eating-disorders
رمضان

كيف يتعايش المصابون باضطرابات الأكل مع شهر رمضان؟

"في رمضان أتأثر بشدة بالصيام، فأنا آكل كمية أقل من المعتاد وأفقد وزناً كبيراً وأعاني من فقدان الشهية التام"

انتهت منة، ٢٥ عاماً، من رصِّ أطباق الطعام على المائدة، وجلست مع عائلتها تستمتع بالأجواء الجميلة لإفطار اليوم الأول من رمضان. جاء رمضان مختلفاً في ذلك العام من ربيع ٢٠٢٠، فمع انطلاقة مدفع الإفطار حدث شيء غير متوقع. "لم أستطع ابتلاع طعامي، فوجئت أنني عاجزة تماماً عن الأكل وتقيأت فوراً،" تقول منة، مُنشئة محتوى ومصورة فوتوغرافية.

لم تكن منة قد عانت من أي مشكلات تخص الطعام من قبل -وإن لم تكن راضية عن وزنها ومظهرها- لهذا فوجئت عندما عجزت عن تناولها إفطارها الأول في رمضان. لم يتوقف الأمر عنذ هذا الحد، بل تفاقمت مشكلة منة حتى أنها لم تعد قادرة على تحمل رائحة الطعام ولا مذاقه، واستمر القيء كلما أجبرت نفسها على ابتلاع لقمةٍ تتقوَّتُ بها، واستمرت المعاناة لمدة ٤٥ يوماً كاملين. بعد استشارة الطبيب تبين أنها مصابة باضطراب الأنوركسيا، واحد أنواع اضطرابات الأكل.

إعلان

مع الأجواء الاحتفالية في رمضان، والتي تتمحور حول الطعام والاستمتاع به، أو الاقتصاد والزهد فيه، يواجه كثير من الناس مشكلةً كبيرة تتعلق بحياتهم الغذائية، فالبعض يعاني من فقدانٍ تامٍ للشهية، والبعض الآخر ينخرط في تناول الطعام من الإفطار وحتى السحور. شرب القليل من الماء أو تقييد ساعات الأكل، أو الأكل بكثرة خلال الإفطار، يمكن أن يزيد من معاناة الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات في الأكل أو Eating Disorders ويمكن أن يتحول الشهر لشعور بالوحدة والذنب لأولئك الذين لا يستطيعون الصيام.

اضطرابات الأكل هي مجموعة من السلوكيات الغذائية غير الطبيعية، والتي تتدرج من عدم تناول الطعام بشكلٍ كافٍ، أو الحرمان منه، إلى تناول الطعام بلا انقطاع وبمنتهى الشراهة. ككل الاضطرابات النفسية، يتحول نشاط طبيعي (تناول الطعام في هذه الحالة) إلى سلوك غير طبيعي يسيطر على حياة المريض ويغيرها بشكلٍ سلبي، فيعاني المريض نفسيّاً وجسديّاً، وتتأثر صحته بدرجةٍ قد تهدد حياته، سواء بسبب أكله أكثر من اللازم، أو أقل مما يحتاج جسمه. أغلبية الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الأكل تتراوح أعمارهم بين 12 و 25 عامًا. وعلى الرغم من أن اضطرابات الأكل أكثر شيوعًا عند الإناث، إلا أنها يمكن أن تؤثر على أي شخص بغض النظر عن جنسه.

بحسب الدكتور محمد صلاح، المدرس المساعد بكلية الطب بجامعة الإسكندرية في مصر، فإن هناك عدد من اضطرابات الأكل أشهرها فقدان الشهية العصبي (Anorexia Nervosa)، ويضيف: "إنها حالة تجعل البعض يتخيلون أنهم زائدو الوزن، أو يعانون من البدانة، فيجبرون أنفسهم على أنظمة غذائية قاسية لتقليل الوزن، أو يلجئون للتقيؤ بعد كل وجبة، حتى لو كان وزنهم منخفضاً وجسمهم مثالياً. قد يصل اضطراب فقدان الشهية العصبي إلى مرحلة التجويع وعدم تناول الطعام بشكلٍ يعجز عن تلبية احتياجات الجسم الغذائية، ما يسبب مشكلاتٍ صحية مختلفة."

