7

الصور: الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء الفلسطينيين.

سياسة

ثلاجات الموتى، قبور مؤقتة لمعاقبة الفلسطينيين حتى بعد وفاتهم

"لو دفنته وبعرف وين قبره كان بعرف وين موجود وكُنت بقدر أروح أحكي معه على الأقل"

في الثامن من سبتمبر 2022، اخترقت رصاصات إسرائيلية جسد الطفل الفلسطيني هيثم مبارك من قرية فلاح قضاء مدينة رام الله، بعد منتصف الليل، من ثم قام الجنود باحتجاز جسده، دون التأكد من قبل ذوي الطفل ما إذا كان قد فقد حياته لحظتها، أم أنه أُصيب وفقد حياته إثر اهمال علاجه أو تم إعدامه في اللاحق بشكلٍ متعمد.

سمعت الأم كفاح مبارك بالخبر قبل لحظات من وصول رسالة على هاتفها فجرًا من طفلها "يما ارضي عني وسامحيني، ادعيلي، بحبك." هرعت الأربعينية مبارك إلى المستشفى ظنًا منها أنّ جثمانه هناك، لكنّ المستشفى أبلغها أنه لم يصل أيّ جثمان، لتعلم لاحقًا باحتجاز الجثمان من قبل السلطات الإسرائيلية وأنها لن تتمكن من دفنه كما تجري العادة.

إعلان

عدم قدرة السماح للفلسطينيين بدفن أحبائهم وأبناءهم وزيارة قبورهم هو سياسة عقاب جماعي. بعد عدة مطالبات، رفضت السلطات الإسرائيلية السماح لأم هيثم بمشاهدة جثمان ابنها، وتقول: "لم يسمح لي حتى بمشاهدة جثمان هيثم، لو دفنته وبعرف وين قبره كان بعرف وين موجود وكُنت بقدر أروح أحكي معه على الأقل،" تقول أم هيثم وتضيف: "أنا بحكي مع صوره، ويمكن البعض يفكرني مجنونة بس أنا اشتقت له وما عندي غير صورته أحكي معها. دفن ابني هي أبسط حقوقي كأم."

هيثم وأمه كفاح.jpg

صورة لكفاح مبارك وابنها هيثم. بعد عدة مطالبات، تسلمت هيئة الشؤون المدنية جثمان الطفل هيثم مبارك يوم الجمعة 18 نوفمبر 2022، وتم تشييعه ودفنه.

هيثم هو واحد من 117 جثامين لفلسطينيين محتجزين لدى إسرائيل منذ العام 2015 وحتى الآن في ثلاجات الموتى.

يقول حسين شجاعية، منسق الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء الفلسطينيين، أنه ومنذ العام 2015، احتجزت إسرائيل 347 جثمان، منهم 230 تم تسليمها فيما بعد، فيما لا يزال 117 جثمان محتجز لديهم في ثلاجات معهد الطب العدلي "ابو كبير" بتل أبيب، منهم سيدتان و15 طفلاً، و9 أسرى كانوا يقبعون في سجون الاحتلال وقت وفاتهم.

بدأت عملية احتجاز الجثامين لدى إسرائيل منذ عام 1948، حيث قامت القوات الإسرائيلية بدفن القتلى الفلسطينيين في مقابر سرية عُرفت بمقابر الأرقام واستمرت بذلك في حرب عام 1967، والانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية. تقوم إسرائيل باستخدام هذه الجثامين في عمليات المساومة والتفاوض.

وأشارت تقارير عن سرقة الأعضاء على هذه الجثامين قبل عمليات الدفن. واعترفت إسرائيل بقيامها بأخذ أعضاء من قتلى فلسطينيين دون موافقة عائلاتهم - وهي ممارسة تدعي إسرائيل إنها انتهت في التسعينيات. وتُصنف إسرائيل كمركز عالمي لتجارة الأعضاء البشرية، وتم نشر عدة تحقيقات ومقالات حول ذلك، ضمن ما تطرقت له الباحثة الفلسطينية غزل الناطور في ورقتها السياسية "سرقة أعضاء جثامين الشهداء المحتجزة: الأبعاد السياسية والقانونية" التي نُشرت قبل أشهر.

