117364570_2723693097845048_7811640264892176781_o

الممثل المصري أحمد أمين، الذي يجسد شخصية البطل، الدكتور رفعت إسماعيل.  الصور من نتفيلكس.

مسلسل

شاهدتُ مسلسل "ما وراء الطبيعة" ولم يبهرني

حُكمي على المسلسل ناتج من مشاهدتي له دون أن أي أحكام مسبقة تتعلق بسلسلة الروايات

يوجد حرق للأحداث في هذا المقال.

"غوريلا في وسط صحراء ليبيا يا عمرو؟ منتهى الرؤية الإبداعية." لم أجد سوى هذه الكلمات لأرد على الغوريلا أثناء مشاهدتي للمسلسل المنتظر "ما وراء الطبيعة" على نتفليكس، والمستوحى من سلسلة الكاتب المصري الراحل أحمد خالد توفيق. وعلى الرغم من محاولاتي هضم المسلسل منذ الحلقة الأولى، إلا أن ظهور الغوريلا في الحلقة الثالثة كان كوميديـًا ودرامياً أكثر من قدرتي على السكوت.

إعلان

وقبل الحديث عن المسلسل على المستوى الفني، فلنعود لما حدث قبل عرضه.  فقبل ساعات من بث المسلسل، خرج علينا المخرج المصري عمرو سلامة بمنشور يتضمن "اتيكيت خاص لمشاهدة المسلسل" ومن ضمن قواعد المشاهدة وفق رؤية عمرو، أن تشاهد العمل على شاشة كبيرة وبصوت عالي، واستلهم عمرو أثناء كتابة المنشور روح فيلمه (لا مؤاخذة)، حيث أسلوب المدرسة والتلقين، وقال لنا: "يا ريت بلاش أكل بقى وحوارات جانبية ورغي نركز علشان في ناس غلابة تعبوا في كل لقطة."

أظن أن كثيرًا من المشاهدين لم يستمع إليه، وأنا من ضمنهم، فقررت حضور المسلسل صباحاً، وليس في غرفة مظلمة كما طلب عمرو. جلست أمام اللاب توب (شاشة ١٣ إنش، الممثلين صغيرين قوي يا عمرو، معلش) في صباح يوم مشمس، ووضعت أمامي كوبـًا كبيرًا من الشاي بحليب، لأغمس أصابع البقسماط المقرمشة، وأشاهد الدكتور رفعت إسماعيل (الذي يقوم بدوره أحمد أمين) يقول: قانون رفعت إسماعيل رقم ٥، لو عقلك لاعبك، خده على قد عقله. ثم أقول لنفسي: لو عمرو سلامة لاعبك خد على قد عقله.

أترك المسلسل بعض الوقت حتى منتصف اليوم، ثم أتناول طبقـًا كبيرًا من السلطة أثناء استكمال المشاهدة دون أن أضع سماعتي داخل أذني، فصوت اللاب توب جيد جدًا. يأتي الليل لأشاهد الحلقة الأخيرة مسترخيًا على سريري. عذرًا عزيزي عمرو، لم أستطع تلبية أياً من تعليماتك بالمشاهدة -أفلام الرعب علمتني أن أكون متمردًا.

بالعودة للمسلسل، أنا من بين الأقلية المنبوذة التي لم تقرأ سلسلة روايات (ما وراء الطبيعة)، فولعي الأول والأخير لطالما تعلق بكل ما هو مرئي. هذا الولع في كثير من الأحيان يزيل عن كاهلي عبء المقارنة بين عمل أدبي عظيم واقتباسه في السينما. وبعد سنين من المشاهدة أدركت أنني من مفضلي العمل السينمائي أولًا ثم قراءة العمل الأدبي، ولا أعلم كم عدد هؤلاء الذين ينتمون لتلك الشريحة. وهذا يأخذني لعبارة قالها الراحل الدكتور توفيق عن علاقة الأدب والسينما "أي فيلم يُقدم عن رواية شهيرة لا يروق لقراء الرواية حتى لو أخرجه ستانلي كوبريك نفسه. لكنه بالطبع يروق جدًا لمن لم يقرأوا الرواية."

إعلان

إذًا، من الصعب أن يقتنع قارئ مغرم برواية، بعمل سينمائي أو تليفزيوني يختصر القصة في ساعتين أو حتى مواسم، لذا فأنا من أنصار الفصل بين الأدب والأعمال المقتبسة منه. فالمنتج الأدبي عندما يتحول لفيلم أو مسلسل أصبح منتجـًا جديدًا يمكن أن نضع له معايير حكم مختلفة عن الأدب. وحُكمي على مسلسل (ما وراء الطبيعة) ناتج من مشاهدتي له دون أن أي أحكام مسبقة تتعلق بسلسلة الروايات.

117445083_10163901643900243_8490889047195429879_o_20200808104540.jpg

الدكتور رفعت إسماعيل، والممثلة اللبنانية رزان جمال، التي تلعب دور حبيبته ماجي ماكيلوب.