إعلان

الاضطراب الثاني الأكثر شهرةً من اضطرابات الأكل هو حالة الشره المرضي العصبي (Bulimia Nervosa) وتشمل حالات متكررة من تناول كميات كبيرة من الطعام خلال فترة زمنية قصيرة جدًا، الشعور بفقدان السيطرة وعدم القدرة على التوقف عن الأكل أثناء نوبة النهم. يؤنب مريض البوليميا نفسه على الأكل، ومع ذلك لا يستطيع منع نفسه عنه فيحاول التعويض بتطبيق نظام غذائي قاس للتخلص من الوزن أو التسبب الذاتي بالتقيؤ، واستعمال المواد المُسهلة أو ممارسة نشاط جسماني قاسٍ يشمل الركض لمسافات طويلة، أو رفع الأثقال.

في حالة اضطراب نهم الطعام (Binge-eating disorder) تحدث للمريض نوبة أسبوعية على الأقل من التهام كميات طعام غير طبيعية، دون قدرة على التوقف، حتى في حالة عدم الجوع، ويستمر تناول الطعام لفترة طويلة بعد الشعور بالامتلاء والشبع. تتشابه الحالات النفسية للمصابين باضطرابات الأكل، من حيث إخفاء الطعام أو الأكل في الخفاء، والهوس بفحص وزن الجسم طوال الوقت، والشعور بالاشمئزاز وكره كل ما يتعلق بالجسم ومظهره الخارجي، الشعور بالاكتئاب وانعدام القيمة الذاتية بسبب الوزن والمظهر الخارجي.

تضاعف عدد اضطرابات الأكل المسجلة سنويًا في جميع أنحاء العالم في السنوات الـ 18 الماضية- يعزو الخبراء جزئيًا الزيادة إلى زيادة الوعي بمجموعة أوسع من الاضطرابات. وبحسب بحث فرنسي نُشر في المجلة الأمريكية للتغذية السريرية، فأن المعدل العالمي لانتشار اضطرابات الأكل تضاعف من 3.4 في المئة من السكان إلى 7.8 في المئة بين عامي 2000 و 2018.

إعلان

تتأثر حياة بسنت البارودي، ١٩ عاماً، طالبة بايوتكنولوجي، باضطراب الأنوركسيا، والذي يدفعها دوماً لتقليل طعامها بدرجة كبيرة، وعدم شعورها بالجوع أو الاحتياج لكمية طعام أكبر. في المعتاد تتناول بسنت كمية صغيرة من الطعام في وجبةٍ واحدة يوميًّا، لكن في أحيانٍ أخرى قد تأكل كمياتٍ أكبر من الطعام. ويتفاقم هذا التفاوت في كمية الطعام خلال شهر رمضان.

تقول بسنت: "أعاني من اضطرابات نفسية واضطرابات في الهضم، ما سبب لي اضطراباً ثالثاً هو اضطراب الأكل. في الغالب آكل كمية طعام أقل من الطبيعي، لكنني أحياناً آكل أكثر بكثير، وكل هذا يسبب لي عدم ثبات وزنٍ مزمناً، فتارةً يزداد وزني جداً، وتارةً ينخفض للغاية. في رمضان تزداد المشكلة وضوحًا بسبب الصيام، تصبح كمية الطعام التي أتناولها أقل بكثير، وتنعدم شهيتي تقريبًا، وأفقد وزنًا كبيرًا طوال الشهر."

تشير التقديرات إلى أن 0.5 إلى 3.7 في المئة من النساء يعانين من فقدان الشهية العصبي في حياتهن، وتشير الأبحاث إلى أن حوالي 1 في المئة من المراهقات يعانين من فقدان الشهية. ويرجع التاريخ هذه الأمراض إلى القرن التاسع عشر عندما تم استخدام أشكال التجويع الذاتي لفقدان الوزن. وعندما يُصاب المرء بفقدان الشهية، فغالبًا ما يساوي بين النحافة أو فقدات الوزن وتقدير الذات. ولهذا يُمكِن أن يُسَيْطِر فقدان الشهية العصبي كغيره من اضطرابات الأكل الأخرى على الحياة، فيكون من الصعب جدًّا التغلُّب عليه.