إعلان

مقابر الأرقام
مقابر الأرقام، هي مقابر سرية، تدفن فيها الجثامين بشكل غير منظم وبعمق لا يتجاوز الـ 50 سنتمتر، وتحمل لوحاً معدنياً يحمل رقم لكل جثمان. تلك القبور كانت عرضة للكشف بسبب العوامل الجوية أو نبشها من قبل الكلاب الضالة، ولم تعلن إسرائيل عنها، سوى بعد صدور أمر عسكري عام 1976، وحمل الرقم 380109 وتعلّق بتعريف الجثث، نزع الوثائق والأغراض من على الجثث، وترقيم الجثث والقبور.

وبحسب مصادر صحفية إسرائيلية وأجنبية، كُشف النقاب عن أربعة مقابر أرقام في السنوات التي تلت توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، وهي مقبرة أرقام تقع في منطقة عسكرية بين الحدود الإسرائيلية السورية اللبنانية، وفيها ما يقارب من 500 قبر تعود إلى فلسطينيين ولبنانيين غالبيتهم سقطوا في حرب 1982، ومقبرة ثانية متواجدة في منطقة عسكرية مغلقة بين أريحا وجسر دامية في غور الأردن، وفيها أكثر من مائة قبر، تحمل أرقاماً من 5003 –5107 "ولا يُعرف إن كانت أرقامًا متسلسلة لمقابر أخرى أم أنها مجرد إشارات ورموز إدارية.

كما اكتشفت مقبرة "ريفيديم" في غور الأردن، ومقبرة "شحيطة" وتقع في قرية وادي الحمام شمال مدينة طبريا، غالبية الجثامين فيها دُفنت بين عامي 1965 – 1975. وفي الجهة الشمالية لتلك المقبرة ينتشر نحو 30 من الأضرحة في صفين طويلين، فيما ينتشر في وسطها نحو 20 ضريحاً.

4.jpeg

مظاهرة للمطالبة بتسليم الجثامين لأهاليهم.

انطلقت "الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء" بمبادرة من بعض الأهالي والمدفونين في مقابر الأرقام الإسرائيلية، وتبنى الحملة مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، وبدأ عمليات بحث وتوثيق، ليتم توثيق قرابة 400 جثمان، بعضهم محتجز من ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. واستطاعت الحملة بمجهودات فريق المركز تحرير قرابة 118 رفات خلال السنوات الأولى لانطلاقها، بعد الحصول على حكم قضائي من محكمة العدل العليا الإسرائيلية، كما يقول شجاعية. ولكن لا يزال أكثر من ٢٥٠ جثمان محتجز في مقابر الأرقام. "دائمًا ما نقول ونؤكد، أن تلك الأعداد هي ما استطعنا توثيقها، بينما الأعداد الحقيقية في مقابر الأرقام قد تكون أكبر من ذلك."

إعلان

وربما الدليل على حديثه، ما تم اكتشافه مؤخرًا في تقرير لصحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية، حول مقبرة تحتوي على أكثر من 70 شهيد من شهداء الجيش المصري في منطقة اللطرون بالقرب من القدس، دفنوا خلال حرب حزيران 1976.

ثلاجات الموتى
في عام 2015، عادت سياسة احتجاز الجثامين من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، بعدما توقف بشكلٍ مؤقت ما بين العام 2008 و 2015 لكنّ الاحتجاز هذه المرة تحول إلى ثلاجات الموتى حيث يُحفظ الجثمان في درجة برودة ما بين 40 إلى 50 درسة سالبة، ويبقى مجمدًا، بدلاً من الاحتجاز في مقابر الأرقام.

تنبه القائمون على الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء ومركز القدس لما يجري، وأصبح تركيزهم على متابعة وتوثيق الحالات التي يتم احتجازها بهذه الثلاجات، والمطالبة القانونية بالإفراج عن تلك الجثامين المحتجزة بشكل يخالف القوانين الإسرائيلية والدولية.

