كيف أثر تشدد الأهل على هؤلاء الشباب

Untitled-Artwork

الأسرة هي المحيط الأساسي الذي تنمو وتتطور فيه شخصية الفرد، وداخلها تبدأ أولى التفاعلات والعلاقات الاجتماعية التي ستكون منطلق الأبناء لتكوين علاقاتهم مع محيطهم الخارجي. ولهذا فإن شخصية الطفل تتأثر مباشرة بشكل التفاعل المتبادل مع الوالدين باعتبارهم الجماعة الأولى والأهم التي ينتمي لها ومنها يتعلم الخطوات اللازمة للانخراط فيما بعد مع المجتمع. ويبدو أن الكثير من الآباء والأمهات في المجتمعات العربية عمومًا لم تدرك بعد طبيعة أدوارها إزاء أبناءها ولا أهمية ودقة وحساسية ذلك الرابط الذي يجمعها بهم، وتعتقد جازمة أن الأبناء ملزمين بإتباع الضوابط والقوالب التي يسطرونها لهم دون مراعاة لحاجتهم للحوار وتقدير رغباتهم وتطلعاتهم.

وتظهر هذه النزعة أكثر لدى الوالدين المتشددين دينيًا والمتعصبين اجتماعيًا، إذ تتحول حياة الأبناء معهم لما يشبه المعسكر، أو ما يطلق عليه “عسكرة الوالدين” حيث لا مجال فيه للخروج عن النظم والقواعد المسطرة حتى وإن تطلب ذلك ممارسة أشكال مختلفة من العنف محدثين شروخًا في الجسد والنفس معا بوعي أو بدونه. ولكن غالبًا ما يقوم الأبناء بكسر هذه الأغلال والتمرد عليها بأشكال مختلفة حتى وإن أدت لأذيتهم.  

تشير سيما هينغوراني، عالمة النفس وخبيرة الصدمات في مقابلة مع VICE أن تنشئة الفرد لها تأثير مباشر على كيفية رؤيتهم للعالم: “بصفتي معالجة صدمات نفسية، صادفت العديد من الحالات التي يعاني منها الأشخاص الذين نشأوا مع أبوين صارمين من معتقدات مشوهة أو قلق أو ينتقدون أنفسهم بشدة.”

Videos by VICE

وتضيف: “قد يشعر الآباء أحيانًا أنهم يقومون بعمل جيد من خلال غرس الانضباط في أطفالهم، ولكن في معظم الحالات، إما أن ينضج الطفل مبكرًا أو يفعل الأشياء فقط لإبقاء والديهم سعداء بدلاً من اكتشاف ما يريدون كأفراد. قد يأخذون الحياة على محمل الجد، ويشككون في أنفسهم باستمرار.”

تحدثت إلى عدد من الشباب من تونس ومصر وفلسطين والسعودية وسوريا وسألتهم عن كيف أثر تشدد والديهم على خياراتهم وحياتهم وصحتهم النفسية.

هربت من البيت  
“كان والدي يعيشان في السعودية ولذلك هما على درجة كبيرة جداً من التشدد الديني (سلفيين باختصار). لدى عودتهما إلى مصر أجبراني على ارتداء النقاب في سن مبكرة. شيئًا فشيئًا بدأ هذا اللباس يرهقني ويتعبني فطلبت من والداي أن يسمحا لي بارتداء حجاب كبقية الفتيات وخلع النقاب، لكن فوجئت برفض قاطع ووعيد بالعقاب. أصريت على موقفي فتعرضت لضرب مبرح أدى لكسر في ساقي، وتم سجني في البيت. حاولت جدتي وجدي التدخل ولكن بدون نتيجة، وكان صعبًا بالنسبة لي أن ألجأ للشرطة. في النهاية، لجأت إلى أحد دور الرعاية حيث أقيم الآن بنفسية مدمرة، ولكن سيكون لدي متسع من الوقت لترميمها بعيداً عن عائلتي.” –أمنية، 18، طالبة

