jon-tyson---notUrOK64-unsplash
Photo by Jon Tyson on Unsplash

مقال رأي

الجندر.. عن خفة الافتراضي وثقل الواقعي

الهوية الجنسية لا تعبر عن الفروق بين الجنسين بقدر ما تُفصح عن قمع أوجه الشبه الطبيعية بينهما

إلى جانب ذكر، أنثى، مثلي، رجل عابر جنسياً، أنثى عابرة جنسياً، مزدوج/ ثنائي الجنس، مزدوج الروح، هناك عشرات الخيارات يتيحها "فيس بوك" لرواده، تفوق الـ 50 جندراً.

هذه الرحابة تضيق إذا انتقلنا من العالم الافتراضي إلى الواقع، فليس هناك كثير من البلدان تقر رسميًا جندريات أخرى خلافا للذكر والأنثى، حيث تنحصر الدول التي تعترف مثلاً بالجنس الثالث في: الولايات المتحدة، أستراليا، ألمانيا، الهند، الأرجنتين، باكستان، كندا، نيبال، مالطا، بنجلاديش. 

إعلان

تقود تلك الملاحظة إلى الحديث عن البعد الثقافي ومدى تأثيره في إقرار نوع الجنس، بعدما أصلت له دراسات أنثروبولوجية قديمة للعالمة الأمريكية مارجريت ميد.

من خلال معايشتها لإحدى القبائل الغينية "الأرابيش" لاحظت ميد عدم وجود تمييز بين الذكورة والأنوثة في القبيلة، فرجالها يقضون  ـ على سبيل المثال ـ الساعات في تصفيف شعورهم، موجهين عنايتهم لأنشطة من قبيل الرقص في السهرات وارتداء أزياء خاصة في المناسبات الاجتماعية والرسم بالألوان.

كان شائعًا أيضًا أن يُعبروا عن شعورهم بآلام الوضع مؤازرة لنسائهم، وفي مرحلة الحمل يشير الجميع إلى الزوج أنه في فترة وضع، وما أن تنجب الأم مولودها حتى يشاركها الأب في أعباء رعاية الطفل، لهذا فهو شيء عادي في ثقافة "الأرابيش" حين يصف أحدهم رجلا بأنه وسيم، تجد من يعلق، للدور الذي يلعبه الرجل: وسيم! نعم، لكن ليتك رأيته قبل أن ينجب كل هؤلاء الأطفال.

بمعايشتها لقبيلة أخرى تدعى تشامبولي سجلت عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية أن المرأة هي الحاكمة للمجتمع التشامبولي، فهي من تعول الزوج من الصيد ومن جمعها للطعام، بينما يتفرغ الرجل للتدرب على نفخ الناي والرقص، ويقوم بالتسوق من مصروف وفرته المرأة من عملها في نسج وبيع شباك صيد البعوض، أما بالنسبة للنشاط الجنسي فالمرأة هي من تأخذ زمام المبادرة بينما يترقب الرجل مبادرتها على استحياء.

إعلان

في المقابل، تروج نظرية البناء الاجتماعي للجندر إلى أن البيولوجي معطى هام للبناء الاجتماعي والثقافي، ووفقًا لذلك يتحول الاختلاف البيولوجي إلى تراتبية لصالح الرجل تدعمها التنشئة الاجتماعية. تصبح الرجولة بناءً أيديولوجيًا قائمًا على التمايز البيولوجي وتمسي التربية الاجتماعية مبررة للسلطة الذكورية.

هذه الرؤية يعارضها رأي آخر تضمه ذات النظرية ويفترض أن الذكورة ـ الأنوثة يجري تشكيلها اجتماعيًا بعيداً عن المعطى البيولوجي بدرجة كبيرة، حيث يُبنى جسد المرأة "ككينونة ناقصة" قياسًا على جسد الذكر، على اعتبار أن المرأة تفتقد العديد من السمات الذكورية، على رأسها القضيب.

لكن لا تدعم هذه النظرة من يعارضها تحت زعم أن بناء الذكورة أكثر تعقيداً، فمعاناة الذكر تبدأ مبكراً جداً وهو مازال في مرحلة النطفة، يحدث ذلك لدى مقاومة الخصية الجنينية تحقق البنية الأنثوية (الأصلية) في محاولة لبناء الذكورة، ثم على الذكر بعدها بناء ذكوريته اجتماعيًا، فخلافا للأنثى عليه كبح تماهيه مع الأم، هذه الحقائق حرضت البعض على اعتبار الذكورة مجرد رد فعل ضد الأنوثة، فأول واجبات الرجل وأهمها هو ألا يصبح امرأة.

