2a3cb670-5b12-4110-ab9c-d51175ec5b8c
تارا الدغيثر. الصورة مقدمة منها.
موسيقى

صوت الصورة: أول أرشيف سماعي لأصوات المغنيات السعوديات

عند دراسة المرأة ومكانها في الموسيقى، تطفو جميع العقد الاجتماعية على السطح كالطبقية والعرقية والعنصرية

في محاولة لإعادة المرأة السعودية وتأثيرها في تاريخ الموسيقى ودورها المنسي في الطرب الشعبي الذي همّشه التاريخ إلى الواجهة، أطلقت الباحثة والفنانة والقيّمة الفنيّة، تارا الدغيثر، 30 عاماً، أرشيف "صوت الصورة" ليحيي هذا التاريخ وينقذ آخر ما تبقّى منه.

صوت الصورة هو أرشيف رقمي نسوي معاصر يقدّم مواد سمعية وبصرية مرتكزة على الأغاني الشعبية والطرب المنسي للمرأة في السعودية والأداء التقليدي للنساء ويحتوي على تسجيلات لأغاني لم تنشر أو توثق بعد. ويسعى لتوثيق الذاكرة الشفهية لشخصيات أيّدن الحراك الفني المحلّي والآتي يستمرِرن في العطاء.

إعلان

"في البداية أردّت أرشفة أصوات النساء اجتماعياً كوني ابنة الذهب الأسود (النفط)، فأردّت معرفة تأثيرات وجود النفط على ثقافة وحياة النساء، ولكنّي غيرتها في آخر لحظة للتركيز على حياة النساء الموسيقية المهمّشة، شعرت أن هذا ما أريد فعله." تخبرني تارا، ابنة مدينة الخبر والتي تحمل شهادة الماجستير في التقييم والنقد الفن، وتقيم خارج المملكة لأكثر من عشر سنوات وعادت إلى السعودية مؤخراً. 

بدأت فكرة العمل على المشروع تتشكل في بال تارا عام 2017 فور إعلان قرار رفع حظر القيادة للمرأة في السعودية: "قلت لنفسي إذا رجعت السعودية بركب سيارتي وبزور كل المناطق واسمع الدقّ، وأصوات النساء، أبغى اكتشف كلشي يخص موسيقتنا الأصليّة، أكيد في شي متخبّي عننا."

كانت تارا تعيش في سلطنة عُمان في تلك الفترة، الدولة التي تفخر بموسيقاها الشعبية ودور النساء فيها كما تقول، وتطوّر الهاجس لديها لكشف المخفي في الموسيقى الشعبية في السعودية: "كان هاجس الموسيقى يدور في ذهني منذ تخرجي، هناك صوت يلاحقني بشكل مستمر ويقول لي: لا توقفين الفضول اللي فيك بالصوت العربي. في صيف 2018 التقيت بحصة الحميضي وكان لقاؤنا نقطة تحول في حياتي. عرّفتني حصّة على برنامج صيفي للموسيقى العربية يُقام سنوياً منذ أكثر من 20 عام في بوسطن ودعتني للانضمام. قُبلت بهذا البرنامج العريق كأول سعودية تشارك فيه منذ تأسيسه. عشت وسط فرقة موسيقية كبيرة، تعرفت على موسيقيين عظماء، تعمقت أكثر بالموسيقى وتعلمت كل ما يخصها." يدير هذا البرنامج المؤرخة والصحفية المستشرقة كاي هاردي كامبل، التي عاشت حياتها بالسعودية ووثقت مراحل من تاريخ الغناء والرقص الشعبي بالخليج العربي.

إعلان

تنتمي تارا لعائلة حَضرية، فهي مطلّعة على ثقافة الموسيقى الغربية منذ صغرها وهي تغنّي الجاز الذي وجدت صوتها فيه ولم تتعرف على الأغاني السعودية الشعبية إلا مؤخراً. وتقول: "البرنامج الموسيقي ساهم بخلق عملية تحول في داخلي، تعرّفت من خلال كاي كامبل على ابتسام لطفي، توحة، صفيّة الشتيوي وكل النساء السعوديات اللاتي وضعتهن بالأرشيف. التعرّف عليهنّ عن طريق مستشرقة كان محرجاً جداً، كوني بنت البلد ولا أعرف شيئاً عن فنانات بلدي."