أتقنت دور الكاذبة بقناعة 
“كان أهلي على درجة كبيرة من الانغلاق، بمعنى أنه كان هناك الكثير من الممنوعات. كنت أضيق ذرعًا بذلك خاصة وأن الكثيرات من صديقاتي كان لديهن مساحة كافية من الحرية. بعد نجاحي في الثانوية العامة اخترت اختصاصًا جامعيًا في العاصمة بعيداً عن أعين عائلتي الصغيرة والكبيرة. ومباشرة لدى التحاقي بالجامعة خلعت ذلك الثوب الذي أجبرت عليه، مارست كل الأشياء التي حرمت منها لبست الفساتين والتنانير القصيرة الملونة التي أردتها دائمًا، وذهبت للكثير من أماكن السهر وكان غالب أصدقائي من الرجال وقمت بتجربة الكثير من الأشياء المصنفة من المحرمات لدى عائلتي. اخترت أن أكون على نقيض تلك الصورة التي اختارتها لي عائلتي. وبعد تخرجي من دائرة الاقتصاد، حرصت على إيجاد عمل أيضًا بالعاصمة التي تبعد مئات الكيلومترات عن بيت العائلة. ولكن بمجرد عودتي لبيتنا كنت أرتدي لباسًا محتشمًا وأتقمص دور الفتاة التي يريدونها، لقد حولني تشدد أهلي إلى كاذبة مع سبق الإصرار ودون ندم.” –نعيمة، 33، موظفة في شركة مقاولات

شدوا الخناق فانفجرت
كنت متفوقًا في دراستي ولدي أحلامي كبيرة، لكن سرعان ما تبدد ذلك بسبب الخناق الذي كان يفرضه والداي علي. كانا يعتقدان أن الاختلاط ببقية أقراني في المدرسة والحي والمعهد سيؤدي لإفساد أخلاقي ويحول دون نجاحي. كنت أتعرض للضرب المبرح إذا ما خالفت يومًا أوامرهم وأمضيت وقًتا مع أبناء الجيران أو لعبت مع أصدقائي. جعلوا حياتي لا تدور إلا حول الدراسة وضرورة التفوق وإتقان العبادات كالصلاة وحفظ القرآن. خضعت في البداية خوفًا من الضرب، ولكنتي اختنقت من هذا السجن في عمر الثامنة عشر وتمردت. أهملت دراستي عمداً رغم الضرب والعقاب، كنت أريد أن أرسب حتى لا أكون الصورة التي يريدونها، كرهت كل شيء يتعلق بالدراسة والكتب رغم أنني كنت شديد التعلق بها. طُردت من المعهد الثانوي بسبب غيابي الدائم وإهمالي، اعتقدت أنني قد تحررت ولكن الحقيقة أن كل ما حدث معي قد تركا شرخًا كبيراً داخلي. أصبحت أعيش بشخصيتين، شحضية واحد متعبد ومحافظ كثير الصلاة حد المبالغة نهاراً، وشخصية أخرى لشخص متحرر يبحث عن الملذات ليلاً.”- صالح، 27، عامل بمصنع

تبنيت أفكار أمي المتشددة مطولًا
توفي والدي مبكراً وكانت والدتي المكلفة بعده برعاية خمسة أبناء في عمر صغير متدينة من جهة ومن جهة أخرى تخشى أن يضل أحدنا الطريق فيقال أنها لم تنجح في تربيتنا. أحببت الموسيقى كثيراً وكنت أرغب بممارستها كهواية ومهنة، جمعت المال واشتريت آلة “أورغ” حينها انفجرت والدتي وقالت “الموسيقى مزمار الشيطان” حدثت صدامات كبيرة بيننا وأجبرتني على التخلي عن الموسيقى، بل حتى أنني اقتنعت بآرائها وانقطعت تماماً حتى عن الاستماع لها. بعد سنوات طويلة تزوجت ورزقت بابنتي التي بدت مولعة بالموسيقى. وجدتني حائراً في البداية هل أتركها تمارس “مزمار الشيطان”؟ ولكن بعد تفكير وشكوك ونقاش مع نفسي ومع ابنتي، اشتريت لها آلة كمنجة وهي بصدد تعلم العزف عليها الآن.”- عماد، 45، محاسب

