عادة يكون الصغار فضوليين تجاه الأشياء من حولهم خلال عامهم الأول والثاني، فيحاولون استكشاف الأشياء بحواسهم الخمس لاسيما حاستي اللمس والتذوق، لكن بعض الأطفال يختلفون عن أقرانهم. منذ الأشهر الأولى في حياة طفلي الثاني “حمزة” كان يضع كل لعبة أو غرض يقابله في فمه، وهي العادة التي اعتبرتها في البداية محاولة للاستكشاف، لكن الأمر لم يتوقف عند عمر عامين ولا حتى ثلاثة، وبت أكيدة من أن طفلي يعاني خطباً ما.
كان قد تجاوز عامه الأول ببضعة أشهر حتى ظهرت اضطرابات غريبة على سلوكه، وكأن دوامة سحبته بعيداً عن أسرته فلم يعد يتواصل معنا إطلاقاً.. لا يستجيب لاسمه ولا ينفذ أي أوامر ولا ينظر إلى أعيننا، يحيا بيننا كطيف، يضحك ويبكي دون سبب واضح وبالكاد يأكل صنفين أو ثلاثة.. وسرعان ما تم تشخيصه باضطراب طيف التوحد، إلاّ أن الأمور لم تقف عند هذا الحد.
Videos by VICE
كان يتسلل بشكل متكرر لتناول صابون تنظيف الأطباق، أو يمضغ الورق والمناديل والإسفنج وأحيانًا لا تسلم أقمشة الثياب من الأكل
كان حمزة قد تجاوز عامه الثاني حين اتخذت الأمور منحنى كارثي، ففي كل يوم يتناول عدة أشياء غير صالحة للأكل، وكل ساعة أفاجئ بكارثة. يدي طفلي ملطخة بالطين وفمه يمتلئ به.. مشهد تكرر مرات عدة في أيام كثيرة على مدار ثلاث سنوات، كلما سهوت للحظات قليلة عن مراقبته لأعد طعاماً للأسرة أو أنجز عملاً متأخراً أو أدخل إلى الحمام، اكتشف أنه يتسلل إلى الشرفة ويتناول الطين الموجود داخل وعاء يحوي شجرة ُفل.
وما إن تمضي دقائق حتى اكتشف أن صغيري قام بعضّ حجر البطارية الخاص بجهاز التحكم وأن فمه ووجهه وثيابه ملطخين بالكربون الأسود. ولأن المطبخ مصمم على الطراز الأمريكي وليس له باب فإنه كان يتسلل بشكل متكرر لتناول صابون تنظيف الأطباق، والدهون وزيت القلي، ويتخلل ذلك العديد من المرات التي يمضغ خلالها الورق والمناديل والإسفنج، وأحيانًا لا تسلم أقمشة الثياب من الأكل.
لم تكن الكوارث تتوقف، فكلما نجح طفلي في العثور على شيء خطير وضار كحبة دواء أو منظف أو ورنيش طلاء الأحذية فإنه يسارع بوضعها في فمه، والمدهش أنه يستسيغ مذاقها ولا يعتبره مقززاً، وبالتالي أصبح أكبر همي إخفاء تلك الأشياء ووضعها على أرفف مرتفعة، وللأسف فشلت محاولات خلع الحفاضات لأن الأمر وصل بصغيري إلى تذوق البول والبراز.
وخلال أوقات دوامي عبر الانترنت كنا نتناوب أنا وشقيقه الذي يكبره بعامين فقط على الركض وراءه ومراقبته للحيلولة دون وقوع كارثة وشيكة. أما زياراتنا للأقارب فكانت دوماً تثير المتاعب لأن طفلي لا يكف عن إتلاف الأشياء ووضعها في فمه، ولا تسلم من أسنانه أخشاب الأثاث.
لم أكن أعرف مما يعاني طفلي تحديداً، وفي ذلك الوقت كان قد تعرض لرفض حالته في إثنان من مراكز التخاطب لكونه مصاباً باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه بجانب التوحد. رفضت إعطاءه أي مهدئات وأدوية كيميائية تؤثر على أداء المخ واكتفيت بالمكملات الغذائية، لم أرغب بتحويل طفل دون الثالثة من العمر إلى مدمن مهدئات وتدمير جهازه العصبي.
ذهبت لعدة عيادات في محاولة لفهم ما الذي يجري مع ابني، في واحدة من الزيارات كانت الاخصائية ترمق طفلي شذراً وهو يلعق الكرسي المغطى بالجلد، ثم يمرر لسانه على غطاء رأسها والاشمئزاز يبدو عليها، ثم سألتني بدهشة إذا كان معتاداً على مثل تلك التصرفات؟، لتخبرني في نهاية الجلسة أنها لن تستطيع العمل معه وهو على هذا النحو.
