المُلَّاية البغدادية: تراجيديا البكاء الذي لا يعرف عمراً

photo_٢٠٢١-٠٦-١٣_١٤-١٧-٢١

المُلَّاية” المؤنث المُشتق من كلمة “المُلّا” هي من التقاليد العراقية التراثية حيث يتم طلب نساء ذات صوت شجي لرثاءِ الموتى ومواساةِ ذوي الفقيد من خلالِ قراءتها المستمرة للقصائدِ والأبوذيات، وهو نوع من الشعر الشعبي” التي غالبًا ما تكون دينية وترتبط بالعادة بواقعة بأحداث كربلاء ومقتل الإمام الحسين.

وقد ارتبطت الثيمة الحسينية مثل حبل متين بهذه الطقوس على امتداد السنين. بعد مقتل الإمام الحسين في كربلاء العراقية، تعاقبت الأجيال على القضية وتخليد إرثها، من خلال المواساة الدائمة والمستمرة لأخت الحسين، السيدة زينب، والتي واجهت مصير السبي ورؤية عائلتها وهي تقتل أمام عينيها، فما كان لها سوى النعي والمؤازرة لإخوتها.

Videos by VICE

هذا ما تحاول المُلايات تقديمه خلال العزاء من خلال التذكير بحادثة مقتل الحسين، حيث دارت إحدى أهم المعارك في التاريخ الإسلامي، سنة ٦١ هجرية، بين الإمام الحسين حفيد النبي محمد ومجموعة صغيرة من أتباعه، ويزيد بن معاوية، واستمرت لمدة ثلاثة أيام متواصلة، لتنتهي يوم ١٠ محرم، بمقتل الحسين وعائلته بما فيهم الاطفال وبقاء عدد قليل من نساء العائلة، حيث تم سبيهن وموت أغلبهن خلال السبي.

تعتبر الُملايات العراقيات، أن ما حدث في كربلاء لن يأتي بالظلم مثله، فتردد العدادات، النعي والنحيب، وتربط حادث موت الفرد، بحادثة كربلاء، وبما سيحدث لاخواته أو بناته، من عذاب وأسى، بعد فراقه، كنوع من المواساة ومحاولة التذكير بوجود مصيبة أعظم، وهي ما حدث للحسين في كربلاء.

 خلال هذه الجلسات، تسترجع الملاية، الخصال الطيبة للميت حيث تحوم دموع النسوة، وتخرج بهيئة صراخ ونحيب متقطع، ويرافق هذه الأصوات دقات متناغمة على الصدور والوجه تعبيراً عن الحزن الهائل الذي يخترق مجلس العزاء ونساؤه، فتمتزج كلمات “الملاية” والمرددة بصوت عال من خلال الميكرفون، مع ضربات أيادي النساء على صدورهن ووجوههن، لتصبح بمثابة سمفونية شعبية قائمة على الصوت، ولحن التراجيديا.

“المرأة بشكلٍ عام لا تستطيع كبح جماح قلبها من استخراج الدموع عندما تفقد شخصاً عزيزاً عليها،” تقول الملَّاية البغدادية المعروفة بـ أم حسام، ٥٨ عاماً، لـ VICE عربية عن المصادفة التي جعلت منها مُلاية: “بعد وفاة زوجي وبكائي عليه، أخبرتني بعض النساء أن لي صوتًا يساعد على ترميم الجروح. من يومها وأنا أتنقل من منزل لآخر حاملة بصدري حكاية الفقدان الأول.”

تشير أم حسام أنها بمرور الوقت تشعر أن دموعها تسبقها بالدخول الى المنزل، حيث شهدت قصص حزينة كثيرة، من بينها انفجار داخل حي الوشاش الذي تقطنه والواقع في مركز العاصمة بغداد، عام ٢٠٠٦: “ابتلعت سيارة مفخخة أكثر من عشرة أشخاص دفعة واحدة، ولم أستطع أن أقدم خدماتي لعائلة وأترك الأخرى، فقررت جمع العوائل المنكوبة كلها، تحت سقف عزاء واحد.”

قلبي والملايات
منذ الصغر وروحي تتواصل مع صوت المُلايات الذي كان يتردد صداه قويًا في حيّنا، ارتبطت وجوههن بالنسبة لي بشهر محرم وأيامه العشر الأوائل حيث كنا نجري وراء الملايات، ونتبعهن لأي منزل تحط فيه أقدامهن. كانت العوائل الميسورة تعمل على إحضارهن لقراءة مقتل الحسين أو إقامة المولد النبوي، وتكون الدعوة عامة، فتجد صالة المنزل تعج بنساء لا يعرفن بعضهن البعض وهن قادمات بحماس لضرب الصدور بحرقة، وكأن لكل واحدة منهن حسين خاص بها.

