1 (8) copy

تصوير آية عبد الرحمن

FYI.

This story is over 5 years old.

رأي

ما تعلمته من السفر للصحراء بحثًا عن النجوم

لن تجد قاتلًا ولا ديكتاتورًا عاشقًا للسماء

هل تعرف تلك الصور المذهلة لسماء الليل المزدحمة بملايين النجوم، والصور التي لا يصدقها عقل لمجرتنا وهي تسطع في الصحراء كحبلٍ طويل من الأضواء الملونة؟ النجوم كانت دوماً هوسًا يطاردني منذ طفولتي، وكنت أحلم بقضاء ليلة في الصحراء أراقبها في الظلمة التامة وأستمتع بنور القمر. لم أعرف أن هذا الحلم يدخل في نطاق هواية "الرصد الفلكي" ولم أعرف أن تحقيقه ممكن حتى ثلاث سنوات مضت، عندما قادني بحثي الطويل إلى الجمعية الفلكية لمسجد مصطفى محمود بالقاهرة، ونظرت في التليسكوب لأول مرة ورأيت كوكب المشتري وأقماره الجاليلية الأربعة، فقررت أني سأعيش لتصوير النجوم.

إعلان

كنت في الخامسة والعشرين حين تحقق حلمي أخيرًا بعد أن قررت أن أتعلم التصوير الفوتوغرافي، وأتخصص في التصوير الفلكي بالذات، عندها تكشف الكون لي وتعرى بأجمل الطرق، ومنحني سعادة لم تخطر لي على بال. خلال السنتين الماضيتين قمت برحلات لأفضل مواقع الرصد الفلكي ومنها سرابيط الخادم ورأس شيطان في سيناء، والصحراء البيضاء في الصحراء الغربية، ووادي الحيتان وقصور العرب في الفيوم وشاهدت واستمتعت للعديد من المحاضرات العلمية على مواقع الإنترنت حول التصوير الفلكي. تعلمت الكثير خلال رحلتي مع التصوير الفلكي، ليس أكاديمياً فقط ولكن على صعيد فلسفي وروحي. إليكم بعض هذه الأمور التي تعلمتها من رصد النجوم:

سيصبح القمر عدوك
قد يكون ذلك مفاجئاً للبعض ولكن موقفي من القمر تغير خلال رحلاتي الفلكية، وليس بشكل إيجابي. في الصحراء، كانت أحلامي الطفولية تتضمن مشاهدة القمر في قلب الصحراء، ولكن الحقيقة أنني كرهت القمر جدًّا بعدما رأيت ما يفعله في الليل الحقيقي بعيدًا عن المدينة حيث أن ضوءه الساطع يُغطي على النجوم، هذا التأثير الشرير للقمر جعل دعائي الأثير هو "يا رب تكون ليلتي سودا." لهذا أتخير وقت سفري دائمًا ليكون في نهاية الشهر القمري، عندها أستطيع الاستمتاع بليلة مظلمة حتى الثالثة فجرًا، وأراقب شروق القمر بعدما أشبع من النجوم.

في رحلتي الاخيرة لجزيرة دهب جنوب صحراء سيناء، ذهبت لمحمية وادي أبو جالوم والتقطت هذه الصورة في ضوء القمر، والنتيجة كما ترون، كثير من الضوء، وقليل من النجوم.