تعلمت التمرد والتحدي
بما أننا نعيش في غزة على شكل عائلات ممتدة فإن القواعد التي تسير حياتك لا يضعها الأب والأم فقط بل الأعمام والجدة والجد. خلال سنوات المراهقة تقبلت القواعد الصارمة التي فرضت من الوالد بقية العائلة الممتدة علي سواء على مستوى اللباس (فرض الحجاب) وحتى الاختصاص الجامعي -حيث فرض علي دراسة الإدارة الصحية. ولكن تدريجيًا سئمت هذا الوضع وقررت أن أعيش لنفسي ولتحقيق أحلامي. كنت أحب الفنون ولم يكن من السهل علي ولوج هذا العالم ولكن عزمي كان قويًا، بدأت بالرسم لأنني أكتشفت أنني أملك الموهبة وتدريجيًا أتيحت لي فرص المشاركة في بعض الأعمال الدرامية ثم المشاركة في بعض الفعاليات الثقافية الهامة وبدأت أنجح وأنا اليوم رسامة معروفة. لم يكن ذلك يسيراً لقد تعرضت للإهانة والنظرات التي أرى فيها اتهامات لي بالخروج عن العرف والعادات وغضبًا مكتومًا، اضطررت للكذب على أهلي مرات عدة حول المكان الذي أنوي الذهاب إليه، ناورت كثيراً. أمام النجاح الذي بدأت أحققه خفت ضغوط عائلتي، حتى أن والدي الذي كان يعارض خياراتي أصبح فخورًا بي.” –آلاء، 23، رسامة

حاولت الانتحار
“أجبرت على تعلم القرآن منذ الطفولة وأجبرت كذلك على دخول كلية الشريعة والقانون التابعة للأزهر على أمل أن يتم تعييني في الجامعة أو في النيابة العامة. كانت فرص الحلم والتفكير خارج المناخ السائد داخل عائلتي ومحيطي ممنوع، كنت مضطراً لأن أخفي عن والدي وعائلتي رغبتي في احتراف الغناء والتمثيل حتى اليوم الذي اشتركت فيه بورشة تمثيل بالقاهرة في غاية الأهمية بعد فترة قليلة من تخرجي من الجامعة وكان هناك فرصة عمل مناسبة لي في أحد الأعمال. كانت سعادتي لا توصف وشعرت أنني على وشك تحقيق حلمي. ولكن عندما أخبرت والدي بذلك، رفض الموضوع وقام بضربي وحبسي في المنزل وحرمني من المصروف وهددني بحرق وجهي بماء النار حتى أفقد الأمل في احتراف التمثيل. شعرت بالإحباط وحاولت الانتحار. تم نقلي إلى المستشفى وتم إنقاذ حياتي. بعد هذه الحادثة تملكني شعور لا مفهوم بالزهد بدأت أشارك في حفلات إنشاد في مدينتي كمقرئ في بعض المناسبات، وكانت هذه المناسبات تشبع عطشي للغناء. وبما أن فرصة العمل بالجامعة والنيابة العامة لم تأتي أشفق والدي علي وأطلق سراحي وعدت إلى حلمي مجددًا. بعد سنوات أتيحت لي فرصة للغناء بالأوبرا ونجحت في ذلك وكلي أمل في أن يتم تعييني بها بشكل دائم بدل العمل معهم بعقد مؤقت، وأعتقد أن فرص الالتحاق بالتمثيل ستأتي أيضًا.” –أحمد، ٣٥، فنان