تحت غضب الصواريخ، هربت عائلتي من منزلنا الكائن في حي السلام غرب بغداد خلال الغزو الأمريكي عام ٢٠٠٣، إلى منزل جدي في مدينة الثورة سابقاً (مدينة الصدر حاليًا) إذ كانت هذه المنطقة تقريبًا خالية من الوزارات المهمة، فيما تمركزت أهداف الطائرات العسكرية في جانب الكرخ من العاصمة، حيث تقطن عائلتي. 

بعد أيام قليلة من الغزو، أخبرونا أن عمي الضابط يعقوب استشهد، وسلمونا في المستشفى قطعة صغيرة متفحمة. جاءت الملاية، لرثاء الشهيد الميت. لا زلت أتذكر وجهها كان جاداً جداً، وهنالك الكثير من “الدگات” (الأوشام الموجودة أعلى فك النسوة والجدات) فوق حنكها، وحول معصميها مثل سوار عتيق، لم تطلب المال بل أرادت علبة من السجائر فقط. الحزن والأسى في منزل جدي كان طاغياً، إلا أنها كانت تخفف عنا بالقول: “لقد ذهب شهيدًا كما أبا عبد الله الحسين.”

كنت أبلغ بوقتها الحادية عشر وشعرت أن فقدان عمي هشمني من الداخل، اعتقدت أنني صغيرة جداً على اللطم والنحيب، ولكن اكتشفت أن فكرة البكاء ومرارة الخسارة في العراق لا تعرف عمرًا، كان صوتها يقطعنا، حتى أن زوجة عمي الشهيد، مزقت ثوبها يومها. كان حزنًا أبديًا، بدى وكأنه لن ينتهي.

كانت الملاية تحمل كتاباً أوراقه شبه ممزقة، تنشد وتضرب على الكتاب بيدها فيصبح بمثابة لحن، تعدل حجابها بين الفينة والأخرى وتلف عباءاتها حول خصرها وتدخل وسط نسوة البيت، تضرب بكلتا يديها المتعاكستين على كتفيها ثم تعود إلى الخلف، تترك المساحة لبناته المفجوعات ليأخذن حصتهن من اللطم، تقول لهن: “تصبرچن زينب بمصابچن، مصابچن مثل مصابها.” نصف ساعة من القيامة الحزينة، استطاعت أن تجعلهن يفرغن كل ما في قلوبهن وأرواحهن من أسى وحزن.

تأريخية الحزن
للحزن شعائر ضاربة في التأريخ العراقي وتقاليد مستمرة بحلوها ومرها داخل هذه البلاد وفي جميع محافظاته تقريبًا، ولربما هي قبل دخول الحسين إلى العراق، حيث ابتدأت الحكاية، حينما هبط الإله السومري تموز، إله النبات والحيوانات، إلى العالم السفلي وتوفي نتيجة انقطاع المطر، لتقود النسوة النائحات عليه، سيدة وقورة، في ممشى جنائزي، حافل بالعويل والبكاء، حتى أصبح كجزء من موروث عقائدي خُلق لإخراج الحزن العميق من قلوب الناس. فكما يقول الكاتب إميل سيوران “الحزنُ شهيةٌ لا تشبِعُها أيّةُ مصيبة.”

هذه التقاليد موجودة في مختلف الثقافات، وأكثرها شهرة في إيرلندا، ومعروفة بـ Keening من الكلمة الغيلية caoineacdh والتي تعني البكاء. وتقوم النساء بالنحيب والصراخ والغناء والضرب على صدورهن خلال العزاء، لتكريم المتوفى. عادة ما يتم أداء هذه الطقوس من قبل ثلاث نساء محبوبات من الشخص المتوفى، أو تم تعيينهن كمحترفات.

ويعتبر التعبير الحزن وسيلة صحية للتعامل مع الموت وله فوائد على الصحة النفسية. فالحزن يتيح لنا “تحرير” الطاقة المرتبطة بالشخص أو الشيء أو التجربة المفقودة – حتى نتمكن من إعادة استثمار تلك الطاقة في مكان آخر. إلى أن نحزن بشكل فعال، فمن المحتمل أن نجد صعوبة في إعادة عيش حياتنا، لأن جزءاً منا لا يزال معلقاً بالماضي.