أعلم أن كثيرين رسموا شخصية رفعت إسماعيل في عقولهم منذ صدور أول رواية في السلسلة عام ١٩٩٤، إلا أن اختيار الممثل أحمد أمين للقيام بدور الدكتور رفعت  كان موفقاً في ظني، فأنا من محبيه، لأنه فنان غير مفتعِل. والجيد في دوره هذه المرة أنه رغم جديته الشديدة والظاهرة على ملامحه، إلا أنه مازال قادرًا على إضحاكي. ربما لأن صورة أمين في برنامج البلاتوه وشخصية سمسم في مسلسل "الوصية" مازالت عالقة في ذهني. وهذه ميزة كبيرة، أن تكون قادرًا على الإضحاك في قمة التراجيديا دون أن تقول كلمة كوميدية واحدة، ونجيب الريحاني أبرز نموذج لممثل عربي قام بذلك.

تكونت لدي صورة عن رفعت إسماعيل مع أحمد أمين، الحركة المرتبكة لجسده الهزيل، نظرات عينه المتشككة وربما الحاقدة أحيانـًا على زميل دراسته السابق (لوي). ولكن نبرة صوت أمين أصابتني بعدم الراحة في لحظات معينة، الصوت مفتعل في بعض المشاهد، مما ذكرني بطريقة حديث كمال الشناوي في أفلام كثيرة عندما يخفض صوته محاولًا أن يكون شريرًا أو مسيطرًا.

هناك محاولات لجعل المسلسل محليـًا لدرجة كبيرة، وظهر ذلك من خلال وجوه الممثلين، وأبرزهم سماء إبراهيم التي قامت بدور رئيفة، فرغم أنها ليست بطلة العمل، إلا أن أداءها كان صادقـًا ومؤثرًا، فشعرت معها بالأم والأخت المصرية الكبيرة التي تمتلك حبـًا جارفـًا لأبنائها وإخوتها، لكنها حازمة جدًا في نفس الوقت. كذلك نجح فريق العمل في تقديم صورة وموسيقى جيدة، وإن كانت غير مصرية الروح وتأثرت بشكل كبير بالموسيقى الغربية واستخدام آلات معظمها غربي، إلا أنها لاءمت الحالة العامة والتقليدية لمسلسل رعب. 

إعلان
سماء_إبراهيم_20201107202801.jpg

سماء ابراهيم بدور رئيفة.

السيناريو بشكل عام كان متماسكـًا، وإن كان الأمر يتخلف بين حلقة وأخرى، ففي حلقة أسطورة الفرعون والنداهة -التي وجدت أنها الأفضل- وجدت الإيقاع سريعـًا وواضحـًا، أما في حلقة أسطورة البيت كان الإيقاع بطيئـًا جدًا يصل حد الملل. وربما يكون هذا التضارب في الإيقاع ناتج من عاملين، أولهما ورش الكتابة التي لا تمثل دومًا أداة تقدم المأمول من الإبداع الجماعي. وتوفيق نفسه، ربما، لم يكن من مفضلي هذا النوع من الكتابة فقال "لا أحب ورش العمل في السينما، أفضل الأفلام هي التي يكتبها كاتب واحد، والأفضل لو كان الكاتب هو المخرج." والسبب الثاني، يتعلق بأن شخصين قاما بإخراج الحلقات الست، عمرو سلامة والمخرج الإماراتي ماجد الأنصاري. الأخير امتلك أدوات مختلفة، عن عمرو سلامة، تشعر بها أثناء مشاهدة العمل، فمثلًا، حلقة لعنة الفرعون والنداهة تميزا بسلاسة في السرد، وسرعة الأحداث، على عكس حلقة الجاثوم (الحلقة الخامسة) والمنزل (الحلقة الأولى). 

وبالرغم من محاولة العمل أن يكون مصريـًا جدًا، إلا أن المسلسل ظهر متأثراً -ولا أريد أن أقول مقلداً- بأعمال سينمائية شهيرة صنعها الغرب مثل فيلم The Shining لستانلي كيوبريك، الذي يمكن ملاحظة وجود لقطات مستوحاة منه، مثل لقطة محاولة شق الباب من المنتصف بالساطور، مشهد كلاسيكي لجاك نيكولسن في هذا الفيلم، ويمكنكم التركيز أيضـًا مع موسيقاه لملاحظة التشابهات. وهناك تشابه مع فيلم The Orphanage لاحظوا التشابه الشكلي بين الطفل طه في المسلسل، وسيمون في الفيلم، وجزئية قيامه برسم المنزل المسكون على أوراق بيضاء. أيضاً ظهر هناك شبه بين العفريتة شيراز، والطفلة من فيلم The Ring. أثناء مشاهدة المسلسل، ستتذكر الكثير من أفلام الرعب بلا شك.

إعلان
9d01cfde2123829a7c6ccc9aa726ce11.jpg

ريم عبد القادر بدور شيراز.