أرادت تارا أن تتعرف على الفنانات بشكل أكبر فاقترحت عليها هاردي أن تذهب لمقابلتهن بالسعودية: "فكرة التسجيل والمقابلات أتت من الناس، قالولي التقليد والتراث الموسيقي جالس يختفي، الحقي سجلي مع الفنانات بأي جودة موجودة، المهم التوثيق فهن كبيرات بالسن ويجب البحث عنهن وزيارتهن." بعد التفكير طويلاً أخذت تارا قرارها بالعودة إلى السعودية وبدأت بعملها كفنانة حيث شاركت في جائزة للفنون عبر تقديم عمل فني معاصر يحاكي صوت المرأة. وبعدها شاركت كقيّمة فنيّة في معرض جماعي يضم 47  فنان سعودي بعنوان "صورة زمنية" وهو يحكي لمحة عامة لفن الفيديو في السعودية، ويعتبر أكبر معرض فني بتاريخ الفن المعاصر السعودي من حيث عدد المشاركين.

إعلان

لا يوجد هناك توثيق أكاديمي للموسيقى الخليجية الشعبية المتوارثة سماعياً بين الأجيال بالمنطقة، ولهذا واجهت تارا صعوبة في تحديد أسس الأرشيف لانعدام المصادر وعدم وجود مختصين وأكاديميين في المجال. وكان اعتمادها ومرجعيتها الأكاديمية الوحيدة على الباحثة والمؤرخة الأمريكية: ليزا أوركافيش، والكاتبة والمؤرخة السعودية هند باغفّار وهي من أهم المراجع، كونها من أوائل الناس الذين فكروا في توثيق هذا الفن.

"عندما عدت للسعودية قبل سنتين اكتشفت أنه لا يوجد مراجع كافية للفنانين المعاصرين، وحتى في الكتب التوثيقية للفن المعاصر لا يوجد تركيز على السعودية، فإن كانت الساحة الثقافة والفنيّة كذلك لا شك أنّ وجود مصادر في ساحة الغناء النسائية معدومة. أحسست بمسؤولية كبيرة، بحكم أنني امرأة وفنانة أيضاً، ومن مهامي كقيّمة فنية توفير مراجع تساعد الفنانين على إنتاج أعمالهم."

لبست تارا قبعات مختلفة لجمع الكم الهائل من المعلومات وتكوين منهجيّة مختلفة تماماً عن كل المحاولات السابقة، فصوت الصورة يعتمد بشكل رئيسي على المنهجية المعاصرة التي تشكّلت من نقاشات طويلة وبحث مفصّل. بعد عمل مكثّف استمر عدّة أشهر خلال فترة الإغلاق بسبب كوفيد 19، أطلقت تارا الأرشيف الذي تقف خلفه ثلاث نساء في مايو 2021.  

"الفريق صغير جداً لمحدودية الأموال، وعدم وجود مختصّات أكاديميات بالموسيقى كلفني جهد مضاعف في عملية البحث والتوثيق. اعتمدت بشكل أساسي على المشاركة المجتمعية، والتوثيق المرئي ومواجهة بالصوت والصورة، وهي منهجية مختلفة عن الطرق الأكاديمية المعتادة."

تقول تارا عن سبب تسمية الأرشيف بصوت الصورة: "هو مصطلح نابع من سؤال ما هو الصوت أو التصوّر الذي يمتلكه الجمهور للمرأة خلف تلك الصورة؟ الموسيقى تخلق شعور التعاطف، لكننا كسرنا تلك الفطرة، ولكي نعيدها نحتاج للصوت والسماع في ساحتنا الثقافية. لأن الصوت في هذا المشروع والدراسة أهم من الشكل وحتى في جميع الدراسات الصوتية عند التعمق بالصوت، يختفي كل شيء لأن الصوت هو أكثر شيء مربوط بالنفس والروح وهي فلسفة روحانية داخلية. الصوت هو فلسفة ومحاولة للوصول للنفس الباطنة، وحتى في الممارسة الإسلامية الصحيحة، يعد السمع أهم من أية حاسة أخرى."