"في حال تم احتجاز الجثمان من قبل الجيش الإسرائيلي، نقوم مباشرة بالتواصل مع عائلة الشهيد/ة، ومن ثم الزيارة الفورية، لنوثق الحالة، إلى جانب الحصول على وكالة رسمية لمحامي، وهنا تبدأ المراسلة القانونية مع الشرطة والجيش وقائد المنطقة –الإسرائيلي- حسب موقع الحدث"، يقول شجاعية مشيراً إلى أنّ تلك المراسلات تأخذ وقتًا للرد، سواء أكان الرد سلبًا أو إيجابًا.

في عامي 2015 و 2016، ومع بداية عملية احتجاز الجثامين في ثلاجات الموتى، اعتمد المحامون على قوانين وتشريعات التي لا تجيز احتجاز الجثامين خلال عمليات مراسلاتهم مع الجهات الإسرائيلية، وإذا ما جاء الرد سلبًا، بعدم نية الاحتلال تسليم الجثمان، يتوجه المحامون إلى محكمة العدل العليا بعد التشاور والاتفاق مع العائلة، إلا أنّ الأمر اختلف في السنوات اللاحقة.

إعلان

يوضح شجاعية، أنّ إسرائيل حاولت شرعنة عملية الاحتجاز قانونيًا في عامي 2017 و 2018، حيث أُقرت قوانين وتشريعات من قبل الكابينيت الإسرائيلي، تجيز عملية احتجاز جثامين الفلسطينيين بشكلٍ مؤقت. ويضيف: "كان في البداية احتجاز للشهداء الذين ينتمون لحركة حماس أو من يقوموا بعمليات نوعية، وهو مصطلح فضفاض، ولاحقًا تم توسيع تلك المعايير لتشمل كافة جثامين الشهداء الفلسطينيين الذين يقومون أو يحاولون القيام بعمليات طعن أو مقاومة للاحتلال."

أوراق ضغط
تستخدم إسرائيل مع هذه الجثامين كأوراق ضغط ومساومة في المفاوضات التي قد تجريها الحكومة الإسرائيلية على الجنود الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس في قطاع غزة، بحسب ما نوه منسق الحملة الوطنية.

ويضيف: "محكمة العدل الإسرائيلية لا تريد أن تعطي أيّ قرار إيجابي ولو لمرة واحدة، لأنه سيكون بمثابة سابقة قضائية ويمكن أن ينسحب القرار على جميع أو غالبية الجثامين التي يحتجزها الجيش الإسرائيلي."

ويعطي شجاعية مثالاً في قضية جثمان مي عفانة، التي قتلها الجيش الإسرائيلي على حاجز حِزما العسكري شرقي القدس، في 16 يونيو 2021، بزعم محاولتها "طعن جنود."

تم احتجاز جثمان عفانة - أم لطفلة عمرها 6 سنوات كانت تعد لرسالة الدكتوراه في مجال الصحة النفسية - لأكثر من عام، قبل أن تُقر المحكمة بتسليم جثمانها. "ولكن حتى لا يضطر القاضي لإصدار حُكم يُمكن أن ينسحب على باقي الجثامين المحتجزة، تم اعتبار أن تسليم جثمان عفانة حالة خاصة لا تنطبق على باقي الجثامين."

يشير شجاعية بأنّ "سرقة الأعضاء" توقفت خلال السنوات الماضية، ويؤكد أن جميع الجثامين التي احتجزت خلال السنوات الأخيرة وتم تسليمها، كانت تُحول إلى المستشفيات الفلسطينية ليتم فحصها وتشريحها قبل عملية الدفن، ولم يحدث أن اكتشفت عملية سرقة أعضاء خلال ذلك.

إعلان

لكنه يعود وينوه إلى أنّ رفات الجثامين المتواجدة في مقابر الأرقام، لا يمكن التأكد ما إذا سُرقت من أجسادهم الأعضاء أم لا، كون ما تم تسليمه من جثامين محتجزة في مقابر الأرقام بين عامي 2011 و 2012 عبارة عن بقايا رُفات وبقايا عظام مر على وفاتها عدة عقود وتحللت. لم يتم تسليم أي رفات بعد ذلك.

