتعيد مساءلة الماضي، والأهم إعادة الاعتبار لمن كانوا من ضحاياها

عزز ظهور عتاب من إضفاء التنوع على المنتج الموسيقي السعودي، فهي أكثر خفة ومرحًا من سابقتيها. وهي الآتية من العالم الخفي في عالم الأفراح السعودية وهو عالم "الطقاقات." والطقاقة كلمة آتية من "الطق" وهو النقر على دفوف والطبول، وهي المرأة التي توكل بإحياء القاعات النسائية في العرس بالأغاني -عادة أغان فلكلورية- وهو احتفال للنساء وحدهن، حيث لا يكتفين فيه بالغناء فقط، لكن بالرقص أيضًا.  كانت عتاب "طقاقة" ويقال عنها أيضًا في الفلكلور المحلي "لعابة" وهي بنت هذه الثقافة "المرحة." ولذلك عندما انطلقت إيقاعات الأغنية على خشبة المسرح، استدعت كل ذلك المرح، وكانت رقصتها التي قلبت عالمها رأسها على عقب.

إعلان

صحوة أوقفت النهضة
رغم الإسهام الكبير الذي قدمه طارق عبد الحكيم وأكمله مداح وعبده، إلا أن فترة الصحوة في بداية الثمانينيات في السعودية، كانت إنذارًا بتعطل كبير في المسيرة الموسيقية السعودية. حيث ابتعد طلال مداح عن الساحة وعن بلاده واستقر في لندن لبضعة سنين، ثم تلاه محمد عبده باعتزال مؤقت دام لسنين أيضًا. كانت الثمانينيات هي ذروة الصحوة ومرحلة سكون مدوية للموسيقى في المملكة. 

بالنسبة إلى عتاب، كانت حفلتها الأولى في القاهرة فرصة، بعدما جربت في سنين ماضية أن تثبت نفسها كمطربة. لم تكن هذه حفلتها الأولى على الإطلاق. إذ قبل هذه الواقعة باثنتي عشر عامًا وتحديدًا عام ١٩٧٢، وكانت ماتزال مراهقة لم تكمل الثالثة عشرة، قدمت بعض الأغاني الفلكلورية في حفلة خاصة قدمها عبد الحليم في المملكة. قامت عتاب وقتها بما تجيد فعله مع الغناء وهو الرقص، ما لفت أنظار عبد الحليم حافظ إليها وبسببها التقطت لها الصورة الشهيرة لعبد الحليم مرتديًا الزي السعودي.

maxresdefault (19).jpeg

يوتيوب

لكن حفلتها الأولى في القاهرة، على أهميتها بالنسبة إليها، لم يكن في ظروف اجتماعية تتقبل بساطتها ورغبتها في إشاعة المرح. كانت الصحوة تقبض بيد من حديد على مقدرات الحياة السعودية، وفي حالتها بالأخص السعوديين خارجها أيضًا. 

على الرغم من الأصداء الطيبة لحفلتها، وتقبل التقليديين من أنصار هيبة المسرح لرقصتها، إلا أن الصحوة لم تتقبل ما اعتبرته انفلاتًا، فلم تشهد عودتها إلى المملكة بعدها ما كانت تتوقعه من شعبية على العكس تماماً، تم تجاهلها وانتقادها، وقررت في النهاية الخروج من البلاد، وهو الخروج الذي بدأت معه تذوي بالتدريج، ومع الأسف قلت جودة أغانيها شيئًا فشيئًا، فلم يعد لها من الأغنيات ما علق في أذهان الجمهور مثلما فعلت جاني الأسمر... حتى وافتها المنية في عام ٢٠٠٧. 

إعلان

استعادة الماضي الممكنة
شهدت السنوات الأخيرة، مع هيمنة مواقع التواصل الاجتماعي، حالة من النفور لدى أوساط الكلاسيكيين حول الإتاحة التي توفرها هذه المواقع. الأسرار صارت من الماضي، المعارف متوفرة وفي كل المجالات، كل شيء موجود ويمكن الوصول إليه بضغطة زر.

الثورات العربية -بخيرها وشرها- هي بنت هذه الهيمنة، حيث ظهرت انطلاقتها الأولى على مواقع التواصل الاجتماعي. ثم التحركات الاجتماعية الكبرى عالميًا مثل "مي تو" و"بلاك لايفز ماتر" وغيرها، من "هاشتاغات" بدأت بتدوينة حشدت الناس وراءها. لكن هذه الإتاحة جعلت الرقابة العامة أكثر انتشارًا وشراسة، خطأ واحد يمكن أن ينهي منجز شخصية عامة، ومكالمة مسربة قد تنسف مستقبلاً. وزاد الجدل حول "ثقافة الإلغاء" التي صارت تضرب شخصيات بشكل عشوائي، وتغير من أمزجة وأذواق فنية لأجل حساسية أقليات صارت الأعلى صوتًا على هذه المواقع. 

بعيدًا عن ذلك الجدل الذي مازال حاميًا ومستمرًا بشكل يومي، فإن هذه الإتاحة جعلت الكثير من أرشيفنا الثقافي مكتوبًا أو مرئيًا أو مسموعًا متاحًا للجميع، دونما تدخل من سلطات تقضي تنظيم هذه المعرفة كما كان يحدث سابقًا. لم يعد ذلك الرقيب الخفي قادرًا على تحديد ما يمكن عرضه على المتلقين وما يجب منعه. أصبح للهامش فرصته في الظهور كما للمتن مساحته. وهو ما أعاد الاعتبار لتجارب أدبية وفنية، اعتقد الكثيرون أنها طويت في أدراج النسيان. 

عتاب.. كانت واحدة من هذه التجارب التي أعادتها مواقع التواصل من تحت أنقاض الصحوة. عادت في الفترة التي تتغير فيها السعودية وتعيد مساءلة الماضي، والأهم إعادة الاعتبار لمن كانوا من ضحاياها. تعرف الشباب السعودي على ماضيه الخفي، الذي كان بعيدًا عن الساحة الرسمية، فعادت عتاب كما أرادت أن تكون حفلتها الأولى: عتبة للمرح. 

عادت عتاب، لأن التعرف على الذات، على المجتمع السعودي، يبدأ بفهم الماضي، معلنِهِ وخفيّه. النظر إليه لا باعتباره حمولة وإرث، وإنما سياق وامتداد.