مع دخول طفلي الأكبر للروضة ازدادت الأمور كارثية فأدوات الدراسة أصبحت مصدر اغواء لشهية أخيه المضطربة، صرت اشتري تقريباً في كل يوم ممحاة جديدة لأن الصغير يأخذ خاصة أخيه خلسة ويمضغها باستمتاع ليحيلها إلى فتات، أو يقضم جزءًا من القلم الرصاص، أو يضع أقلام التلوين الفلوماستر في فمه لتصبغ بألوان يصعب التخلص من أثارها، أو يلوك في فمه قطعة من الصلصال أو يمزق صفحات وأغلفة الكتب الدراسية ليمضغها، خلال ثوان معدودة أثناء انشغالنا بالدراسة.
تكمن خطورة هذا الاضطراب في حدوث مضاعفات، كحالات التسمم والتعفن التي قد تصيب الجسم
كان طفلي قد وصل إلى عامه الرابع حين تم تشخيصه أخيراً باضطراب بيكا Pica Disorder أحد الاضطرابات السلوكية القهرية والذي يسبب تناول المريض لمواد غير غذائية كالطين والتراب والصابون والطبشور والطلاء والمعادن والشَّعر والورق والقاذورات والبراز، ويصيب هذا الاضطراب الصغار والكبار، وقد يظهر في سياق اضطراب نفسي آخر كالإعاقة الذهنية واضطراب طيف التوحد والفصام أو ظرف صحّي كالحمل، ولا يعتبر ذلك اضطراباً حين يتعلق بالأطفال دون العام والنصف من عمرهم، وعادة ما يختفي هذا الاضطراب عند ما يبلغ الطفل عامه العاشر إذا كان طفلا طبيعياً.
يرجع بعض الخبراء اضطراب بيكا لمشكلات صحية متعلقة بنقص أحد العناصر الغذائية في الجسم كالحديد والزنك والكالسيوم وبعض الأزمات النفسية والاجتماعية، والإعاقة الذهنية والتوحد، وبعض الأمراض العقلية والنفسية كالفصام والوسواس القهري، أو قد ينتج عن الأزمات العاطفية كالحرمان والإهمال المسببان للقلق والتوتر. تكمن خطورة هذا الاضطراب في حدوث مضاعفات، كحالات التسمم والتعفن التي قد تصيب الجسم، اضطرابات على مستوى الجهاز الهضمي كالإمساك وانسداد الأمعاء والالتهابات، وأضرار على مستوى الدماغ والقلب والكلى، مشاكل الأسنان.
حذرني الطبيب من احتمالية أن يكون طفلي مصاباً بتسمم الرصاص بسبب ابتلاعه لمواد سامة، وطلب مني إجراء تحليل فحص المعادن له، واتضح لي أنه يعاني من اضطرابات بالجهاز الهضمي. أما محاولات إلحاقه بحضانة فكان نصيبها الفشل لأنهم يرفضون تحمل مسؤولية رعايته ويطلبون إحالته للرعاية النهارية بإحدى مراكز تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، وهو الأمر الذي قد يزيد من درجة توحده ويكسبه سلوكيات سلبية. التعامل مع طفل مساب باضطراب بيكا يؤثر على جميع تفاصيل حياتي كأم، وهو أمر مشترك مع العديد من الأمهات اللواتي لديهن أطفال مصابون بالتوحد وتشتت الانتباه وطبعاً اضطراب بيكا.
“أكره الخروج من المنزل مع ابني بسبب اضطراب بيكا،” تقول فاطمة محمد، والدة إياد وتضيف: “عندما سافرنا للمصيف وقصدنا الشاطئ كان الأمر كارثياً فهو لم يتوقف عن أكل الرمل وشرب الماء المالح، وكلما ذهبنا إلى الحديقة يلطخ وجهه ويديه وفمه بالطين وتتلوث ثيابه ونضطر للمغادرة سريعاً ونحن نشعر بالحرج بسبب نظرات الغرباء المستنكرة والمستغربة. كنت أظنها أزمة عابرة، لكنه تجاوز عامه الرابع ولازال يقوم بتلك الأمور، لا أحد يتفهم ما يمر به طفلي وما أمر به كأم، ويعتقدون أنني أم سيئة.” تشير فاطمة أن حالة ابنها تسببت في عزلتها وتضرر حالتها النفسية حتى أنها باتت تتعاطى دواءاً مهدئاً وصفه لها الطبيب النفسي.