وللمرور الآمن من الأنوثة (الأصلية) إلى الذكورة وضع عالم الاجتماع بيير بورديو ثلاثة اختبارات على الذكر اجتيازها، يسميها الأنثروبولوجيون "طقوس المرور."

الاختبار الأول: فصل الطفل عن الأم.

الاختبار الثاني: الختان. 

الاختبار الثالث: الدفع بالطفل إلى عالم مجهول (مدرسة، عمل، خدمة عسكرية...)، وترتبط هذه الطقوس بمعنى يصب في صالح "احتقار الأنوثة" والنفور من التشبه بها.

إعلان

وفق أغلب المتخصصين في المجالين الاجتماعي والأنثربولوجي، يبدأ الجندر في التشكل عند سن الثالثة، ومن خلال طريقة التعامل يلعب الأهل دوراً رئيسيًا في تكوين تلك الهوية، لكن هناك حالة طبية معروفة، غلًّبت العامل البيولوجي على حساب الدور الاجتماعي، هي حالة "دافيد رايمر."

تعرض رايمر في صغره إلى بتر عضوه الذكري أثناء إجراء عملية ختان له، نتيجة لذلك أشار الأخصائي النفسي المعالج على الوالدين أن يعاملا طفلهما كما لو كان فتاة. تربى رايمر كفتاة بالفعل، فلبس الفساتين وأُهُدي ألعاب البنات، ودفعه الوالدان إلى مصادقة الفتيات، إلا أن ريمر لم يشعر يوما أنه فتاة، وتسبب هذا في عبوره بأزمات نفسية، حرضته إحداها على محاولة الانتحار، ليجري والده له في سن الثالثة عشر عملية ترميم لعضوه الذكري.

نبهت هذه الحالة إلى أهمية العامل البيولوجي وإلى أنه لا يمكن تخطيه عند تشكيل الهوية الجنسية، وفي مسألة المثلية تردد المختصون كذلك بين فرضيتين، الأولى رجحتها دراسات أثبتت وجود جينات محددة مسؤولة عن السلوك الجنسي المثلي، غير أن دراسة ضخمة في عينتها (ما يزيد عن 470 ألف شخص) نشرتها مجلة "science" أكدت على أن المحددات الوراثية لا ترجح بصورة أكيدة ممارسة السلوك المثلي، وإن أعلن الباحثون عثورهم على 5 أنماط جينية فقط داخل الحمض النووي، تتصل بالسلوك المثلي، لكن ذلك لا يحسم بصورة نهائية مسئولية البيولوجية عن الميل الجنسي.

بيَّن أصحاب الدراسة أن السلوكيات الجنسية المثلية تتجاوب مع مزيج معقد من التأثيرات البيئية والوراثية، مؤكدين على أنه لا يوجد "جين" يمكن أن نعزو إليه الاستعداد الوراثي للمثلية، في المقابل هناك آلاف التأثيرات الوراثية المرتبطة بالمثلية، لكن لكل منها تأثير محدود للغاية.

هذه الرؤى لم تمنع عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية والمهتمة بمجال السياسات الجنسانية غايل روبين من أن تقدم طرحًا مغايرًا يقول أن الهوية الجنسية لا تعبر عن الفروق بين الجنسين بقدر ما تُفصح عن قمع أوجه الشبه الطبيعية بينهما، فما جرى هو كبت السمات الأنثوية في الرجل، كذلك كبت السمات الذكورية في الأنثى.

 أطروحة روبين شملت أيضًا دعواها أن العلاقة بين الرجل والمرأة لا ترجع للفطرة، مستندة إلى رأي عالم الاجتماع والأنثربولوجي الشهير ليفي شتراوس في ذات المسألة، بترويجه أن ممارسة الجنس بين جنسين مغايرين عملية استحدثتها المجتمعات، وأن قمع الجانب المثلي في الإنسان كذلك قمع ذوي الجنسية المثلية ناتج عن ذات النسق الاجتماعي القاهر للنساء.

لا تبلغ تلك النقاشات العلمية حسمًا استهدفته، لكن العالم الافتراضي لا يلتفت إليها ولا يتتبع مدى وجاهتها، ببساطة لا يبدو معنيًا بها بقدر ما هو معني بحرية الإنسان وبتحريره، أن يكون من يشاء وقتما يشاء دون أي قيود، في دلالة على ما يتمتع به  الافتراضي من خفة يمتاز بها على الواقعي، خفة لا تشغلها بطبيعة الحال الإجابة، فمدار الافتراضي الحرية فقط، ومدار الواقعي إجابة لا يتحصل عليها في أغلب الأحيان.