إعلان

ينقسم أرشيف "صوت الصورة" لأربعة أقسام تستهدف من يريد التعمّق بتلك الممارسات الشعبية ودراستها أكاديمياً، أولاً الموسيقى التقليدية وهي موسيقى تنعكس على أنماط الحياة وتتمحور حول العادات والتقاليد الاجتماعية وقد ترتبط بمناسبة الزواج أو الولادة مثلاً. والموسيقى الطربية وهي ما تعبّر عن الأغنية السعودية الحديثة. 

تربط الصالونات الغنائية أو ما يعرف "بمجالس الأنس" ما بين الفن التقليدي والطربي، ويختلفان بالجودة التقنية حيث إنّ الفنّ الطربي طوّر شكل الأغنية باستخدام آلات أكثر وبجودة أعلى كونها سجّلت في أستوديوهات فنيّة. 

أما قسم التاريخ الشفوي فهو يوثّق مقابلات شفوية قامت تارا بتسجيلها مع الفنانات الآتي التقت بهنّ وحاورتهن من محترفات وهاويات وغيرهن. وركزّت بهذا القسم على مراحل التغيير الاجتماعي والثقافي وتأثيرهم على الممارسات والعادات الموسيقية للمرأة.  ويحتوي قسم الموسيقى الروحانية على توثيق للتقاليد المتعلقة بالممارسات الدينية كالموالد بمختلف المذاهب، وهو القسم الأصعب للتوثيق نظراً لخصوصيته كما تقول: "خصوصية تلك الممارسات هو جزء من قيمتها، هناك عالم كامل من الموالد النسائية يصعب توثيقها لاقتناع المؤديات بحرمة سماع الرجال لأصواتهن ولاضطهادهن اجتماعياً أو لاعتقاد رجال الدين أن ما يقمن به "بدعة."

إعلان

وتشير تارا إلى أن الوصول للفنانات كان الأصعب: "واجهتني صعوبات بشرح أهداف المنصة لكبيرات السن من المغنيات. البعض رفضن لأن الموسيقى الشعبية شخصية جداً ومقرّبة لهوية العائلة، بعضهن كنّ متحمسات للظهور وتسليط الضوء عليهنّ بعد سنوات من التهميش. بدأت التوثيق من مدينة جدّة الشهيرة بالفن والتي ينتمي لها معظم الفنانات المعروفات، استخدمت جميع طرق البحث لاكتشاف الفنانات كالإنترنت، معارف، وسؤال الغرباء في الحارات الذين عرّفوني على خالة شوعية."

من اليسار، الفنانة صفية الشتيوي مع فنانة الطرب سعاد محمد.jpg

من اليسار، الفنانة التقليدية صفية الشتيوي مع فنانة الطرب سعاد محمد.

تقول تارا أن معظم الفنانات خضن تحديات كثيرة ازدادت بازدياد شهرتهن. سارة عاشور مثلاً وهي فنانة محترفة، نشأت في جدة ومارست الفن لمدّة 35 سنة، سمح لها والدها بالغناء في الأعراس فقط، ولكنه منعها من التسجيل والظهور بالرغم من أنها تنتمي لعائلة فنيّة. وهناك من منعها أبناءها من الظهور، وهناك من واجهت صعوبات بتجديد وتطوير صوتها وتسويقه مثل صفية شتيوي التي بدأت الغناء في الثالثة عشر بالمدينة وطوّرت العديد من الأغاني. ناهيك عن انعدام الدعم والتهميش الذي تعرضّن له لكونهن نساء.

عند دراسة المرأة ومكانها في الموسيقى، تطفو جميع العقد الاجتماعية على السطح كالطبقية والعرقية والعنصرية. فمثلاً بالطبقة المخملية- والتي أدخلت العود على الفن السعودي- لا يُسمح بالغناء بتاتاً، فحُرمت المرأة من ممارسة الفن فهي لا تظهر بالمشهد الفني أبداً، وإن غنّت فغناؤها محصور بين مجالسهن الشخصية. كما أنّ معظم النساء كانت تكتب الأغاني تحت أسماء مستعارة كابتسام لطفي.