إعلان

وتعتبر اضطرابات الأكل من بين أكثر الأمراض النفسية فتكًا في الولايات المتحدة، وتأتي في المرتبة الثانية بعد إدمان المواد الأفيونية، مما يؤدي إلى ما يقرب من 10،200 حالة وفاة كل عام. وتتسبب هذه الاضطرابات بعدد من الأمراض المزمنة مثل التهاب المفاصل والربو والسرطان والسكري وأمراض القلب وأمراض الفم. غالبًا ما يكون الأشخاص المصابون باضطراب الأكل أكثر عرضة لخطر الموت بالانتحار. وذلك لأن الحالة تسبب مجموعة متنوعة من المشكلات الصحية والعقلية. معدل الانتحار للأفراد الذين يعانون من اضطرابات الأكل أعلى من أولئك الذين يعانون من أي اضطراب آخر للصحة النفسية بما في ذلك الفصام والاكتئاب.

في العالم العربي، لا يزال هناك اعتقاد خاطئ شائع بأن اضطرابات الأكل مشكلة "غربية" وهو ما يؤدي إلى تفاقم الشعور بالخزي والذنب والعزلة. في حين أن انتشار اضطرابات الأكل في العالم الغربي أعلى من انتشاره في البلدان غير الغربية، فقد أظهرت الأبحاث أن النساء المسلمات عرضة للإصابة بالشره المرضي وفقدان الشهية بغض النظر عن خلفيتهن الثقافية أو مكان نشأتهن. في دراسة نُشرت في المجلة الدولية لاضطرابات الأكل، وجد الباحثون أن طالبات الجامعات في طهران كن على الأرجح عرضة للإصابة باضطرابات الأكل مثل نظرائهن الإيرانيين الأمريكيين.

يتراوح اضطراب الطعام ما بين الأكل بكميات قليلة إلى الأكل طوال الوقت. يعتمد الأمر على الحالة النفسية، وهذه الحالة النفسية تتأثر بأجواء رمضان بطرقٍ غير متوقعة، ليس فقط بوجود عزومات ولمّة الأهل والأصحاب التي تغري بالأكل أكثر مما نحتاج، أو التوتر من فكرة الأكل ما يقلل شهيتنا، وهناك من يعاني البعض من فكرة الصيام في حد ذاتها.

إعلان

على الرغم من مخاطر اضطرابات الأكل، يتم بالعادة التقليل من هذا المرض، ويعتقد البعض أنه خيار شخصي لتقليل الوزن، وأن علاجه هو الأكل والوصول لوزن طبيعي، ولا يتم التعامل مع هذه الاضطرابات ضمن حالات المرض النفسي. كما يختبر البعض المتاعب خلال رمضان، يجد آخرون بعض الراحة بسبب تنظيم طعامهم. لا قاعدة واضحة فيما يخص اضطرابات الأكل، وهذا ما يجعلها حالة مرضية صعبة، تتباين أعراضها من مريضً لآخر.

تقول شيماء العيسوي، ٢٤ عاماً، ناقدة سينمائية: "أعاني من اضطراب الأنوركسيا منذ ٤ سنوات، أنا دارسة لعلم النفس واستطعت معرفة حالتي عندما بدأت. تأتيني الأنوركسيا في شكل نوبات تفصل بينها فترات زمنية تطول أو تقصر. حين تبدأ النوبة أفقد شهيتي تمامًا ولا أستطيع أن آكل أقل شيء، وإذا أرغمت نفسي على الأكل تكون النتيجة إصابتي بمغص قوي مع شعور عارم بالثقل والتعب. استمرت إحدى نوباتي لثلاثة أشهر التهمت خلالها وجبات تعد على أصابع اليدين، ما سبب لي مشكلات عدة في الجهاز الهضمي اقتضت إجراء عملية جراحية، بعدها حذرني الطبيب من أنني معرضة لتكرار الحالة إذا حدث خلل آخر في نظام تغذيتي. هذا اضطراب نفسي بحت، فبمجرد تغير حالتي النفسية يؤثر اضطراب الأكل على حياتي، سواء تغيرت حالتي النفسية للأحسن، أو للأسوأ."