سيصبح لديك قصص ممتعة عن النجوم
كانت السماء مربكة لي أول الأمر، ملايين النجوم تبدو صعبة القراءة وتبين مفتاحها، وأحيانًا كانت تسيطر عليّ حسرة من لا يعرف كيف يتواصل مع محبوبه، ولكن في النهاية حفظت خريطتها كاملة. ضمنت لي معرفتي بالسماء رحلات أكثر متعة، وسهرات تمتد من الغروب إلى الفجر وأنا أنظر لأعلى وأراقب حركتها، قد يستغرب البعض هذا لكن السماء لا تصيبك بالملل أبدًا.. نجوم، مجرات، سدم، زخات شهب، إنها ثرية جدًّا وستأخذ تفكيرك لأجواء خيالية. في رحلاتي ألتقي عابرين يتساءلون "بتعملي إيه يا مجنونة" وهم يرونني أصوِّر الفراغ، أو أجلس وحيدة في الصحراء ليلًا أمام الكاميرًا لألتقط صورة تذكارية مع بيتنا الأول: مجرة درب التبانة، فأخبرهم بهوايتي وأحكي لهم قصصًا عن النجوم تجعلهم يسمعونني طيلة الليل. يتحمسون كثيرًا للأساطير الرومانسية المتعلقة بالنجوم مثل قصة الدبران والثريا، والقصص الملحمية مثل العقرب والصياد. بحسب الأسطورة العربية، كان الدبران شخصاً فقيرا في حين كانت الثريا فتاة جميلة، وقع الدبران في حبها وأراد خطبتها، ولم يكن له أحد عائلة ليأخذها معه، فذهب إلى القمر وطلب منه مرافقته، واستجاب القمر ولكن الثريا رفضت الدبران لأنه فقير، ولكنه أصر على الزواج منها، ولم يملك إلا عشرين غنمة فأخذها كلها إلى الثريا لكي تقبل الزواج منه، وأصبح الدبران يتبع الثريا في السماء إلى الأبد ومعه أغنامه، وتظهر هذه الغنمات إضافة الى كلبيه كنجوم في السماء بالقرب من الدبران، وقد ضرب العرب المثل فيهما فيقولون "أوفى من الدبران وأغدر من الثريا." أما قصة العقرب والصياد فتقول الأسطورة إن الربة غايا حرَّضت العقرب على قتل الصياد (أوريون)، وسلحته بدرعٍ لا تُخترق، لكن الصياد انتبه لتسلل العقرب الغادر فهرب، ألقى نفسه في المحيط وحاول السباحة فاقتنصت الربة أرتيميس روحه، ولهذا انبثقت كراهية أبدية بين الصياد والعقرب، ما أن يشرق أحدهما حتى يغرب الآخر، ملعونين بمطاردة أبدية في السماء. في كل مرة أروي هذه القصص للغرباء خلال رحلاتي الاستكشافية أو أدلهم على النجم القطبي واتجاه الشمال أجدهم يتقافزون من الفرح أمامي. وحين أرحل أكون قد اكتسبت أصدقاء جدد.

إعلان

مجرة درب التبانة

ستتغير نظرتك لنفسك ولمعنى الحياة
هل تتخيل ما يحدث في عقلك حين تنظر للسماء لليالٍ طويلة دون توقف؟ قبل عامين تعرضت لهزة إيمانية مرعبة غيرت رؤيتي للعالم ونسفت كل ما شكَّل شخصيتي، وأفقدتني الرغبة في الحياة، وتعاطفي مع الآخرين ولم أسترد نفسي إلا في حضن السماء. أرى أن تأمل النجوم هو تأمل في ذواتنا نحن، فقد كنت أنظر إلى نفسي وأنا أتتبع حركة السماء طيلة الليل، أعيد ترتيب أفكاري ومعتقداتي، وأتوه في عقلي وأعيد تأويل العالم. كان جمالها يحركني لأتساءل عن مهندس هذا الوجود العظيم، وكيف يخفى عنا، وأتساءل عن صفاته المنعكسة في ذلك التصميم المتقن للكون. في ليالٍ أخرى كنت أتخيل النجوم أرواحًا ارتقت للسماء بشكلٍ ما، وأتساءل عمَّا سنجد بعد وجودنا هذا، وما لو كانت حساباتنا جميعًا خاطئة؟ الأسئلة كانت كثيرة للغاية، أبحرت معها في كينونة الله، وهندسة الخلق، واستطعت الوصول لفلسفتي الخاصة التي أعيش بها، وخفَّ عني عبء الوجود. جعلتني النجوم شخصًا أكثر تصالحًا مع الحياة، وأقدر على تقدير الجمال. يقولون إن علم الفلك يُعلمنا التواضع، يرينا حجمنا الحقيقي في الحياة، مجرد نقاط تافهة تعبر بالتاريخ. لن تجد قاتلًا ولا ديكتاتورًا عاشقًا للسماء، هذا حقيقي تمامًا، وأضيف عليه أن السماء تتوِّهنا لكنها تعيدنا إلى أنفسنا الحقيقية.