5 (2).jpeg

مظاهرة في رام الله لمطالبة إسرائيل بالإفراج عن الجثامين المحتجزة في ثلاجات الموتى.

لكن ماذا عن الجثامين التي تم تسليمها ودفنها مباشرة وبرقابة مشددة من جيش الاحتلال الإسرائيلي مثلما يحدث مع الشهداء بالقدس، ودون فحصها وتشريحها في مستشفيات فلسطينية؟

يوضح شجاعية أنّه علينا أن نفرق بين الجثامين من مدن الضفة الغربية، التي تخضع للسلطة الفلسطينية، والمناطق المحتلة عام 1948، مثل حيفا أو ام الفحم أو القدس وغيرهم من المدن التي تخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية.

"تفرض إسرائيل شروطًا عدة على أهالي الفلسطينيين الذين يعيشون داخل مناطق الـ٤٨ قبل تسليم جثامين أبنائهم. على سبيل المثال عدد محدود للمشيعين لا يتجاوز الـ 30 أو 50 مشيع بأفضل الأحوال، يسبقها تسليم بيانات المشيعين، من أرقام هويات وهواتف، كما يُمنع عليهم التصوير بالهواتف أثناء الدفن، أو التكبير، هذا بالإضافة إلى أنّ غالبية عمليات تسليم جثامين الشهداء في تلك المدن، يتم خلال ساعات الليل أو فجرًا."

عملية التفاوض على شروط التسليم والدفن، تستمر لعدة أيام أو أسابيع، يكون الهدف منها الضغط على الأهل خوفًا أن تتحول جنازاتهم إلى مناسبة وطنية بأعداد كبيرة من المواطنين المشاركين في التشييع، إلا أنّ بعض العائلات رفضت تلك الشروط، وأصرت على شروطها مثل استلام الجثمان بعد عملية صهر الثلج عنه.

الكثير من الجثامين المحتجزة في ثلاجات الموتى في إسرائيل تكون ضمن درجة برودة تصل لسالب 40 أو 50 تحت الصفر، وعند تسليم الجثمان للأهل يكون عبارة عن قالب ثلج غير واضح المعالم، ولا يتمكن ذويه من توديعه بشكل اعتيادي.

هذا ما دفع خالد مناصرة، اشتراط استلام جثمان طفله بعد عملية تسييح جثمانه من الثلج. مناصرة، هو والد الطفل حسن (١٦ عاماً) والذي قتل برصاص الجيش الإسرائيلي بدعوى قيامه بطعن مستوطن في عام ٢٠١٥، فيما تم اعتقال ابن عمه الطفل أحمد مناصرة، بجوار منزلهم في القدس.

يقول والد الشهيد المناصرة –في مقابلة سابقة ضمن بودكاست ماتريوشكا- أنه رفض شروط الجيش الإسرائيلي، وأصر على رفع عدد المشيعين إلى 50 بدلاً من 25 مُشيع، كما طالب تسلّم الجثمان بعد أن يتم تسييح جثمانه من الثلج. بعد مداولات تمت الموافقة على تسليم الجثمان في وقت متأخر من الليل.

تمت الإجراءات وفق المطلوب، وجاء اليوم المحدد، ذهب الأب لاستلام جثمان ابنه وإذ به عبارة عن قالب من الثلج، ورفض الأب استلام الجثمان. ويقول "البعض لامني على عدم استلام جثمان حسن، لكن لم أتعرف عليه، وكنت أريد أن نودعه أنا وأمه وأقاربه بشكلٍ لائق، هذه المرة الأخيرة التي سنراه بها." عادت المفاوضات من جديد وفي النهاية تمت الموافقة على تسليم الجثمان بعد تسييح الثلج عنه، وتم تشييع الطفل حسن وسط رقابة من الجيش وبعد منتصف الليل.

احتجاز الجثامين تضاف لسياسة إسرائيل بالعقاب الجماعي في محاولة للضغط على عائلات الفلسطينيين وردع الآخرين، مثل هدم منازل منفذي العمليات بالضفة الغربية والقدس المحتلة. هذه السياسات تتعارض مع أساسيات القانون الدولي بأن لا يتم يعاقب شخص أو عائلة على أفعال لم يرتكبها.