رغم صعوبة ما تمر به، اختبرت شيماء تغيراً طيّباً في رمضان الجاري، فبعد نوبة من الأنوركسيا لمدة أسبوع قبل بداية الصيام، بدأ الشهر وبدأت شيماء تشعر بالجوع خلال صيامها، فهذا النوع من الجوع مألوف لجسدها، وهكذا بدأت تأكل بالتدريج في كل يوم، وبدأت صحتها تستقر. تواصل شيماء: "في رمضان الحالي أشعر بفارق كبير في صحتي، فأنا آكل وجبتين يومياً، بعكس رمضان الماضي الذي أصابتني في آخره نوبة، وأتذكر أنني قضيت ثلاثة أيام لم آكل أي شيء. رمضان عموماً لا يؤثر على كمية الطعام التي آكلها، فوجبتي ليست كبيرة من الأساس، وهي نفسها التي آكلها في الصيام."

إعلان

رغم معرفة الطب بالكثير عن مرض اضطرابات الأكل، وزيادة الوعي به في السنوات الماضية، فما زالت الأبحاث قاصرة فيما يخص تأثير الصيام على مرضاه. إنها منطقة حساسة يتداخل فيها الطب النفسي مع التغذية، وبالتأكيد لا يوجد وعي كافٍ بتأثيرها على الصائمين في رمضان ما يفاقم معاناة المرضى. 

تقول الدكتورة حسناء الدباوي، الطبيبة النفسية بوزارة الصحة المصرية، وطبيبة التغذية: "لا توجد توصيات Guidelines حتى الآن بخصوص تأثير الصيام الإسلامي على مرضى اضطرابات الأكل، لكن الأبحاث تُجرَى حول الصيام المتقطع وتأثيره، وما نعرفه حتى الآن هو أنه يؤثر تأثيراً سلبيّاً على مرضى اضطراب الأكل. أمَّا بخصوص تأثر مرضانا بشهر رمضان، فالأمر لا يتعلق بالصيام في حد ذاته بل بكون شهر رمضان يتمحور حول الطعام بدرجة كبيرة، والأجواء الاحتفالية التي تركز على الأكل، ما يضع ضغطاً كبيراً على مرضى النهم العصبي مثلاً. أمَّا مرضى الأنوركسيا فقد يستغلون رمضان كفرصة للدايت والتحكم في الوزن، ما يوصلهم إلى مرحلة المجاعة starvation، الأمر الذي يؤثر على صحتهم وأجهزتهم الحيوية بشكل عام."

لا يمكننا تشخيص مرضى اضطراب الأكل من دون كشفٍ طبي متخصص يحدد سبب المشكلة بدقة تبعاً لحالة كل مريض، وتؤكد الدكتورة حسناء أن المرضى يحتاجون إلى متابعة خاصة في شهر رمضان، ويتم التنسيق بين الطبيب النفسي وطبيب التغذية معاً لوضع خطة علاج وتغذية مشتركة، ويحدد الأطباء ما إذا كان بوسع المريض الصيام أم لا، وإذا سمحت حالته بالصيام فهناك تعليمات يجب أن يلتزم بها بدقة ليمر صيامه بسلام.

"أقل شيء يمكن أن يؤثر فيّ،" هكذا تسترجع منة قصتها مع بداية اضطراب الأنوركسيا، والذي بدأ في وقتٍ كانت فيه تكره شكل جسمها، وتشعر بضخامة وزنها وتسعى بأي شكل لدايت ناجح يفقدها عدة كيلوجرامات. تقول منة: "منذ اليوم الأول لأعراضي أدركت أنها مشكلة نفسية، كنت أنظر لنفسي بسلبية، وأستغل الصيام لأفقد الوزن، لكن النتيجة كانت خطيرة. نصيحتي الأهم هي أن نستشير طبيباً بمجرد شعورنا بأي اضطراب في علاقتنا بطعامنا، لأن العواقب ستكون وخيمة. تسببت نوبة الأنوركسيا التي عشتها في مشاكل كبيرة في المعدة والقولون، واستغرقت وقتاً طويلاً، وكثير من الأدوية والفيتامينات حتى أتخطاها."

يقترح بعض العلماء المسلمين على الذين لا يستطيعون الصيام ممارسة أنواع أخرى من العبادة الروحية خلال شهر رمضان بما في ذلك "الصدقة وقراءة القرآن والدعاء والتطوع لمساعدة الآخرين."