هنا يأتي دور المُلاية التي تسمح لأهل المتوفي بتخطي الحزن، إذ تعتبر هذه المهنة العتيقة، مقدسة لدى العراقيين، لكونها مختصة بمساعدة نساء المتوفي، على البكاء والعويل وتفريغ ألم الفراق. تتوجه إلى البيوت التي فقدت أحد احبتها، لتعيش معهن رحلة استرجاع صفاته الطيبة، بعبارات وأهازيج عراقية، مليئة بالحزن.

تبدأ حكاية الملاية، عند لحظة دخولها المنزل المفجوع، حيث تنتظرها وتستقبلها عشرات النساء، من الأقارب والجيران، القادمات للمواساة أيضًا. ولا تنتظر الملاية كثيرًا، حتى تباشر بصوتها تهييج المواجع، بسطر أو سطرين من القصائد المكتوبة عن حادثة الحسين وعائلته. تبدأ أصوات النساء وصراخهن بالتعالي شيئًا فشيًئا، فيما تشجعهن أم حسام على التفريغ واللطم: “بأعلى أصواتكن اخواتي، بأعلى أصواتكن.”

تشكل النسوة في الغرفة دائرة صغيرة متناسقة، وتقف في منتصفهن امرأة تكون قادرة على تحفيزهن واللطم بصورة تصاعدية، فتتفرع الدائرة لتصبح عدة دوائر من السواد حول بعضها البعض، يضربن على وجههن برفق، فيما تصدح المُلاية ملتاعة: “من زغري اللطم والنوح يحلالي، من يوم اللي مشي متبهذلة احوالي، عيونني على الراحو مني.” وبطريقة لطم سريعة وضرب أقسى وأقوى تشارك النسوة المُلَّاية في ترديد البيت الأخير من كل قصيدة أو المقطع الأخير من كل “أبوذية.”

photo_٢٠٢١-٠٦-١٣_١٤-١٧-١١.jpg
مجلس عزاء بمصاحبة الملاية أم حسام.

بعض الملايات يكتبن قصائدهن بأنفسهن، وبعضهن يقومن بشرائها من شاعرات شعبيات خصصن موهبتهن للكتابة عن الحزن الحسيني. تخبرني الملاية أم عباس، ٦٠ عاماً، عن بداية حبها لمهنة الُملايات: “أنا امرأة أميّة، تزوجت وأنجبت في سن صغير ولكنني كنت أستطيع حفظ جميع الأناشيد والأهازيج الخاصة بالملايات. كنت أحب الذهاب إلى مجالسهن، وحينما أعود للبيت اقف أمام المرآة وأردد أقوالهن. في كل مرة كنت أذهب إلى مجالس الملايات محملة بالحزن، أعود خفيفة كالريشة، وكأنني سكبت كل أحزاني دفعة واحدة.”

غيرت هذه المهنة حياة أم عباس، حيث قررت دخول مدرسة محو الأمية وأنهت الثانوية حتى تتمكن من كتابة الأناشيد خلال مجالس العزاء: “احلم بإكمال دراستي الجامعية الجامعة رغم أنني اليوم جَدة. بعد إتقان الكتابة صرت أستطيع تدوين قصائدي الخاصة وتلحينها بنفسي، والذي ساعدني بذلك هو زوجيّ الوفي الذي غالبًا ما كان يناديني لأجلس بقربه “وأنعى”.”

تخبرني أم حسام أنها ترى أن الخسارة جزء من حياتنا التي علينا مواجهتها كل يوم بواقعية والبكاء ربما هو أحد الطرق لذلك، وتضيف: “كلما دخلت منزلاً، تذكرت خساراتي، وشعرت بلوعة العوائل وصعوبة الأيام الأولى بعد خسارة شخص قريب. لقد فقدت ابني الشاب عام 2005، خرج من المنزل، ولم يعد. لهذا، حينما اقرأ للآخرين، فأنا اقرأ أيضًا لنفسي.”

تشير أم عباس أن البعض يرى اللطم كشرك وعدم إيمان بحكمة الموت، وأنها تعرضت لمحاولة قتل حينما كانت جميع المناطق البغدادية تعاني حربًا مذهبية أهلية مشتعلة، امتدت منذ عام ٢٠٠٥ حتى عام ٢٠٠٩. وتضيف: “الموت في العراق هو في الأساس غير طبيعي، ما هو المطلوب من النساء اللواتي خسرن أفراد عائلتهن في الحروب، هل عليهن أن يخفين أحزانهن ويموتن مكلومات؟ أنا أسير وفق عقيدتي التي هي سلاحي الدائم، وعقيدتي ليست حرامًا، ما الضير من البكاء؟ وهل تملك العراقيات سوى البكاء؟”