"ما وراء الطبيعة" هو المسلسل رقم ١١١ الذي يدعي بأنه أول مسلسل رعب عربي، ولكن وصف رعب ومرعب قد يكون مبالغاً فيه. استخدم المسلسل تيمة الرعب من المجهول التي أصبحت تقليدية، الرعب القادم من داخل العقل. وقرر صناع العمل الاعتماد كذلك على الرعب القادم من وحش. ما فعله سلامة وفريق العمل، لم يكن جديداً، إذا لم يحاولوا تحريف أبجديات سينما الرعب من حركة كاميرا بطيئة وزوايا منخفضة لأقدام تتحرك، ثم موسيقى تزداد صخباً كلما اقتربنا من شيء مرعب، وإضاءة خافتة في مشاهد كثيرة لأنها تساعد على تأهيلنا النفسي للرعب، دم، صراخ وموسيقى تتوغل وتستمر.

والآن لنترك كل ذلك، ودعوني أركز على الأمر الأهم والأكثر كوميدية - الغوريلا. نحن نعلم أن دراما الرعب ليست واقعـًا، مثلها مثل أي نوع سينمائي film genre. فما يصنعه المؤلف والمخرج معنا بمثابة اتفاق ضمني أن ما نشاهده واقعـًا، لكن لهذا الواقع المُتخَيل قوانين، من بينها عدم الاستخفاف بعقلي، ومثال هذا الاستخفاف في المسلسل، كان ظهور غوريلا في صحراء ليبيا سنة ١٩٦٩.. كيف ولماذا ومتى وأين؟ لماذا تم اختيار الغوريلا، وليس حيوانـًا مألوفـًا من بلادنا، ولو كان أسطوريـًا. ظهور الغوريلا في الدراما والسينما العربية يرتبط في غالب الوقت بالكوميديا، والمشاهد المضحكة، وليس الخوف مثل فيلم كينج كونج. الغوريلا لم تبدو أصلاً مخيفة، وشعرت بالأسى عليها أو عليه أكثر من شعوري بالانتصار. لماذا لم يختر المخرج وفريق الكتابة حيوانـًا من البيئة المحلية كالذئب أو السلعوة، أو حتى أبو رجل مسلوخة التي تحدث عنها رفعت إسماعيل نفسه.

استفزتني الغوريلا جدًا، فقررت البحث في السلسلة، (أسطورة حارس الكهف)، لاكتشف أن الغوريلا ذُكرت مرة واحدة فقط، وهي مجرد تخيل يتحدث عنه رفعت إسماعيل، فالوحش أو العساس وفق وصف الدكتور خالد توفيق "لم يشبه أي وحش من الوحوش التي تحترم نفسها، كان شيئًا يفوق قدرتي على الوصف." لم تكن الغوريلا اختيارًا موفقـًا يحترم عقلي أو يسير على القوانين التي  تراضيناها سويـًا كمشاهد ومخرج ومشرف إبداعي.

إجمالًا، العمل جيد ويستحق المشاهدة، بعيداً عن أن كاتب السلسلة هو الدكتور توفيق، وبعيداً عم بعض الأخطاء التاريخية في المسلسل التي أشار إليها البعض. وفي ظني أن أهم مميزات المسلسل أنه نجح في أن يتفوق على الكثير من الأعمال الضعيفة التي تعرضها شبكة نتفليكس من العالم العربي. ولا شك أن المجهود المبذول من فريق العمل، ديكور وأزياء ومواقع تصوير، يجب الثناء عليه، لأنه ساعد في بناء الحكاية بشكل نقبله كمشاهدين، فمعضلة دراما الرعب في مصر، مع ندرتها، أنها فقيرة جدًا فنيـًا، وتتحول لكوميديا هزلية في لحظة ما، وهذا ما لم يقع فيه فريق العمل. كما نجح صناع العمل أن يتحركوا بنا في أماكن مختلفة، ممتعة بصريـًا، وهذه المتعة البصرية شيء مفتقد في أعمال كثيرة لدينا. 

ملاحظة أخيرة، للمبدع عمرو سلامة، مشاهدة الفنون في أحيان كثيرة تأتي من دافع داخل كل منا، منشأه الرغبة في المتعة، والهروب من الواقع المليء بالقيود والقواعد. من خلال الشاشة، أستطيع أن أعيش داخل عالم آخر يمكنني فيه الضحك بصوت مرتفع أو النحيب أو الصراخ دون اعتداد بمن حولي. ربما أردتَ، يا عمرو، أن يحترم الناس ما قدمه فريق العمل، لكن مَنْ أخبرك أنهم لن يحترموه؟ ومن قرر أن الأحاديث الجانبية ستدمر المشاهدة مثلاً ولن تضيف إليها؟ ربما أردتَ أن تصنع دعاية مضادة للمسلسل، لكن هذا التكتيك جاء عكسياً، فقد تحولتَ لوصي على اختيارات المشاهدين في الهروب من الواقع ومحاولة خلق عالمهم الخاص بهم حتى لو كنت أنت صانعه. وكما قالت إحسان شريف لعمر الشريف في فيلم إشاعة حب "دي بلدي قوي يا حسين .. أقصد يا عمرو."