لم أستطع أن أقيم أي علاقة ناجحة
“كان والدي صعب المراس، الضرب والإهانة والشتم هي أسلوبه المفضل في التعامل معي وبقية أخوتي وأخواتي وحتى أمي. تعايشنا مع الضرب حتى أصبح جزءاً من يومياتنا وربما لم نعد نشعر بالألم وتأقلمت أجسادنا الصغيرة مع العصي التي تنهال علينا بقسوة، قام بإخراجنا من المدرسة في مراحل مبكرة حتى يدفعنا للخروج للعمل في أعمار صغيرة ويسلب كل ما نجمعه لقاء عملنا المجهد في مصانع النسيج وإخوتي في البناء. لا أستطيع أن أسامحه حتى اليوم لأنني كنت أرغب في مواصلة تعليمي وكان لي أحلام كبيرة، ولكنه حرمني من ذلك رغم نجاحي، حتى اقترح جارنا أن يتحمل مصاريف دراستي كما لو أنني أحد بناته. استمر الحال سنوات طويلة، قبل أن نتمرد عليه وقررنا أخذ والدتنا والاستقرار بعيدًا عنه. بدأنا نشعر بالأمان والهدوء بمجرد أن انفصلنا عنه بدأت أرى الابتسامة على محيا والدتي التي تحملت سنوات طويلة من الذل والإهانة من أجلنا. ولكنني لم اتخلص من تأثير سنوات الضرب والإهانة التي عشت على وقعها أكثر من ثلاثين سنة. لم أستطع أن أقيم أي علاقة ناجحة مع أي رجل، يحدوني دائمًا الخوف من الجنس الآخر. صورة أبي لا تتركني، يداه القاسية التي طالما عنفتنا، كلماته الجارحة، دماء أمي التي أسالها دون ندم تجعلني أخشى الارتباط وتجعلني أكره الرجال جميعًا -عدا جارنا الطيب الذي عاملني كواحدة من بناته.” –مليكة، 36، عاملة في معمل نسيج

 خسرت والدي، لكن غيري ربح والده
“كان والدي في طفولته راعيًا للغنم، لكنه اجتهد وتعلم ونال شهادة الإعدادية ليصبح موظفاً في مجتمع أُمي، وربما لهذا السبب ربما كان يشجعني -وأنا ابنه الأول والأكبر- أن أتعلم واجتهد. كنت الأول في المدرسة دائمًا، وكان والدي قدوتي الأولى، وحين اقترح علي دراسة الشريعة، وافقت طبعاً. ولكن عندما كبرت كنت أحلم بدراسة الهندسة خاصة أن مؤهلاتي العلمية كانت تسمح لي بذلك. رفض والدي ذلك، ولهذا تابعت دراسة الصف الأول الثانوي في المدرسة الشرعية مرغمًا، ورسبت فيه، وعندها تغير كل شيء. صار والدي عنيفًا وكان يدعي أنه يضربني لأجل مصلحتي. تخرجت من المدرسة رغمًا عن أنفي، وعملت خطيبًا في مسجد لأربع سنوات. 

ولكن هذا الوضع لم يستمر، قررت التخلي عن عائلتي وسافرت إلى لبنان وتمكنت من التسجيل في الجامعة، ودرست الترجمة الإنجليزية لثلاثة سنوات حتى اندلعت الثورة في سوريا وسافرت بعدها إلى تركيا. هناك كان لدي الوقت كي أقرأ بعيدًا عن كل أشكال التحزب ومحاولات احتكار الحقيقة وقتها ازداد الخلاف بيني وبين والدي حين عرف أنني لم أعد أؤمن بالدين. ازدادت المسافة بيننا وانقطعت العلاقة بيني وبين عائلتي. أعترف أنني أحياًنا أشعر وكأنني أقوم بمعاقبة والدي، إلا أنني لا أستخدم العنف ضده، بل أعاقبه بالهجران، على أمل أن يكون رحيماً بإخوتي. تخبرني والدتي أنه نادم على قسوته، وأنه الآن عطوف جداً على إخوتي وهذا يسعدني، لقد خسرت والدي، لكن غيري ربح والده.” – عبدالله، ٢٤، كاتب ومصور

-لم يرغب الأشخاص الذين تحدثت معهم بذكر اسمائهم الكاملة.