سندس مصطفى، والدة كارما (5 سنوات) فتحكي أنه منذ أتمت ابنتها تسعة أشهر بدأت في وضع الأشياء الصغيرة المحيطة بها في فمها، إلا أن الأمور ازدادت سوءًا عندما أكملت عامها الثاني، حيث بدأت في أكل الخشب والبلاستيك والورق. وتضيف: “عندما أدخلتها إلى الروضة أخذت تأكل الأشياء غير الصالحة للأكل مثل: الطباشير أو أقلام الرصاص وألوان الشمع وأقلام الحبر، وأصبحت أتلقى شكاوى يومية من المعلمات وإدارة الحضانة، وتكررت إصابتها بالإسهال والمغص الشديد، فاضطررت لإخراجها من الحضانة، ومع تدريبها المستمر وتعليمها الأكل النافع والأشياء الضارة تحسنت كثيراً.”
لأن الناس يجهلون ماهية الاضطراب فإنهم ينشرون عنه أكاذيب شائعة مثل كون أصحابه من ذوي القدرات الخارقة، أو أنهم ممسوسين من الجن أو قوى شيطانية
ما يعانيه الأهل مع أطفالهم المرضى يرافقه معاناة مضاعفة تأتي من الآخرين الذين يضعون اللوم على الأهل. “شوفي ابنك عمل أيه؟” “ربي ابنك” “انتي مهملة”.. عبارات لا تنتهي من الزوج والأهل حين يُخرّب ابني شيئاً بأسنانه أو يأكل شيئاً مؤذياً. لهذا أصبحت أتجنب الزيارات لأن من حولي الذين لا يكفون عن الشكوى والتذمر.
الأطفال المصابون باضطراب بيكا يتحولون كذلك إلى مادة للسخرية على السوشيال ميديا كلما نُشر خبر أو تدوينة عن طفل يأكل اللحوم النيئة أو الأخشاب أو الطين أو الزجاج، ولأن الناس يجهلون ماهية الاضطراب فإنهم ينشرون عنه أكاذيب شائعة مثل كون أصحابه من ذوي القدرات الخارقة، أو أنهم ممسوسين من الجن أو قوى شيطانية، كما يتهمون الأم دوماً بالإهمال رغم أنها تبذل جهداً خارقاً للطبيعة وهي تحاول حماية طفلها من الأخطار.
في معظم الحالات، تعاني الأمهات بصمت، مع رفض الأهل ومعظم الحضانات والمدارس التعامل مع أطفال مصابين باضطرابات بيكا. الجهة الوحيدة التي ساعدتني كانت مجموعات الدعم الخاصة بأمهات الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة منها: كوكب التربية الخاصة يجمعنا، تجارب عائلات أطفال التوحد، متنفس أمهات أطفال التوحد.
من خلال هذه المجموعات شعرت بأنني لست وحدي، وهو ما خفف من شعوري بالعزلة والغضب. كما حصلت على نصائح مفيدة لم أسمعها من الأطباء مثل: إلهاء الطفل عبر تقديم أطعمة صلبة له كالجزر والمكسرات والخروب والبقسماط، استخدام المجسمات والصور في شرح الفرق بين الأشياء التي تؤكل والتي لا تؤكل بغرض تعديل السلوك، تجنب الأسلوب العنيف والتوبيخ عندما يقوم الطفل بهذا السلوك، بجانب إعطاءه مكملات غذائية تحتوي على الحديد والزنك.
لا شك أن الاعتماد على مجموعات الدعم ليس كافياً، فهناك ضرورة لزيارة طبيب مختص وإجراء فحوصات وتحاليل للدم والبراز ونسب المعادن عندما تظهر هذه الأعراض على الطفل؛ يكون أحياناً سبب المشكلة عضوي بالأساس وليس سلوكي، ويصبح علاج الاضطراب ممكناً وبشكل أسرع. الأهم أن لا تشعر الأمهات أنهن لوحدهن وأن حياتهن سلسة متواصلة محاولة منع الأسوأ، وأنا هنا لأوكد ذلك. هناك أمل في نهاية الطريق، طفلي بدأ بالتحسن، لم يختف السلوك تماماً لكنه أصبح نادر الحدوث، وهو الآن يدرك أنه من الخطأ وضع الاشياء غير الصالحة للأكل في فمه، لذا يخرجها بمجرد أن أطلب منه ذلك.
حمزة أفضل الآن وأنا أشعر أنني أفضل كذلك.