إعلان

تضيف تارا: " تعرّضت النساء أيضاً لعنصرية مقيتة، اعتبر الفنانة صفية شتيوي بطلة، تحدّت المجتمع كتبت ولحنّت وغنّت أغانيها بنفسها، وأي امرأة بهذا المجال تغني وتضحّي بنفسها، فهي رفعت نفسها بنفسِها من مستوى إلى مستوى آخر. ويؤسفني عدم تقدير المجتمع لهنّ، لذلك نجد الفنانات مُتعبات ومريضات بعد كبرهنّ بسبب النسيان والتهميش." 

لا يمكن الحديث عن الموسيقى بالتاريخ السعودي دون التطرّق للصحوة التي بدأت في حقبة الثمانينات واستمرت لأربعين عامًا. والصحوة هي تيّار فكري إسلامي متطرف نجحت بالترويج للخطاب الديني المتعصب فتوغّلت بالمجتمع فكريًا وسيطرت عليه، مما انعكس على إغلاق دور السينما، إلغاء المسارح، تحريم الموسيقى، والفصل بين الجنسين. وكان للمرأة النصيب الأكبر من المأساة فحرّمت قيادتها للسيارة وحرّم صوتها وحُرمت من كافة حقوقها ودورها بالمجتمع. فألغيت صورتها من المجتمع تماماً.

كانت الصحوة مثل ضربة للفنانين والموسيقيين، كل ما حولهم تحوّل للحرام. وتحول هذا الهرب من الهوية للاعتزاز بالهوية الغربية كي يستطيع الفرد مواجهة المجتمع الخارجي. فبدلاً من التعمق بالهوية المحليّة لجأ الفرد لتقمّص الهوية الغربية.

"قبل الصحوة كانت النساء شهيرات بعزف العود وكانت الأعراس مختلطة، في جازان مثلاً كانت النساء والرجال يرقصن سويّاً في مكان واحد، وكانت النساء يعزفن ويغنين على الأسطح وفي الشوارع بشكل طبيعي. الصحوة خلقت ارتجاجًا بالهوية وبالنفس، فبدأ التاريخ ينمحي وقلّ الفخر والاهتمام بتلك الثقافة، أصبح هناك انغلاق وانعزال. هناك من انقطعن تماماً وهناك من عمل بالمجال اضطراريًا للعيش وتغيرت ممارستها. حتى المستمعين اضطروا لمقاطعة الموسيقى بحكم أنها "حرام" ولجأوا للإيقاع - الناجي الوحيد من الصحوة، والذي لم يعد يستخدم إلا في سياق الأعراس."

جلست تارا حتى الآن مع أكثر من عشر فنانات في جدّة أقدمهن الفنانة توحة، وهي مطربة وملحّنة من الصفوف الأولى في تاريخ الأغنية السعودية بمسيرة تجتاز الخمسين عاماً. وحصلت على مئات التسجيلات الغنائية أقدمها يعود إلى ما بين 1905-1909 ميلادي، وهو تسجيل مجهول لفرقة نسائية وثقّه المستشرق الهولندي سنوك هرخرونيه. وقد قام الأرشيف مؤخراً بإطلاق معرض "نحو" وهو دراسة ثقافية نسائية تركّز على الأدوار المختلفة للمرأة بالأعراس في كلاً من جازان وجدّة والرياض.

يستطيع الجميع أن يكون جزءاً من الأرشيف تقول تارا:"وصلتني الكثير من الرسائل من نساء داعمات للمشروع وسعيدات برؤية الفنانات لأول مرّة فهنّ متشوقات لظهور تلك الأصوات بالإعلام. نستقبل كل المشاركات سواء مقالات، تسجيلات من الناس، كاسيتات أو حتى اقتراحات أسماء فنانات لنقابلهن."

سيبقى الأرشيف يستعمل منهجيته الحالية التي تؤمن تارا بأنها الطريقة الأفضل للعمل النسوي الجماعي، وسيضاف مستقبلاً أقسام جديدة. كما ستخصص مكتبة ضخمة متكاملة يخرج منها مدرسة للدراسات النسائية. وتطمح تارا أن يتحول المشروع لمؤسسة استشارية للفنون الأدائية والصوتية.