شروق القمر في خليج العقبة، جنوب سيناء

ستضطر إلى التنجيم أحيانًا
تعلمت التصوير الفلكي خلال سنة واحدة، وبعد أول صورة فلكية لي تلقيت أسئلة تليق بـ"مُنجِّمة" مثل: "أنا من برج القوس، ماذا يقول طالعي؟" "أنا برج سرطان، فمتى أتزوج؟ وقد شهد أحد أصدقائي في رحلةً فلكية فتاة سافرت لمئات الكيلومترات لتعرف هل تتوافق مع حبيبها فلكيًّا أم لا. كنت أترفق بالسائلين في البداية، ولكن بمرور الوقت صرت أصدمهم: الأبراج مجرد مجموعات نجمية في السماء، تظهر في فصول بعينها وتختفي، لا تؤثر على شخصيتك وقصة حبك، ولا تهتم لك بالمرة. هذه الإجابة تحزن البعض، ولكن في كل مرة يحاولون إيجاد طريقة ما للحديث عن أبراجهم، أؤكد لهم في كل مرة أن ما يطلبونه محض تنجيم لا حظ له من الصحة. ولكن بتكرار إلحاحهم أفكر أحياناً في إحتراف النصب، ما دام البشر يُحبون من يخدعونهم فلا بأس بجني بعض المال، وربما أجد نفسي بطلة الجزء الثاني من فيلم أحمد زكي "البيضة والحجر" (عن مُدرس فلسفة يطرد من عمله بسبب آرائه السياسية ويضطر لإحتراف مهنة الدجل والشعوذة).

لقد اهتديت بالنجوم لأعود، حرفيًّا ومجازيًّا، أعادتني للمدينة وأصلحت قلبي المحطم بإحكام، ومنذ تلك الليلة لم أشعر بالوحدة قط، حتى ولو كنت وحيدة فعلًا

أزماتي النفسية، وداعاً
في مايو الماضي مررت بأزمة صحية طاحنة لكنني لم أجد تشخيصًا طبيًّا واضحًا، فتركت كل شيء وأخذت كاميرتي وانطلقت إلى سيناء، وأمضيت خمسة وثلاثين يومًا مررت خلالها بطابا ورأس شيطان ونويبع ودهب وشرم الشيخ في صحراء سيناء. لم تكن حالتي النفسية جيدة أيضًا، كنت أمر بأزمة عاطفية وصدامات عائلية، وبلغت مرحلة لا أستطيع فيها التصالح مع خساراتي الفادحة في الحياة، ولا تحمل الوحدة التي تأكل روحي أكلًا في ليالي القاهرة الباردة. ذات ليلة، فقدت طريقي في الصحراء، مشيت شاردة حتى خرجت عن مساري وغاب عني صوت البحر، وكان الظلام دامسًا لدرجة أني لم أر يدي، ولم يعد مصباحي قادرًا على كشف الطريق. كانت تلك أعمق لحظات حياتي وحدة، ولم يكن الشعور سيئًا، كان طاغيًا ومحطمًا، مرعبًا قليلًا، ولكن بشكلٍ نقي وعذب. في عمق الصمت امتدت خريطة شديدة الوضوح والتشابك لكل ما صنعني، كل الأشياء التي تجعل مني شخصًا جيدًا، والأشياء التي تُحطم قلبي، والأشياء التي تُشعرني بوحدة لا يداويها شيء، حتى أصدقائي وعائلتي والرجل الذي أحب. رأيت منبع كل هشاشة داخلي، ورأيت حقيقتي كما لم أرها من قبل. لم يطل تيهي، بعد ربع ساعة تقريبًا خرجت من مدقٍ جبلي ورأيت أضواء المدينة من بعيد، عدت إليها بعد ساعة، لكنني لم أعد كما تركتها، لقد اهتديت بالنجوم لأعود، حرفيًّا ومجازيًّا، أعادتني للمدينة وأصلحت قلبي المحطم بإحكام، ومنذ تلك الليلة لم أشعر بالوحدة قط، حتى ولو كنت وحيدة فعلًا.

الطمع لا يقل ما جمع
كنت أتخيل أني أحتاج عشر صور فلكية لأشبع، لكنني مازلت شرهة في تصوير جمال السماء كلما خرجت في رحلة للصحراء، صورت ذراع المجرة ألف مرة، والمجموعات النجمية كل على حدة، وشروق القمر، وما زالت لدي ألف صورة أريد التقاطها. إلى جانب هذا سحرتني النجوم لدرجة أني أراها مناسبة في أنواع تصوير أخرى وأقحمها فيها. لا تزال طموحاتي كبيرة في التصوير الفلكي، هو السماء التي أعود إليها مهما تعددت أنواع التصوير التي تستهويني، فوحده يأخذني بعيدًا عن العالم، ويفتح لي أبواب الكون ويريني ما لا يرى الآخرون، وإذا كانت رحلاتي للصحراء متباعدة، فيكفيني أن النجوم لا تفارق أحلامي.

صورة من حفل زفاف صديقاي شريف وشروق في مركب نيلي تحت كوكبة الصياد (أوريون)